تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

كوبنهاغن المدينة التي تعيش بروح التاريخ بكل تفاصيله

ليس أجمل من أن تزور الواحدة منا مدنًا تحضن في ثنايا أروقتها كل معالم الجمال الطبيعي والإنساني، فتعيش أيامًا من الرخاء لا حدود له سوى الزمن الأرضي الذي يوقظنا من أجمل لحظاته، ربما لنخزّن في ذاكرتنا صورًا انفلتت من قبضته.
وكوبنهاغن عاصمة الدنمارك مدينة تنبض جمالاً وتتنفس فرحًا لا يخضع لحسابات الزمن وأوهامه. تستلقي كوبنهاغن على بحر البلطيق تتأمله بوجهها الإنساني الذي لا تجرؤ مساحيق العصر على تغيير ملامحه الجميلة، وتغسله بمياه باردة لتقضي على تجاعيد الزمن، وتجفّفه بنسائم الشمال الأوروبي الصباحية، لتبقى حسناء جميلة تبدأ نهارها مبتسمة لمن يلاقيها.
ليس عجابًا أن يخرج منها الفيلسوف الوجودي سورين كيركغارد، والعالم الفيزيائي والكيميائي هانز كريستيان أورستيد صاحب قانون أورسيتد ومكتشف الألومنيوم، والذي اكتشف أيضًا أن التيارات الكهربائية تولد مجالات مغناطسية.
أما أديبها هانز كريستيان أندرسون، فقد حملنا إلى عالم قصص الخيال مع «الحورية الصغيرة» The Little Mermaid، إلى عالم افتراضي رائع يشبه أعماق البحر الذي عاشت فيه الحورية الصغيرة التي أرادت أن تتعرف إلى عالم اليابسة بعدما وقعت في غرام أمير أُنسي، وملكة الثلج The Snow Queen التي أقحمتنا في تفاصيل الصراع الأبدي بين الخير والشر.


توقّعي تجوالاً في عوالم لا متناهية من الجمال المعماري
وكوبنهاغن التي تعيش بروح التاريخ المتناثر بأبّهة في أرجائها، وكأنه يرفض الرحيل عنها، هي العاصمة الأكثر كوزموبوليتانية بين عواصم البلاد الاسكندينافية، بمرفئها المديني المسالم، والثقافة والحفاوة اللتين تستقبل بهما زوّارها.
تحتضن المتاحف وغاليريات الفن، وتنتشر بين شرايينها شوارع تاريخية وأحياء ساحرة حيث يصبح التجوال بينها تجوالاً في عوالم لا متناهية من الجمال المعماري والطبيعي.
ولكن هنا حيث المدينة الملكية التي تتفوق على المخيلة والافتراض تزاوج فيها العصر والتاريخ، فإذا كانت المنازل ذات النمط المعماري المتميز بالجدار المستدق تعود إلى القرن السابع عشر، فإنّ الساحات المرصوفة بالحجارة، والقنوات والسهام النحاسية المخضوضرة تحدّد مفهوم الجمال والهندسة المعمارية الأصيلة والميول المعاصرة التي تظهر في كل تفاصيل المدينة.

