ظاهرة التسرّب المدرسي في سورية... قبل الحرب وبعدها
تفاقمت أزمة التعليم في سورية كأي أزمة أخرى وازدادت بشكل كبير نتيجة الظروف الراهنة. ومن المعلوم أن أي دولة تدخل في حالة حرب ترتفع فيها نسبة تسرب الطلاب من المدارس لعدم قدرتهم على الوصول إلى مقاعدهم الدراسية بسبب خطورة الطرق وتوتر الجو العام الذي لا يخلو من صاروخ هنا وقذيفة هناك، وأيضاً بسبب خوف الاهل على أولادهم فيفضلون بقاءهم في المنزل على خسارتهم بطريقة ما، إضافة الى ظاهرة النزوح الكبيرة من مناطق سكنهم وعدم توافر الظروف الملائمة لمتابعة تعليمهم، والحالة النفسية التي تلعب دوراً أساسياً في ترك عدد كبير من الطلاب مدارسهم والتوجه للبحث عن عمل ضمن طاقاتهم وإمكاناتهم وقدراتهم، وحتى القانون الإلزامي الذي كان يجبر الأهل على تدريس أولادهم الى مرحلة محددة غاب مع غياب الطلاب عن صفوفهم.
عن ظاهرة التسرب من المدارس، ومعدل ازديادها قبل الأزمة السورية وبعدها، وعن السبل التي يمكن أن تخفف من هذه الظاهرة وتحد من انتشارها... كان استطلاعنا التالي مع عدد من المدرّسين والمختصين في السلك التعليمي.
نغم عفوف: الطلاب المتسربون يشجعون أصدقاءهم على ترك المدرسة
تقول المدرّسة في المرحلة الإعدادية نغم عفوف «إن حالة التسرب موجودة في الوطن العربي ككل، وهي منتشرة قبل الأزمة في سورية، لكنها تفاقمت بعدها كثيراً وبشكل محزن تبعاً للظروف التي يمر بها الأهالي من تهجير وطرق عيش صعبة تؤثر في عقل الطالب فتشتته وتحول دون إكماله دراسته، فيضطر إلى التسرب بعد أن يكون قد قطع شوطاً كبيراً من الدراسة، فيقع الطالب فريسة الأوضاع النفسية والمادية المتردية. وتقف الظروف المعيشية الصعبة عائقاً أمام إكمال الطالب تعليمه، فكل ما كان قبل الأزمة أصبح أضعافاً مضاعفة بعدها، مما ساهم في تفاقم الوضع الاقتصادي والذي يؤثر بدوره في زيادة نسبة التسرب من المدارس. وبالنسبة إليّ كمدرّسة ذكور، هناك قليلون ممن يستطيعون التوفيق بين مدرستهم وعملهم، إلى أن تقودهم الحال الى ترك المدرسة لعدم القدرة على التنظيم».
وتضيف: «لكن لقمة العيش والعوز ليسا السبب الأهم في التسرب، فغالبية المتسربين من مدارسنا تكون ظروفهم المادية عادية، وفي المقابل لدي طلاب يعملون ويدرسون في الوقت نفسه، ويتحلّون بالإرادة القوية للاستمرار رغم الحرب وهم من المتفوقين بين زملائهم.
عنصر الأمان مفقود حالياً في بلادنا، لذا يفضل الكثير من الأهالي إبقاء أبنائهم في البيت على أن يعرّضهم خروجهم للتعلّم في المدرسة لمكروه، وهو خوف مشترك يسيطر على الأهالي والأبناء معاً.
وفي رأيي، يتحمل الأهل الجزء الأكبر من مشكلة التسرب، فكثير منهم لا يتابعون أولادهم، حتى أن هناك بعض الآباء لا يسجّلون أولادهم في المدرسة، لذا أشدد على تطبيق القانون الذي يعاقب الأهل على تسيّب أولادهم من المدارس، عندها ستنخفض نسبة التسرب بشكل كبير. ومن خلال عملي اليومي، أتفقد أعداد الطلاب يومياً، وأؤكد أن قانون منع التسرب غائب تماماً، فإذا مر 40 يوماً على تسرب الطالب وعاد بعدها، نعمل على تسجيله من جديد، مما يعني أن هذه القوانين غير صارمة، خاصة أن الطالب بات يدرك أن في إمكانه الرجوع إلى المدرسة في أي لحظة. ونتيجة تفاقم الأوضاع بعد الحرب السورية، جاءتنا أوامر من التربية بتسهيل أمور الطلاب إلى الحد الأقصى».
