«زواج الكونترا» يهدد كرامة القاصرات ويؤرق الجهات الرسمية والمنظمات الحقوقية
لا يزال مرسوم وزارة العدل والحريات الموجّه الى رؤساء محاكم الاستئناف والوكلاء العامين ورؤساء المحاكم الابتدائية يواصل حضّهم على التصدي لما صار يعرف بـ «زواج الكونترا»، أي الزواج بالوكالة. فقد نبّه هذا المرسوم الذي مرت أشهر على إصداره، من أن أسراً مغربية أصبحت تلجأ إلى هذه الصيغة في تزويج بناتها القاصرات، من دون التقيد بالقوانين المنصوص عليها في الفصل 20 من مدونة الأسرة، مقابل اعتراف الزوج بأنه مدين لوالد الفتاة القاصر بمبلغ مالي في وثيقة عرفية.
ويسمح «زواج الكونترا» للأب بأن يطالب صهره بمبلغ مالي متفق عليه في العقد متى قرر الأخير التخلي عن ابنته. ويأتي «زواج الكونترا» كوسيلة للالتفاف على ما نصت عليه مدونة الأسرة التي تحظّر الزواج بفتاة دون الثامنة عشرة من عمرها.
واعتبر وزير العدل والحريات المغربي مصطفى الرميد أن هذا النوع من الزواج يمس بكرامة القاصرات وبحقوقهن الإنسانية، ويعادل جريمة الإتجار بالبشر.
عنف جنسي
كشف تقرير صادر أخيراً عن الشبكة الوطنية لمراكز الاستماع إلى النساء ضحايا العنف، أنّ العديد من الزوجات القاصرات يتعرّضن للعنف الجنسي في المقام الأول، ومن ثم العنف الجسدي، وأشار إلى ارتفاع عدد الزوجات القاصرات اللواتي تعرضن للعنف، بحيث أكدت مراكز الاستماع أن 28 في المئة من الحالات الواردة إليها قد تعرضت للعنف الجنسي، يليها العنف الاقتصادي (28 في المئة)، والعنف الجسدي (21 في المئة).
ولفت التقرير الى أن الزوجة القاصر غالباً ما تكون الحلقة الأضعف في دوامة عنف تنتهي بالطلاق أو بمأساة تصبح هي ضحيتها.
وفي السياق نفسه، كشفت جمعيات حقوقية مغربية عن معطيات صادمة تتعلق بتزويج القاصرات في المغرب في إطار حملة «ها علاش» التي أطلقتها للحد من العنف ضد النساء، مؤكدة تفشي «زواج الكونترا» الذي تعمد من خلاله عائلات كثيرة إلى بيع بناتها القاصرات لرجال لمدة زمنية محددة مقابل مبالغ مالية.
هذا الواقع دفع وزارة العدل والحريات للعمل على مواجهة ظاهرة «زواج الكونترا» التي انتشرت على نطاق واسع إعلامياً، فضلاً عن دخول جمعيات المجتمع المدني والجمعيات النسائية على الخط. وبغض النظر عن قيمة المرسوم الوزاري الذي صيغ في مرحلة ضاق فيها القضاء ذرعاً بتدخلات وزارة العدل، فإن هذا المرسوم يعزز تنامي الوعي الرسمي بخطورة هذه الظاهرة التي أصبحت تشكل تمييزاً قائماً على النوع الاجتماعي: إنه الرقيق الأبيض، وفق الناشطين الحقوقيين، الذي عاد بأبشع صوره في القرن الواحد والعشرين، بأشكال جديدة تخفي مظاهر استغلال بشع لفتيات مغلوبات على أمرهن، تعاني أسرهن العوز المادي، وتشكل من الناحية الحقوقية اعتداء على حقوق المرأة، إذ تغتصب حقوقها الإنسانية كفتاة صغيرة أولاً، لها الحق في اللعب والدراسة وعيش حياة حرة كريمة، مما يؤثر سلباً في شخصيتها ونفسيتها. وقد اعتبر المرسوم أن هذه الظاهرة تمس بكرامة القاصرات وبحقوقهن الانسانية، وتماثل جريمة الإتجار بالبشر وفق المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب.
تحايل على القانون
وإذا كان القانون وفق الباحث والعضو في نادي قضاة المغرب أنس سعدون يعتبر الزواج «ميثاق تراضٍ وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة، برعاية الزوجين طبقاً لأحكام المدونة»، فإن بعض الآباء تضطرهم أسبابهم الخاصة إلى تجاهل كل البنود التي نصت عليها مدونة الأسرة، فيعمدون إلى التحايل عليها من خلال تزويج فتياتهم القاصرات من طريق عقد زواج يخالف ما نصت عليه القوانين الشرعية.