حدائق تيفولي نزهة في عوالم الافتراض في قصص الخيال
حدائق تيفولي. وهو أوّل متنزه في العالم يعود تاريخه إلى عام 1843 عندما طلب ملك الدنمارك كريستيان الثامن من المهندس جورج كارستنسين تنفيذ متنزّه.
لقد أراد ملك ذلك الزمن أن يجعل لأهل كوبنهاغن متنفسًا يمضون فيه ساعات فراغهم، وفي الوقت نفسه يبعدهم عن السياسة. فقد كان يؤمن بالمقولة الرومانية التي تقول: «عندما يشعر الشعب بمتعة الحياة ينسى السياسة». وربما كان إصراره على أن يكون متنزّهًا يستحضر قصص الأطفال الخيالية، أساسه أن يعيش الزائر في عالم افتراضي حيث كل شيء جميل وهادئ، بعيدًا عن فذلكة السياسة والسياسيين. يمتد المتنزّه على مساحة 82,717 مترًا مربعًا، وكل ركن فيه يأخذك إلى مدينة خيالية.
هنا تتعرّفين إلى سحر الشرق الأقصى بألوانه وزخرفاته التي تجسّدت في حديقة يابانية مستلقية على بحيرة صناعية، يجاورها برج لهيكل صيني.
وفي المسرح الإيمائي قد ترهبك الوجوه المقنّعة التي لا تخرج منها الكلمات، ولكن حركة الأجساد بليغة لتفهمي ما لم تقله الأفواه. وفي التاريخ أنّ الرومان هم أول من ابتدع المسرح الإيمائي لينتقدوا الكهنة، لكن المسرح هنا وحكاياته مستوحاة من سحر الصين.
وأمام قصر «ألف ليلة وليلة» تستعيدين حكاية الملك شهريار والأميرة شهرزاد وقصصها التي لا تنتهي، لتتسرب إلى أنفك ومن ثم معدتك روائح الطعام المغربي الحرّيفة تنبعث من مطعم نيمب، تتناولين غداءك ثم ترتشفين الشاي المغربي وأنت تتأملين الشمس، وهي تعلن بخيوطها الذهبية عن انتهاء النهار، لتتألق خطوط فضية تنثرها الأضواء وتتحوّل الحديقة إلى مهرجان أنوار تنبثق من كل الزوايا محتفلة بزوارها الذين لا يغادرونها إلا عند ساعات الفجر الأولى.
للاستعلام عن مواقيت الدخول إلى حدائق تيفولي: www.tivoli.dk

برج رونديتارن Rundetarn أو البرج الدائري
عند أسفل منحدر حلزوني معبّد، تبدئين الصعود نحو قمة هذا البرج الدائري المغلف بالآجر الأحمر، والذي يبلغ ارتفاعه 34 مترًا، وتتبعين خطى كريستيان الرابع ملك الدنمارك الشهير في عصر النهضة الذي بنى هذا البرج عام 1642، وهرولة حصان القيصر الروسي بطرس الكبير وزوجته الإمبراطورة كاثرين الأولى، وهما يصعدان بعربة الخيل نحو قمة البرج للاستمتاع بجمال كوبنهاغن عام 1716. ومنذ ذلك الوقت، صار كل من يزور كوبنهاغن يرغب في صعود إمبراطوري.
شيّد كريستيان الرابع البرج الدائري بشكل متصل بكنيسة ترينيتا، ليستخدمه العالم الفلكي الشهير Tycho Brahe، وبقي البرج إلى اليوم منصّة مراقبة النجوم، وبرج المراقبة الأقدم الذي لا يزال يعمل في أوروبا.
كتبت على الواجهة الخارجية مخطوطة تذكارية. وفي الجزء العلوي للبوابة الحديدية، حفرت أحرف RFP التي ترمز إلى شعار كريستيان الرابع Regna Firmat Pietas، أي «الورع يقوّي العهود». وعند منتصف الطريق للسلم الحلزوني، توجد صالة تستقبل معارض الفن المعاصر والمعمار.