أما عن الطرق الواجب تطبيقها لمنع التسرب، فتؤكد نغم عفوف: «بصراحة، في ظل الأزمة، لا يوجد حل قطعي لمشكلة التسرب، لكننا نحاول جاهدين منعها، من خلال إخبار الأهالي بغياب الطالب لمدة تقارب الأسبوع، ونستدعي ولي الأمر.
وفي حال شعرنا بأن الحالة هي حالة تسرب، نتصل بذوي الطالب ونحاول إقناعه بالتراجع عن الموضوع وتقديم تسهيلات، وقد استطعت إرجاع بعض الطلاب إلى المدرسة بعدما قرروا التسرب، من دون أن أتمكن في المقابل من إرجاع البعض الآخر. فللمعلم والموجّه التربوي دور كبير في الحد من مشكلة التسرب، وأكثر ما يجذب الطالب هو الابتسامة، ومعاملته على أنه شخصية متفردة، وأضع في حسباني دائماً الظروف الاجتماعية الكارثية التي يتعرضون لها كخطف أحد ذويهم، أو موته بطريقة بشعة، فأعاملهم كأصدقاء، وغالباً ما ألقى تفاعلاً كبيراً من جانبهم. ويبقى التسرب السبب الأهم في انتشار الأمية، والخوف الأكبر يأتي عندما يتسرب بعض الطلاب ويشجعون بدورهم باقي أقرانهم على ترك المدرسة، وهنا تكمن المشكلة».
ابراهيم يوسف: التسرب هو تغيب الطالب عن المدرسة لمدة تتجاوز الـ 40 يوماً من دون عذر
يشير مدرّس اللغة العربية ابراهيم يوسف الى «أن التسرب هو عبارة عن تغيب الطالب لمده تتجاوز الـ 40 يوماً متسلسلاً من دون عذر. وقد ازداد التسرب بعد الازمه بشكل كبير خصوصاً من جانب الذين قدموا الى مدينتنا من مناطق اخرى ساخنه ولم يستطيعوا الاستمرار إما لظروفهم المعيشية الصعبة، أو لمعاناتهم النفسية بسبب الأوضاع المأسوية التي تمر بها البلاد، لذلك نراهم يتركون المدرسة ويتوجهون الى العمل تاركين وراءهم مقاعد دراسية شاغرة».
غياب قانون التعليم الإلزامي خلال الحرب السورية مهّد الطريق أمام التسرب
أما عن غياب الرقابة التربوية، فيضيف ابراهيم: «غياب الرقابة التربوية عامل أساسي في تسرب التلاميذ، ناهيك عن حالة الطالب النفسية في ظل الأزمة. كما تؤثر الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها الأسرة كثيراً في تسرب التلميذ، فضلاً عن فقدان المأوى والمكان الملائم للدراسة. وقد مهد غياب قانون التعليم الإلزامي في ظل الأزمة الطريق أمام التسرب.
وتتمثل الطرق الأساسية لمنع التسرب بإعادة الرقابة التربوية وقانون التعليم الإلزامي واتباع طرق الترغيب لجذب الطالب وتسهيل متطلبات المدرسة منه وبث روح المنافسة والتواصل مع ذوي الطلاب. ولضمان عودة الطالب إلى مدرسته حلول تقوم على ترغيبه بالدراسة من خلال إدخال مواد ترفيهية مشوقة وتسهيل المتطلبات المدرسية وتجهيز المدارس وتحسينها وقبول الطالب في المدرسة المجاورة له. والتسرب يضاعف عدد الأميين ويساهم في انتشار الأمية في المجتمع ويعيق خطوات التقدم والتطور ويفاقم البطالة والجهل بالوسائل التكنولوجية. كما أجبرت الظروف المعيشية الطالب على ترك المدرسة بغية العمل ومشاركة والديه تحمل المسؤولية، فهو في سن لا تسمح له بالتوفيق بين عمله ودراسته.»
