تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

رحيل الغيطاني صاحب الموهبة الاستثنائية في تاريخ الثقافة العربية

بعدما قضى ما يقارب الشهرين في مستشفى الجلاء العسكري فاقداً الوعي، إثر تعرضه لأزمة قلبية دهمته أثناء نومه، فقدت مصر والعالم العربي واحداً من أهم كتّاب الرواية والقصة، والذي ترجمت أعماله إلى العديد من لغات العالم، وحصل على الكثير من الجوائز المصرية والعربية والعالمية، منها: أفضل كتاب مترجم من فرنسا عن كتابه «التجليات»، تقليده وسام فارس الفرنسي، جائزة الدولة التشجيعية والتقديرية، وأخيراً جائزة النيل في حزيران/يونيو الماضي، وقبلها جائزة سلطان العويس، وجائزة الشيخ زايد.


جمال الغيطاني ذو موهبة استثنائية في تاريخ الأدب والصحافة العربية، فقد لفت الأنظار إليه منذ صدور مجموعته القصصية الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، في 1969، وكانت سبباً مباشراً في دخوله مؤسسة «أخبار اليوم»، فعندما قرأها الناقد الراحل محمود أمين العالم، وكان وقتها رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة «أخبار اليوم»، عرض على الغيطاني أن يعمل صحافياً فيها، ووافق الغيطاني، واستمر بالعمل في هذه المؤسسة العريقة حتى وافته المنية.

وقد اختير الغيطاني لأداء العديد من المهمات الصحافية الصعبة، من ذلك عمله مراسلاً حربياً لجريدة «الأخبار» على الجبهة، فاستطاع أن ينقل نبضها إلى الشارع يوماً بعد يوم، ولم يتوان عن القيام بعمله حتى لو كلفه ذلك حياته، وبالفعل كان سيدفع الثمن غالياً، فذات يوم سمع بوجود قناص اسمه أحمد نوار، استطاع أن يقتنص العديد من أفراد العدو الإسرائيلي أثناء حرب الاستنزاف، فسعى إليه من أجل أن يجري معه حديثاً صحافياً، إلا أنه فوجئ أثناء الطريق بهجوم العدو على السيارة التي كان يستقلها، ولولا فطنة قائد السيارة الذي تراجع الى الخلف لاستشهد الغيطاني ومن معه، لذا كان دائماً يردد جملة: «لم تعد مسألة النهاية أو الموت مخيفة بالنسبة إلي... فأنا حي الآن بالصدفة».

تمكن الغيطاني بقلمه من أن يسجل تاريخ حرب أكتوبر لحظة بلحظة، وكان أحد الذين عبروا القناة وسجلوا إنجازات الجيش المصري، لذا من المصادفة اللافتة أن يرحل بعد ساعات قليلة على تكريمه من جانب وزارة الثقافة المصرية، في الاحتفالية التي نُظمت بمناسبة الذكرى الـ 42 لحرب أكتوبر، وقد تسلّم درع تكريمه نجله الديبلوماسي محمد الغيطاني.

لقد خاض الراحل الكثير من المعارك الثقافية دفاعاً عن حرية التعبير والرأي، من خلال المنبر الثقافي الذي كان أول من تولى رئاسة تحريره، وهو جريدة «أخبار الأدب» الأسبوعية، أحد إصدارات مؤسسة «أخبار اليوم»، والتي صدر عددها الأول عام 1993، وظل رئيساً لتحريرها حتى 18 كانون الثاني/يناير2011، ومن خلالها اكتشف جيلاً من الأدباء الذين يحتلون اليوم الصفوف الأولى في المشهد الإبداعي المصري والعربي.