كريستيانيا Christiania عرين الرسم الغرافيتي
بعد 37 عامًا من المقاومة والمجتمع البديل الأكثر شهرة في أوروبا، خضع شيوخ كريستيانيا وصدّقوا في أيلول/ سبتمبر عام 2007، على معاهدة التنازل عن أراضيهم للحكومة مدة عشر سنوات. ويرسم هذا الاتفاق نهاية ما كان يعرف بـ «البلدة الحرة» التي خلف جدران بيوتها المغطاة بالفن الغرافيتي بقيت مستقلة عن الدنمارك والاتحاد الأوروبي والمجتمع المحلي منذ ما يقرب من أربعين عامًا.
إذا كانت أيامها معدودة، فإنّ هذه البلدة الأطويوبية التي تفور بالفن من هنا وهناك، تبقى زيارتها من أكثر التجارب الاستثنائية في كوبنهاغن.
فهي تضم مزيجًا من السكان المتناقضي الهوّية والرواد في الفن ومعارضي الفن المثقل بالمبادئ... إنهم حرفيون، وبيئيون وقدامى الهبيز. يظهر كل هذا في البيوت والرسوم الغرافيتية التي تزيّن جدرانها بأشكال وألوان تدخل البهجة وتثير الرغبة في حمل فرشاة ووضع بصمة لمزاجك الفني.
عام 1971، وُصف النشطاء الذين أسّسوا مجتمع البلدة الحرّة باحتلالهم ثكنة مهجورة في قلب كريستيانيا، بأنهم مجموعة طفيليين. ولكن هذه الأيام، أصبحت أفكارهم المتطرفة في إعادة التدوير، والأغذية العضوية، مفاهيم عالمية ينادي بها معظم سكّان الأرض.
هكذا هي المفاهيم نرفضها في البداية وننفر منها ثم نجدنا نتبنّاها، وتبقى هذه البلدة صامدة رغم أن بعض أثرياء كوبنهاغن يرغبون في تدميرها والاستفادة من موقعها الرائع على ضفّة القنال.
كل ركن وممر في هذه القرية يدخلك في عالم من الفن مغلف بجو رائع أقرب إلى السريالية، فتشعرين بأنك دخلت إلى سيرك فوضوي، ومعرض معماري مرتجل، وواحة حضرية. تعبرين ممرات غريبة لتجدي نفسك وسط أطلال ثكنات القرن الثامن عشر، ومساكن موقتة ارتدت جدرانها الخارجية الغرافيتي الذي يعكس روح ساكينها.
هنا عربة تحوّلت إلى هرم، وأخرى موجودة عند الواجهة البحرية تطل على الأسوار القديمة. تكملين المسير لتجدي نفسك في ممر تنتشر فيه البوتيكات وورشات الحرفيين، ومقاهٍ ومطاعم، من بينها المطاعم التي تقدم الأطباق النباتية فقط مثل Morgenstedet و Le Lopen، وصالة المهرجانات الأسطورية.

روزنبورغ سلوت Rosenborg Slot
بأبراجه وخنادقه، يبدو قصر روزنبورغ أنه قد خرج توًّا من إحدى قصص الخيال. فهذا المعلم الذي يعود إلى القرن السابع عشر، كان يقع بعيدًا من المدينة، وكان مكتب الجناح الملكي خلال الصيف.
ومع مرور الزمن، أصبح رائعة معمارية من روائع عصر النهضة. وراهنًا يحتفظ القصر بمجموعة مذهلة من القطع الفنية والأثاث الملكي، فيما تستريح في الطبقة السفلية جواهر التاج الملكي.
بدأ كريستيان الرابع الذي عرف بـ «ملك الشمس» الدنماركي بتحويل قصر روزنبورغ عام 1606 إلى مقر الإقامة الصيفية للعائلة الملكية، إلى أن اعتلى فريدريك الرابع عرش الدنمارك، في بداية القرن الثامن عشر، وبنى فردنيسبورغ سلوت Fredensborg Slot في وسط سيلاند Sjaelland.
الجولة في داخل القصر تدخلك في عالم الملوك، بكل يومياته وترفه، فالأجنحة الأربعة والعشرون لا تزال على سيرتها الأولى كما كانت في مختلف الحقبات، إن من حيث الأثاث، أو لوحات البورتريه التي تصوّر ثلاثة قرون من تاريخ الدنمارك الملكي حتى القرن التاسع عشر.
ولكن تبقى الطبقة السفلية مثيرة لاهتمام الزوار وهي تعرض جواهر التاج الملكي، تاج كريستيان الرابع، وسيف كريستيان الثالث المرصّع بالأحجار الكريمة، وعددًا من الماسات وأحجار الزمرد التي تعود إلى الملكة الحالية مارغريت الثانية.
يطل القصر على حديقة Kongens Have، أي حديقة الملك، وهي متنزه أنيق يحلو للكثيرين الاستراحة فيه أو تمضية نهار كامل يتنعمون ببعض الرفاهية الملكية.