ويضيف سعدون: «يعتبر «زواج الكونترا» شكلاً من أشكال الالتزام المدني، الذي يركز في أساسه على الانسان، وهو هنا الفتاة القاصر، إذ تعمد بعض الأسر المغربية إلى تزويج فتياتها القاصرات من دون التقيد بقانون يقضي بصدور حكم قضائي معلل، مكتفية بـ «زواج الفاتحة» مقابل إقرار الزوج بدين يستحق عليه لمصلحة ولي أمر الزوجة القاصر. ووفق هذا الإقرار، يستمتع الزوج بالزوجة القاصر خلال مدة معينة، وإذا قرر عدم الاستمرار في هذا الزواج، يُرجع الفتاة إلى عائلتها، ويدفع المبلغ المالي المتفَق عليه في العقد الى ولي أمر القاصر، والذي يتراوح ما بين 20 و 60 ألف درهم».
زواج الفاتحة
في بحث ميداني سابق أجرته الرابطة الديموقراطية لحقوق المرأة في ورزازات ويهدف الى التعرف على مضامين قانون الأسرة ومقتضيات الفصل 16 منه، والوقوف على أشكال الزواج السائدة، تبين وجود بعض الصعوبات التي تعرقل تفعيل المادة 16، منها ضعف حملات التوعية وإغفال مضامين مدونة الأسرة، إذ أكد ثلث المستجوبين عدم اطلاعهم عليها. وجاء في البحث أن نصف المستجوبين لا يعرفون أن هناك نصاً قانونياً في المدونة يستوجب التوثيق، فأجاب 13,83٪ منهم أنه لا يوجد نص قانوني. كما أظهر البحث استمرار الزواج من دون عقود، حيث صرح 35,83 ٪ من المستجوبين باستمرار الزواج العرفي من دون عقد. ومن ضمن 100 متزوج، صرح 28 ٪ بأنهم تزوجوا من دون عقد. كما تبين وجود حالات تسمح باستمرار ما يسمى بـ «زواج الفاتحة» حيث أكد 22,38 ٪ من الذكور بأنهم يفضلون الزواج من دون عقد و 5 ٪ من الإناث يحبذن بدورهن ذلك.
وتشكل عزلة بعض المناطق وبعدها عن المصالح الإدارية المختصة بتوثيق عقود الزواج وعدم وجود قضاء متحرك يعمل على تسهيل إلإجراءات الإدارية، عائقاً أمام توثيق الزواج بنسبة %30. هذا الواقع دفع الرابطة الديموقراطية إلى رفع مذكرة مطلبية تؤيد تمديد فترة قبول دعاوى ثبوت الزواج، لكن مع فرض عقوبات زجرية على «زواج القاصرات والتعدد».
وأحصت الرابطة الديموقراطية لحقوق المرأة عدداً من زيجات القاصرات التي تتم من طريق الزواج العرفي أو ما يسمى بـ «زواج الفاتحة»، كما أظهرت الجمعيات والبعض ممن يمارسون مهنة المحاماة كيف يتم التحايل بهذه المادة الواردة في مدونة الأسرة على مسألة تعدد الزوجات، والتي جعلت من منع التعدد القاعدة، وتشددت في شروط الإذن بتعدد الزوجات، لكنها سمحت بتوثيق علاقة الزواج بامرأة ثانية، خصوصاً عندما يكون هناك حمل، وبذلك يجرى الالتفاف على القانون لخرق حقوق الزوجة ولاستخدام هذا الفصل لغير غاياته وهي الحفاظ على حقوق الزوجة وحقوق الأطفال.
ارتفاع مستمر
في كلمة ألقاها في مؤتمر نظمته «جمعية عدالة» (غير حكومية)، وعُقد في الرباط أخيراً حول أهمية «التطبيق القضائي لمدونة الأسرة»، كشف وزير العدل والحريات المغربي مصطفى الرميد «أن زواج القاصرات (دون 18 عاماً) في تزايد مستمر، يقابله استقرار في نسب تعدد الزوجات، والطلاق».
وأضاف أن «الزواج عرف منحى تصاعدياً منذ دخول مدونة الأسرة (مجموع القوانين المتعلقة بالأسرة وأحكام الزواج والطلاق وغيرها) حيز التطبيق عام 2004. فبالمقارنة بين عدد عقود الزواج التي أًبرمت خلال تلك السنوات، يتضح أنها شهدت تزايداً مستمراً سنة بعد أخرى»، حيث ارتفع عددها من 236 ألفاً و574 خلال عام 2004 إلى 306 آلاف و533 زواجاً أبرم عام 2013.
وأوضح الرميد أن «هذا يرجع في الأساس إلى حملات التوعية بمقتضيات مدونة الأسرة، وإدراك المواطنين لأهمية توثيق عقود الزواج وتأثير ذلك في حفظ حقوق الزوجين والأطفال، بالإضافة إلى تسهيل الإجراءات القانونية للمواطنين».
