تولوز المدينة الفرنسية الحاضنة لروح الشباب
تولوز، هذه المدينة الفرنسية وعاصمة منطقة وسط البيرينيه جنوب فرنسا، تستريح على ضفة نهر غارون بالقرب من الحدود الإسبانية. تُعرف بالمدينة الوردية بسبب أبنيتها المشيّدة بالآجر الوردي «التيراكوتا»، تكشف وجهها العصري من دون خجل، لتحضن بين صفحات جغرافيتها متاهات من الشوارع التاريخية المتشابكة والمتقاطعة حيث تحتشد أبنية ومعالم تدخلك في عوالم عصر النهضة بكل روائعه.
فهنا في زاوية كل شارع، وركن كل رواق معلم تاريخي ونبض حياة نهارًا وليلاً، ليبدو أنها مدينة الاحتفال فيها لا ينتهي.
ساحة الكابيتول
إنها أجمل وأكبر ساحة في تولوز، وتعتبر رمز المدينة وقلبها النابض. في عهد لويس الرابع عشر، طلبت مجموعة من أعضاء مجلس إدارة المدينة وتعرف بالـ Les Capitouls إذنًا من الملك بتدمير مجموعة من المنازل ليفتحوا ساحة في مقابل فندق المدينة.
عند وصولك إلى ساحة الكابيتول، سوف تدهشين بهذا المبنى العظيم في حجمه وهندسته المعمارية، فالأقواس المقابلة للمبنى يعلوها سقف خشبي بتجاويف رائعة ومزيّنة برسوم جدارية تنمّ عن إبداع في المعمار والهندسة.
فيما واجهة مبنى الكابيتول التي صمّمها غيوم كامّاس، تبدو متماثلة ومضللة في الوقت نفسه، إذ تخفي مجموعة من المباني أكثر قدمًا منها.
وتستحضر الأعمدة الثمانية التي تدعم الزخرفة الثلاثية الموجودة في أعلى مدخل الكابيتول أعضاء مجلس المدينة الثمانية الذين أداروا المدينة في العصر الوسيط، فيما غالبية الهندسة الداخلية تعود إلى القرن السابع عشر.
يسمح السلم الكبير بدرجات من الحجر بالدخول إلى قاعات الطبقة الأولى، حيث الجدران تجتاحها لوحات عظماء الفن.
وفي وسط واجهة مبنى الكابيتول الكبيرة شرفة تطل على فناء هنري الرابع. لا يمكن إلا أن تلاحظي المحراب الذي هو فوق البوابة، والذي يضم تمثال الملك هنري الرابع وهو مدرّع.
وعند عبورك بوابة هنري الرابع، سوف تجدين نفسك وسط ساحة شارل ديغول حيث يقف البرج المحصّن. في الطبقة الأرضية من هذا المبنى الضخم الذي يعود إلى القرن السادس عشر، يقع مكتب السياحة في تولوز، كان في ما مضى يستعمل صالة اجتماع للـ Capitouls.
ومظهر المبنى راهنًا هو نتيجة حملة أعمال الترميم التي قامت بها فيوليت لو دوك في أواخر القرن التاسع عشر. وكان أضيف إليه جرس مصمم بنمط فلمنكي فريد.
مساكن بأبعاد القصور
في تولوز، في منطقة جغرافية صغيرة وبمساحة محدودة بين ساحة الكابيتول شمالاً، وممرات Jules-Guesde جنوبًا، وممرات فرانسوا فيردير Francois- Verdier شرقًا، ونهر غارون غربًا، يقع أكثر من 70 فندقًا، بُنيت في القرن السادس عشر خلال فترة الازدهار واستفادت منطقة تولوز من وجودها.
وفي الرواية التاريخية أن عددًا من البرجوازيين المحليين جنوا ثروة من تجارة الصباغ الأزرق والأزرق الباستيل، وراحوا يتنافسون بشدة على الطلب من المهندسين المعماريين الأكثر شهرة في المدينة، منهم نيكولا باشولييه ولويس بريفات، بناء مساكن رائعة. من بين هذه البيوت، هناك خمسة عشر منزلاً يمكن تصنيفها قصورًا نظرًا إلى أبعادها الجمالية وترفها المعماري.
