تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

فردوس أتاسي: في سورية نشمّ رائحة الحياة

كثيرة هي الأعمال التي حُفرت في الذاكرة وكان مخرجها فردوس أتاسي، من «الملاك الثائر» الذي تناول فيه حياة أحد كبار رجال الفكر وهو جبران خليل جبران، إلى «المحكوم» الذي سلّط الضوء على حياة الخارجين من السجن ونظرة المجتمع إليهم، وتكرّ السبحة لتسجل الكثير الكثير: «العروس»، «الدروب الضيقة»، «ثلوج الصيف»، «ياقوت الحموي»، «أحلام منتصف الليل»، «الطبيبة...». يذكر أنه سبق أن شغل منصب رئيس دائرة المخرجين في التلفزيون السوري وهو حاصل على ماجستير في الإخراج من أكاديمية الفنون في براغ.
يعود اليوم المخرج فردوس أتاسي من خلال مسلسل «وطن حاف» الذي تناول الأزمة السورية من منظار خاص تمتزج فيه الكوميديا مع التراجيديا عبر حلقات منفصلة لتشكل كل حلقة منه فيلماً كاملاً يحكي أحد فصول الألم في إطار اجتماعي وإنساني شفاف... العمل كتب نصه كميل نصراوي وتقاسم إخراجه فردوس أتاسي مع المهند قطيش مناصفة فأخرج كل منهما خمس عشرة حلقة.
حول خصوصية مسلسله الجديد وآلية العمل والتصوير في ظل الظروف الراهنة في سورية، وحول شؤون فنية أخرى كان لنا معه هذا اللقاء.


وقفة مُحارب... درامياً

- قلة الأعمال المُنتجة مقارنة بالأعوام السابقة، إلى أي مدى أرخت بظلالها على الدراما السورية في رمضان؟
هي وقفة محارب ما بين فترتين ليفكر خلالها صناع الدراما أين كانوا وإلى أين سيذهبون وكيف؟ وماذا سيقدّمون؟ فالفنان السوري إنسان نابض بالحياة، وهو «فني» أكثر من كونه «مادياً»، عندما انجزنا دراما وأوصلناها إلى هذا النجاح لم يكن ذلك من أجل المال، وإنما كنا نعمل بقصد إنجاز شيء مهم.
كما أن المشاهد السوري تعوّد منذ ستينات القرن الماضي على كتّاب مثل محمد الماغوط وزكريا تامر وعبد العزيز هلال.
صنعوا الدراما في البدايات وتركوا بصمة أدبية وأنتجوا دراما حقيقية، وانعكست ذائقة لدى المشاهد السوري فبات لا يعجبه العجب.
لذلك عندما تتكلم مع مشاهد سوري ينتقد لك الأعمال أفضل من أي ناقد، وبالتالي ينبغي أن نكون على مستوى هذا الجمهور.

- هل يؤثر تصوير أعمال سورية خارج البلد سلباً أم إيجاباً على الدراما السورية؟
إن كنت تريد أن تقدّم عملاً بيئوياً سورياً فإن أي مكان تصوير في الخارج سيكون غير مقنع. فعندما قدّمت مسلسل «الوردة الأخيرة» عام 2005 اضطررت للذهاب إلى حلب كي أصوره مما كلف زيادة مالية في الإنتاج بسبب الإقامات، لأن حلب لها خصوصيتها، ومن غير الممكن القول إنّك تصوّر في بيت حلبي في حين أنك تصور في بيت شامي، فلكل منهما رائحته وخصوصيته، والسوق الحلبي مختلف عن السوق الشامي.
وبالتالي كيف يمكن أن تُقنع الناس بأنك تسير في شوارع الشام في حين أنك تصور عملك في مكان آخر خارجها؟ وهنا أذكر أن هناك مسلسلات تجري أحداثها في حلب أعيدت كتابتها كي تجري أحداثها في دمشق لتصور فيها، لأن دمشق لها خصوصيتها.