خلال مسيرته الإبداعية، شدّ الغيطاني أنظار النقاد إليه، ليس في مصر والعالم العربي فقط، وإنما في العالم أجمع، فقد كتب عن إحدى روائع الغيطاني «الزيني بركات»، الأديب الإسباني الكبير خوان غوتيسلو بترجمة الدكتور طلعت شاهين: «ظهور رواية «الزيني بركات»، الرواية الأولى للكاتب جمال الغيطاني، يمكن اعتباره اليوم حدثاً كبيراً، فهو تعبير أدبي لا يرتبط بتقاليع طليعية مفترضة، بل جاء كثمرة لامتزاج العناصر التي تشكل شيئاً فشيئاً العالم الهاجسي لرؤية قدرته الإبداعية المتسعة والحادة».

بدأ الراحل رحلته الإبداعية منذ منتصف الستينات من القرن الماضي، وكانت أول مجموعة قصصية له «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» وصدرت عام 1969، وتوالت أعماله: «أرض.. أرض»، «الزويل»، «الزيني بركات»، «الحصار من ثلاث جبهات»، «حكايات الغريب»، «ذكرى ما جرى»، «الرفاعي»، «خطط الغيطاني»، «رسائل البصائر في المصائر»، «حكايات المؤسسة»، «دفاتر التدوين»... وآخر مجموعاته القصصية صدرت مطلع هذا العام «على ضفة يمام»، فالغيطاني له أكثر من خمسين كتاباً تنوعت ما بين القصص والروايات والحكايات والشأن العام.

وبعد ساعات على رحيل الغيطاني، أقامت هيئة الكتّاب حفلة تأبين له - في يوم رحيله ذاته - بالتعاون مع الجمعية المصرية للنقد الأدبي، بحضور عدد من الكتاب والنقاد، تحدث فيها الدكتور صلاح فضل، الدكتور مصطفى الضبع، الدكتورة أماني فؤاد وأدارها الدكتور هيثم الحاج علي رئيس هيئة الكتاب، عن الجوانب المختلفة لعطاءات الغيطاني التي تنوعت ما بين الكتابة عن الحرب ومؤلفاته في التراث الإسلامي المصري الذي يبرز الهوية المصرية.

أما الدكتور صلاح فضل فقدم إطلالة واسعة لمشروع الغيطاني، قائلاً: «نفقد اليوم واحداً من بناة الأدب العربي الحديث ومن حاملي راية الإبداع بعد الجيل الرائد الأول. تردد كل صباح ومساء على كتب وأسفار ومجلدات في التراث القديم، والمدونات الحربية الكبرى، كتب مدونات التاريخ.
تغلب جمال الغيطاني على تجربة السجن المريرة من طريق حفظ التاريخ وابتكار أسلوب جديد للقص، وهو أسلوب المدونات، وكان يحاكي الأحداث باقتدار، وهذه نقطة أساسية، وكان هو المنطلق لأسلوب الغيطاني في المجال الأدبي. ويظهر هذا جلياً في كتاب «التجليات» الذي صدر في أجزاء ثلاثة، ونرى فيه روح الراحل الكبير وقصة المرحلة الناصرية بأكملها وقصة الحياة المصرية الدقيقة، وكل ذلك محفور بمنتهى السلاسة».

وأضاف فضل: «الكاتب الذي ينجح في القبض على الشخصية والسمات الأساسية المكونة لها، ويقبض على ذرات التاريخ ويجسد روح هذا الوطن وضميره الحقيقي، لا بد له من أن ينجح في تمثيل وطنه، وهو ما يظهر جلياً في كتابه «التجليات».

أما الدكتورة أماني فؤاد فقد تناولت جانب التصوف في أعمال الغيطاني قائلة: «هو ليس مثل المتصوفة العاديين، لكن عينه طوال الوقت على الواقع».
وعن كتاباته أوضحت: «أبرز علاقة البشر بالحجر، فمن خلال الحجر استطاع رسم التجليات الإبداعية، وكان يقف على كل المشاهد البسيطة، ومزج بين فنون الحضارات المختلفة، ونفض بإبداعه التراب عن هذا التراث ليبرز جمالياته، كما كان يستخرج شخصيات هامشية ليست في متن التاريخ، ويبدأ نسج هذه الشخصيات مثل شخصية الزيني بركات».

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079