وفندقا بيرنوي و Assezat هما من أروع الأمثلة. إذ يظهر في نمطهما المعماري استعمال الحجارة الضخمة والمنحوتة في الغالب، وكذلك فخامة الهياكل وعتبات البيوت والسلالم، مما يوحي بأن المواد المستعملة فيها كانت باهظة الثمن، خصوصًا أن الحجر والطوب قد تزاوجا بطريقة متناغمة جدًا.
حكاية المسلخ الذي تحول متحفًا للفن المعاصر
عام 1828 أوكل إلى المهندس المعماري أوربان فيتري، الذي أصبح في ما بعد كبير مهندسي مدينة تولوز، مشروع بناء مبنى كبير على طول نهر غارون، الهدف منه جمع المسالخ المنتشرة في جميع أنحاء المدينة في مكان واحد.
واستمر هذا المبنى في عمله كمسلخ حتى عام 1989. ومن ثم تحوّل إلى متحف للفن المعاصر، افتتح عام 2000. وهو يستعمل بشكل أفضل الأحجام الكبيرة المعروضة في هذا المبنى النيو- الكلاسيكي الصناعي.
وكان لدى المهندسين المعماريين الحديثين الذين أعادوا ترميم المبنى همّ احترام أشكاله العالية والعقلانية والمساحات المفتوحة، ليشكل مكانًا قابلاً لاستقبال الأعمال الفنية الضخمة.
يفاجأ زائر هذا المتحف وأحيانًا يشعر بالصدمة أثناء التجوال فيه إذ يبدو له أنه يزور قصرًا، وليس أطلال مسلخ. فيجول بين منحوتات ولوحات معاصرة وأعمال سمعية-بصرية تدخله في عالم الفن المعاصر بكل تفاصيله.
يحتوي المتحف على مكتبة وقاعة للمطالعة حيث يمكنك أن تري جميع أنواع الكتب عن تاريخ الفن والمحفوظات السمعية البصرية والأقراص المضغوطة.
قناة ميدي المائية
اعتبرت قناة ميدي خلال تشييدها في القرن السابع عشر، مشروع القرن، فشقّها على طول 240 كيلومترًا وتشييد 382 منشأة تطلّبا استخدام 12 ألف عامل واستغرق العمل فيها 20 عامًا. وقد كان الهدف منها ربط تولوز بالبحر الأبيض المتوسط، بالقرب من سيت Sete.
منذ العصور القديمة، كانت فكرة حفر قناة للملاحة تربط بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، وتسمح للتجارة البحرية بتجنب الإبحار من طريق إسبانيا، قد شغلت عقول القادة الفرنسيين. ولكن كان على سكان تولوز الانتظار حتى القرن السابع عشر حين قدّم المهندس، بيير بول ريكويت، إلى الملك لويس الرابع عشر مشروعًا مقنعًا.
ونجح في تحقيق إنجاز حلّ مشكلة إمدادات المياه في القناة من أعلى نقطة لها، عتبة نوروز Seuil Naurouze، في منتصف الطريق بين تولوز وسيت. ولفترة طويلة عرفت قناة ميدي ازدحام القوارب والمراكب المحمّلة بالبضائع، لتستريح راهنًا وتتحول إلى ميناء هادئ تتراقص فيه المراكب الشراعية.
انطلاقًا من مرفأ Embouchure، وعلى مقربة من نهر غارون، تحتضن قناة ميدي أقدم أحياء المدينة التي تستعرض جمال هندستها المعمارية الفريدة.
ومن ميناء سانت سوفير، حيث مسار معبّد وضيق يحظر على السيارات العبور فيه، بل وحدها الدراجات الهوائية تداعب ركابها نسائم نهر غارون، فيما يشكّل المعبر ملاذًا للمشاة الهاربين من زحمة المرور. والمفارقة أن ضفتي القناة تزدحمان بالناس خلال العطلة الأسبوعية.
مدينة الفضاء
تم إنشاء مدينة الفضاء عام 1997 من جانب البلدية والمركز الوطني للدراسات الفضائية. ومدينة الفضاء، ليست كالناسا الأميركية، بل هي في متناول الجميع.