الأزمة السورية

- لامس مسلسلك الأحدث «وطن حاف» الأزمة السورية الحالية إجتماعياً وإنسانياً... فما حدود هذه الملامسة خاصة أنه كتب قبل ثلاث سنوات؟
عدلنا في الحلقات بما يتلاءم مع المجريات الحالية في سورية، فبدأنا نلامس الأزمة بأحداث جديدة لا تبتعد عن النص الأصلي ولكن تواكب الراهن. ومن الموضوعات التي طرحها العمل أزمة الإنسان من فقر وبطالة وغلاء، وهذا كله كان موجوداً قبل الأزمة واثناءها.

- ما يقارب السبع سنوات تفصل بين آخر عمل لك وعملك هذا العام، كيف تختار أعمالك؟
آخر مسلسل قدمته كان «جبران خليل جبران ـ الملاك الثائر» عام 2006 وأنجزت بعده عملاً خارج سورية عام 2009، وبالتالي مضى فترة لم أعمل فيها، وأنا لا يستهويني أي نص لأخرجه، فينبغي أن يكون للعمل خصوصية ويقدم متعة بصرية ومتعة فكرية وأن تشعر بأنه يحمل أفكاراً جديدة يمكن طرحها. وهذا ما أحاول التفتيش عنه في كل أعمالي.
أما في ما يتعلق بمسلسل «وطن حاف»، فقد وصلني قبل حوالي الثلاث سنوات نص للكاتب كميل نصراوي، وهو عبارة عن حلقات منفصلة تماماً عن بعضها، الجامع الوحيد بينها أنها كلها إجتماعية وتحوي حساً انسانياً عالي المستوى وتتحدث عن الطبقة الوسطى وما دون الوسطى، وهي الطبقة التي لا تزال تبحث عن نفسها في المجتمع، كما أنها هي من يحرّك الخطوط الدرامية في أي مجتمع، وإلا فما الذي ستحكيه عن الطبقة الغنية؟ الترف والمخدرات والنساء وصراع الغني مع الفقير، وبالتالي عندما تريد رصد المشاعر الانسانية والمجتمع الحقيقي، فالطبقة الوسطى هي الأصدق.
لقد استهواني النص لأنه يتحدث عن هذه الطبقة ضمن إطار الكوميديا السوداء، مما يجعل المشاهد يضحك من قلبه وفي الوقت نفسه يشعر بالغصة والألم، وهو أمر مهم في الدراما لأنه الأكثر تأثيراً. وما يميز الكاتب أيضاً أنه قدم لقطات ذكية ضمن حوار أنيق ورشيق مما يشعرك بعمق العمل.


الألغام والبحث عن الجديد

- إلى أي مدى غاص العمل في العمق وسار بين الألغام؟
بطبيعتي أحب الأعمال الجديدة، فعندما قدّمت «مذكرات عائلية» فاجأت الناس بأن كل حلقة تعرض جديدة، وعندما أخرجت «المحكوم» قدّمت للمرة الأولى محكوماً خارجاً من السجن بطلاً لمسلسل، وفي «تمر حنة» قدّمت بطلاً متزوجاً ثلاث زوجات ويريد الرابعة، وفي الوقت نفسه تحدّثت عن علاقة سورية بالجزائر والثورة الجزائرية في الخمسينات.
وفي «الهروب إلى القمة» قدّمنا أحداث عام 1982 والعلاقات السورية اللبنانية وكيف احتضنت سورية اللبنانيين، فدائماً كنت أبحث عن الجديد.

- هل الألغام فيه رقابية؟ وما مستوى الجرأة فيه؟
لا على العكس، فالرقابة لم تحذف أية كلمة فيه، لكنه عمل جريء جداً على المستوى الاجتماعي.

- لم تعد الخشية اليوم من الرقابة التلفزيونية وإنما من الرقابة الإجتماعية، فكيف تتعامل مع هذا الأمر؟
هذا ما أخذناه في الاعتبار، فنحن لم نحسب حساب الرقابة وإنما المجتمع، فعلينا أن نقدّم له الجديد الذي يمسّه حقيقة، نضحكه ونبكيه، ونشعره بأن الأزمة لم تأت من فراغ.