أما في ما يتعلق بالطلاق، فأشار الرميد إلى أن مسألة الطلاق عرفت نوعاً من الاستقرار خلال السنوات العشر الأخيرة، إذ تراوحت حالاته بين أدنى معدل سجل عام 2010 بمجموع بلغ 22 ألفاً و452 حالة، وأعلى معدل سجل عام 2005 بمجموع بلغ 29 ألفاً و668 حالة طلاق.
وسجل الرميد في هذا الصدد ملاحظة مهمة تتمثل في تدنّي حالات الطلاق الرجعي مقابل ارتفاع عدد حالات الطلاق الاتفاقي (أي الودي بين الطرفين)، حيث شهد عام 2013 نحو 14 ألفاً و992 حالة طلاق اتفاقي، بما نسبته 59.46 في المئة من مجموع حالات الطلاق، مقابل عدد حالات الطلاق الرجعي الذي بلغ 1877 حالة، بما نسبته 7.44 في المئة من مجموع حالات الطلاق.
وفي ما يخص تعدد الزوجات فقد اشترط القانون المغربي حصول الزوج على إذن من زوجته للزواج بأخرى، وإذا رفضت فهي مخيرة بين البقاء على ذمته أو طلب التطليق.
واختتم الرميد كلامه مؤكداً «أن المحاكم استطاعت المحافظة على كيان 18 ألفاً و491 أسرة خلال سنة واحدة فقط. لكن رغم هذه النتائج التي لا بأس بها، فإن المحاكم تحتاج الى المزيد من الجهد والتطوير في آلياتها لتحقيق الأفضل».
جدل كبير
أُثير في المغرب أخيراً جدل كبير بخصوص زواج القاصرات وتعدد الزوجات، حيث حدد القانون المغربي سن الزواج بالنسبة الى الذكور والإناث في 18 سنة، واشترط الحصول على إذن من القاضي لتزويج الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و18 سنة، فيما حظر القانون على الفتيان الزواج قبل 18 سنة. وتطالب المنظمات النسائية المغربية، وبعض الأحزاب المعارضة، والائتلاف الحكومي أيضاً، بمنع زواج القاصرات وتجريمه، فيما يطالب حزب العدالة والتنمية (الحاكم) برفع السن التي بموجبها يأذن القاضي بزواج الفتيات، إلى 16 سنة بدلاً من 15 سنة، كما هو الحال عليه في مدونة الأسرة الحالية. أما في ما يخص تعدد الزوجات، فاشترط القانون المغربي في هذه الحالة حصول الزوج على إذن زوجته للزواج بأخرى، وإذا رفضت فهي مخيرة بين البقاء على ذمته أو طلب التطليق. وتطالب منظمات نسائية وحقوقية وأحزاب يسارية في المغرب بالإلغاء الكلي لتعدد الزوجات. كما عبرت جمعيات مدنية عن خشيتها من استمرار استغلال ثبوت الزوجية كغطاء لتوثيق زواج القاصرات، وتشريع تعدّد الزوجات بعيداً من الضوابط القانونية.
وتقول النائبة البرلمانية في فريق التقدم الديموقراطي، والوزيرة السابقة المكلفة شؤون المرأة والأسرة، نزهة الصقلي: «نؤيد مقترح قانون تمديد الفترة الانتقالية لسماع دعوى الزوجية لمدة خمس سنوات إضافية، لكن بشروط يجب إدخالها إلى المقترح، حتى لا يكون وسيلة للتحايل على القانون في ما يتعلق بتزويج القاصرات وتعدد الزوجات».
وينص المقترح الهادف إلى تعديل الفقرة الرابعة من المادة 16 من مدونة الأسرة على أن «يُعمل بسماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية لا تتعدى الـ 15 سنة، ابتداء من تاريخ دخول القانون حيز التنفيذ». ويسعى المغرب إلى طي هذا الملف نهائياً من أجل تحصين مؤسسة الزواج، وحماية حقوق الزوجة والأطفال، كالنفقة والحضانة والنسب والإرث، بتحديده لسماع دعوى الزوجية فترة انتقالية لا تتعدى الخمس سنوات منذ دخول مدونة الأسرة حيز التطبيق عام 2004، وهو ما لم يتحقق على مدار 10 سنوات استناداً إلى معطيات رسمية. وتفيد مصادر وزارة العدل والحريات بأن أحكام ثبوت الزوجية بلغت 23 ألفاً و57 حكماً عام 2013، و38 ألفاً و952 حكماً في 2012، مقابل 45 ألفاً و122 حكماً قضائياً عام 2011، فيما لم تتعدَّ القضايا المحكومة عام 2004 الـ 6918 حكماً.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024