هنا تتعرّفين إلى عالم الفضاء وتشاركين في العروض والألعاب التفاعلية، وتحلّقين في القبة السماوية العملاقة افتراضًا، في نماذج السفن أو المحطات الفضائية مثل الصاروخ آريان، وترصدين الفضاء عبر الأقمار الاصطناعية ERS، في محطة مير أو مركبة سويوز.
وفي صالة الانعكاس بالأبعاد الثلاثية، يمكنك مشاهدة الافلام التي تم تصويرها في الفضاء. هنا تدخلين في متاهات الفضاء الكوني تحلّقين بين النجوم بطريقة واقعية جدًا، فتدركين جمال الكون وتعقيدات نظامه... بدءًا من لحظة الانفجار الكبير حتى التطورات الحديثة في مجال استكشاف الفضاء. هنا في هذه المدينة يسكن كل تاريخ الكون كما نعرفه وكما اكتشفه الإنسان.
أسواق تولوز
ألوان الجنوب الغربي
من بين الأسواق الثلاثين الموجودة في تولوز، يحضن وسط المدينة أكثر من عشر أسواق، من بينها ثلاث تحت البهو.
المفارقة أن للأديب الفرنسي فيكتور هوغو سوقًا موجودة في القاعة الحديثة، وقد تظن الواحدة منا أنها سوق للكتب والأعمال الأدبية، ولكنها سوق تقدم المنتجات الغذائية فقط، مثل ساحة الكرملية place de Carmes، وسان سيبريان.
فيما تنتشر في ساحة الكابيتول الأسواق الملوّنة وتعرض كل شيء ما عدا الطعام. هنا، تحت المظلات، يعرض الباعة من ساحل العاج والسنغال على بسطاتهم الحليّ الإفريقية المشغولة يدويًا، تُباع إلى جانبهم الأسطوانات الغنائية، وقطع الزينة المنزلية، والملابس المزركشة.
وتكرّس عطلة نهاية الأسبوع، صباحي السبت والأحد، في سانت سيرينا لسوق البرغوث التقليدي. وفي نهاية عطلة الأسبوع الأول من كل شهر، يجتمع في مرأب ممرات Jules Guesde تجّار الخردة، لتبادل قطع الأثاث الكبيرة والتحف الفنية القديمة.
وفي الحي نفسه، يستولي باعة الكتب يوم السبت على ساحة سانت اتيان، في حين يستولي تجار الكتب القديمة نهار الخميس على ساحة أرنو برنار Arnaud- Bernard. وفي المربع نفسه، يعرض صباح السبت باعة الفواكه والخضروات والدواجن، منتجاتهم. فيما يخصص شارع جاتيه آرنول لبيع النباتات الطبية والعطرية صباح الأحد.
تولوز مدينة الاحتفالات
لا تكترث تولوز لبرودة فصل الشتاء الذي يفشل في تهدئة أجواء الاحتفالات، فثلث سكانها تتراوح أعمارهم بين 18-29 عامًا. وفقًا لمجلة «الطالب»، فإن تولوز تحتل المرتبة الأولى من بين المدن المفضّلة لديهم، فبعض شوارع تولوز تبدو كأنها مخصصة فقط للشباب.
ومن بينها شارع Colombette بمطاعمه ونواديه الليلية، وشارع جامبيتا حيث تصطف المتاجر والمقاهي الصغيرة، وشارع تاور الذي يضم عددًا كبيرًا من مطاعم الوجبات السريعة.
فيما شارع سان روما تجتاحه يوميًا آلاف الحشود من الشابات اللواتي يجدن في محلات الأزياء والمجوهرات والأكسسوارات ملاذهن في التسوّق بأسعار معقولة.
وعند بروز طيف أشعة الشمس الشتوية، يغزو المئات من الشبان والشابات أرصفة الميناء والمتنزهات الخضراء على طول كورنيش هنري مارتن، للاسترخاء، فيقدم بعضهم عروض سيرك أو يعزف الموسيقى. هذا الاجتياح الشبابي مردّه الى أن تولوز هي المدينة الثالثة في فرنسا بعد باريس وليون، لجهة استقبالها طلابًا من كل أنحاء العالم الفرانكوفوني، إذ إن أكثر من 90 ألف طالب وطالبة سنويًا تجذبهم جامعة تولوز وكليات الهندسة فيها.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024