- ما وجه الشبه بين «وطن حاف» ومسلسلات اللوحات الأخرى؟
هو لا يشبه «مرايا» أو «بقعة ضوء» أو «مذكرات عائلية»... لا بل هو بعيد عنها كل البعد، وهنا سره.


صعوبات العمل

- وسط الظروف الحالية هل واجهت صعوبات على مستوى انتقاء الممثلين؟
لدينا ممثلون جيدون وقد تعاونا مع مجموعة كبيرة منهم، ولكن مشاركة الممثل في أكثر من حلقة لا تعني أن هناك تكراراً أو تشابهاً، رغم أنني كنت أفضل أن آخذ خمسة عشر بطلاً وخمس عشرة بطلة، ولكني مضطر أن أكرر الممثلين لأن هناك العديد من نجومنا خارج سورية، كما أن هناك أكثر من مسلسل يتم تصويره حالياً داخل سورية وخارجها، وأنا لم أرد السفر خارج سورية أو خارج دمشق لخصوصية العمل، لأنني أؤمن بأننا أبدعنا كسوريين في الدراما حين صورنا في الأماكن الطبيعية حيث نشم رائحة الحياة.
فلا يمكن أن تصور الشام في طرطوس أو بيروت أو دبي، لأنك لن تشم رائحة الحياة الدمشقية فيها، وأرى أن رائحة الشام ظهرت في مسلسل «وطن حاف».

- لدى العودة إلى أعمالك السابقة نجد أنه كان معك في «الملاك الثائر» جهاد سعد وسوزان نجم الدين وغسان مسعود. ولعب بطولة «المحكوم» جمال سليمان. ولكن أين نجوم الصف الأول في «وطن حاف»؟
هناك أعمال لا تحتاج إلى نجوم، وعموماً، كما سبق أن برز نجوم يمكن اليوم أن يبرز نجوم جدد، فالمهم ان تنتقي الممثل المناسب للشخصية. والطريقة التي أتبعها في عملي هي أن أتحدى الكاتب بأن أنجز مشهداً أجمل مما كتب، وأتحدى الممثل أن يمثل مشهداً أجمل مما
أُخرِج، وهنا تحدث العملية الإبداعية، فبمجرّد أنك وضعت الممثل في المكان المناسب بات هناك نوع من تحدي الذات لتبدع، وأنا أشتغل كثيراً على حس الممثل لكني أترك له حريته وعفويته، فأعطيه الإحساس الصحيح ليخرج كل ما بداخله ويقدّمه... وهنا تكمن مهارة المخرج.

- ما الصعوبات التي واجهتكم من حيث إيجاد أماكن التصوير المناسبة؟
صورنا ضمن الاماكن التي حددناها سابقا، وما يحدث أن الكاتب يتخيل المكان الذي يكتبه ولكن على أرض الواقع لا تستطيع تنفيذ المكان الذي يتخيله الكاتب أو المخرج تماماً، مما يجعلك تطوع خيالك وفق الواقع الذي تجده، فقد تتعب أثناء التفتيش عن المكان المناسب للتصوير ولكن تجد في النهاية الموقع الذي يلبي 80 في المئة مما تريد، ثم تأتي الإضافات كالديكور والأكسسوار فتزيد النسبة، وبالتالي تستطيع أن تتكيف وفق الوضع الموجود.
ولكن إن أردت التصوير في مكان مطابق لما تتخيّله تماماً فعندها ستضطر للتصوير ضمن مدينة سينمائية كما في أميركا وتنجز ديكورات بملايين الدولارات!


الكوميديا السوداء

- 15 حلقة لكل منها حكاياتها، فما الرابط بينها لتخرج ضمن إطار منسجم وتحت عنوان عريض هو «وطن حاف»؟
الخمس عشرة حلقة التي أخرجتها، أو بالأحرى الأفلام الثلاثون التي يتألف منها العمل، يجمعها رابط واحد هو المجتمع والإنسانية، والكوميديا السوداء التي فيها، فهناك إيقاعات مختلفة، وممثلون يشاركون في أكثر من حلقة ويقدّمون أكثر من شخصية.