نوربرو Norrebro وتنافس جميل
يتنافس راهنًا حيّان على مكانتهما في كوبنهاغن، فيستربرو Vesterbro ونوربرو Norrebro. فرغم أن حي فيستربرو يضم المتاجر والحانات المدهشة، فضلاً عن الملاهي الليلية، فإن حي نوربرو قد تجاوزه بجذب السياح والسكان المحليين في آن.
فهو حي سكني وتجاري، يمكن وصفه بحي كوزموبوليتاني مكتظ بالسكان، الحياة الليلية فيه مفعمة بالحيوية. يقع الى الشمال من وسط المدينة، وراء البحيرات الضحلة الجميلة، بني في القرن الثامن عشر ليكون سدًا أمام الحرائق.
ونوربرو يعني «الجسر الشمالي» سمّي على اسم جسر فوق البحيرات المؤدية إلى شارع التسوّق الرئيسي في الحي. على طول الطريق، وفي طريقك إلى الحي، لا بد لك من أن تعبري بالقرب من Assistens Kirkegard المقبرة التي دفن فيها العديد من الفنانين والكتّاب والمفكرين والسياسيين الدنماركيين.
في حي نوربرو سوف تطلقين لميزانيتك العنان لتسوّق كل ما ترغبين، فهنا على كلا الجانبين تمتد شوارع ساحرة مثل Blagardsgade بمدرّجاته ومطاعمه، وElmegade، حيث المقاهي العصرية وبوتيكات دور الأزياء العالمية، فيما غرب Assistens Kirkegard وJaegersborggade يجذب المزيد من المعارض الصغيرة والمحلات التجارية والمقاهي.
ومع ذلك تبقى ساحة سانكت هانس Sankt Hans Torv، الساحة الأكثر جذبًا في نوربرو، إذ تحتشد فيها المقاهي التي تقدّم ما لذّ وطاب، وما عليك سوى خوض هذه المتاهة الكوبنهاغية لتعيشي نمط سكانها بكل طقوسه.

التصميم الدنماركي
في الدنمارك، وتحديدًا في كوبنهاغن، التصميم موجود في كل مكان. صحيح أن الإيطاليين يحبون الأرائك الجميلة، فيما يعلّق الفرنسيون أهمية كبيرة على الموضة، فإن التصميم في الدنمارك هاجس حقيقي.
فبمجرد ملامسة شوكة طعام، يتساءل الدنماركي عمن صمّمها ويعطي درجة من أصل عشر على شكلها ووظيفتها. كل بيت لديه نظام السلسلة الدنماركية ماركة Bang & Olufsen في غرفة المعيشة، ومصابيح سقف من ماركة هيننغسن بول، وكراسي آرني جاكوبسن أو على الأقل نسخة عنها في غرفة الطعام، وفي المطبخ الأواني الزجاجية BODUM.
يحتفل هذا الهوس الوطني في مركز التصميم DANSK، ويقع في شارع HC Andersens، على الجانب الآخر من تيفولي. وليثبت الدنماركيون أنهم ليسوا شوفينيين، يخصص المركز عادة الطبقة الأرضية لأعمال المصممين العالميين، فيما الطبقة السفلية حجزت للمصممين الدنماركيين.

سندويتش سموربرود Smorrebrod        
كما هو الحال في جميع البلدان الغربية، غيرت السوشي والسندويتشات كثيرًا في العادات الاستهلاكية للدنماركيين. ومع ذلك، فإن لدى الدنماركيين انحيازًا كبيرًا الى سندويش الغداء المعروف باسم Smorrebrod. إذ تجده في كل مقاهي المدينة ومطاعمها وعلى واجهات محلات السناك. لذا لا يجوز تفويت هذا السندويتش.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079