- مخرجان في عمرين متباعدين يتصديان لإخراج مسلسل واحد مع فريقي عمل منفصلين... ألا يضعنا هذا الأمر أمام تنافس محتمل؟
هناك تكامل بيننا فنحن ننجز مسلسلاً واحداً ويهمني نجاحه كاملاً، وبالتالي يهمني أن أنجح في عملي بالمقدار نفسه الذي يهمني فيه نجاح المخرج مهند قطيش في عمله، ومن المؤكد أن لكل منا بصمته الخاصة ورؤيته الإخراجية، وهناك نوع من التنافس الفني يدفع كل منا لتقديم أفضل ما لديه.

- هل هناك نقاط مشتركة تم الاتفاق عليها بينكما حول العمل ككل لتكون قاسماً مشتركاً بين الحلقات؟
الموسيقى وشارة المسلسل، كما أن روح الكاتب بقيت مشتركة بيننا.


دلالات الـ «الحاف»

- ماذا عنيت بـ «وطن حاف»؟
ألا تحتاج «الخبزة» إلى لبنة وجبنة وحلاوة، أم هو خبز حاف فقط؟... هنا الوطن حاف.

- كيف تنظر إلى التعاون مع مؤسسة الإنتاج التلفزيوني والإذاعي؟
كنت سأنجز العمل مع شركة خاصة قبل سنتين، ولكن بعد الاحداث بات هناك العديد من المنتجين الذين يخشون من عملية الانتاج والبيع والتسويق، وقد ارتأت المؤسسة مساعدة المنتجين وإنجاز أعمال ضمن إطار الإنتاج المشترك.
وبعد قراءة العمل في المؤسسة تحمسوا له، وكان الخيار أن يكون من إنتاج مشترك بين المؤسسة والشركة الخاصة، ولكن في ما بعد حدثت إعاقة في الشراكة وانسحبت، فارتأت المؤسسة أن تنتجه وحدها.


السيرة الذاتية

- من أشد الأمور خطورة في الدراما التعرض للسير الذاتية، فكيف تم تناول حياة جبران خليل جبران في مسلسل «جبران خليل جبران ـ الملاك الثائر» الذي ما زال يُعاد عرضه على العديد من الفضائيات؟
حياة جبران خليل جبران غنية جداً، والجو الذي عاش لم يسبق تناوله بعمق وهي فترة الاحتلال العثماني للبلاد العربية أي قضية سفر برلك وهجرة الناس إلى أميركا ومساعدة الناس بعضهم لبعض هناك وآلية عيش السوريين في أميركا.

- إلى أي درجة ينبغي على هذه الأعمال أن تقارب الوثيقة من ناحية الشكل؟
لا أحد يستطيع أن يعرف ما دار في حقيقة الأمر من حوار بين أحمد شوقي وزوجته على سبيل المثال، لكن الكاتب والمخرج يسعيان لمقاربة الواقع.
وبالتالي عندما أصور مشهداً كهذا أدرس الشخصية التي أتناولها لأستطيع استنتاج أفعالها وانفعالاتها لتكون قريبة من الواقع.
عندما أقدم سيرة ذاتية ينبغي ألا أبتعد عن الواقع الحقيقي لهذا الشخص الذي يعرفه كل الناس، وجبران خليل جبران كل الناس تعرفه، ونحن سلطنا الضوء عبر المسلسل على العديد من الأمور، منها كيف عاش وكيف تطور وكيف وصل إلى هذه العبقرية؟ كيف ومتى تفتحت هذه المواهب؟ وحدث ذلك ضمن إطار درامي يشدّ المشاهد، فعندما تنجز دراما ينبغي أن يخترع خيال الكاتب شخصيات أخرى حتى يشدّ المشاهد.
وعلى سبيل المثال من يعرف علاقة جبران بوالده أكثر مما كتبه هو نفسه، هنا يتدخل الكاتب والمخرج في أن تكون هذه العلاقة أقرب ما يمكن من الحقيقة.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079