جورج برشين: يترك التلميذ المدرسة لظروف خارجة عن إرادته
أما جورج برشين (مدرّس رياضيات) فيرى «أن التسرب كان موجوداً قبل الأحداث السورية، لكن نسبته ارتفعت بسبب عوامل عدة، أهمها التفكك الأسري الناتج من ارتفاع أعداد المهجرين وغياب رب الأسرة ومعيلها الوحيد في كثير من الحالات، مما يضطر الطالب للعمل في سن مبكرة، إضافة الى غلاء المعيشة وعدم قدرة الكثير من العائلات على تحمل نفقات التعليم وإن كانت رمزية في سورية مقارنة بغيرها من البلدان العربية، الى جانب خروج الكثير من المناطق الجغرافية عن سيطرة الدولة وعجز المدارس فيها عن القيام بدورها.
وفي ما يتعلق بالمدرّس فهو غير قادر على فعل شيء، فالطالب لا يتسرب حباً بالمدرسة أو كرهاً بالمدرّسين، بل لظروف خارجة عن إرادته. وحل مشكلة التسرب يتعلق بالوضع السوري بشكل عام، في ظل عدم تطبيق قانون التعليم الالزامي الذي يفرض على الطلاب التقيد بالدوام المدرسي، بحيث نلمس اليوم تساهلاً كبيراً في هذا المجال. والتسرب من المدراس يساهم في رفع نسبة الأمية، وهذه ظاهرة خطيرة في زمن التطور السريع والتكنولوجيا. وبالتأكيد يتحمل الأهل جزءاً من المسؤولية، لذا عليهم مراقبة أولادهم وحضّهم على التقيد بالدوام وتعزيز القيم الأخلاقية والعلمية لديهم».
سهى زينة: المشكلة مرتبطة بموضوع التهجير
تشير المرشدة والباحثة النفسية في سلوك الأطفال سهى زينة الى «أن ظاهرة التسرب شكلت مع بداية الأزمة مشكلة كبيرة وتركت تأثيراً سلبياً وكانت تتطلب من الحكومة حلاً سريعاً للحد من انتشار هذه الظاهرة التي برزت من خلال تهجير الناس من مساكنهم للإبقاء على حياتهم اولاً من دون التفكير بأسباب العيش الأخرى... ولكن مع مرور الوقت واستقرار العائلات في مناطق آمنة، انحسرت ظاهرة التسرب مع عودة الأطفال مجدداً الى مقاعدهم الدراسية. فالأزمة السورية دفعت الكثير من الطلاب الى ترك مدارسهم والبحث عن عمل بغية مساعدة ذويهم في تحمل تكاليف العيش.
كما يلعب المعلم دوراً مهماً، فهو يحمل رسالة تربوية تتضمن كل المعطيات والسبل لإنجاح عملية التدريس، وأبرزها التحفيز والترغيب. ويُفترض أن لكل مدرّس طريقة معينة في التدريس، فيستخدم وسائل تُرغّب الطالب بالدرس كالملصقات الملونة مثلاً.
ومن أهم واجبات المدرس الإنسانية أن تقوم علاقته بالتلاميذ على المحبة والتفاهم والاستيعاب وتحفيزهم نحو الأفضل وإحاطتهم بالرعاية والاهتمام».
وبالنسبة الى الظروف المالية والاجتماعية التي تؤثر في التسرب، تضيف سهى: «صراحة يمكننا جمع السببين لأنهما يساهمان في انتشار هذه الظاهرة. فمن الناحية المادية، يدفع تردي الوضع المادي بعض التلاميذ وهم في عمر الورود الى ترك مدارسهم للبحث عن عمل وكسب الرزق لمساعدة أهلهم في تحمل النفقات.
أما من الناحية الاجتماعية فقد تعرض الكثير من الطلاب للتشرد والتهجير ولاقوا ظروفاً لم يشهدوها من قبل، من حيث عدم انسجامهم مع المحيط الجديد أو حتى إيجاد مدرسة تؤويهم، فضلاً عن تعرضهم للضغوط النفسية نتيجة فقدان الاستقرار الاجتماعي والأمن والأمان».
والجدير ذكره ان الحرب السورية عرّضت أكثر من عشرة آلاف مدرسة للخراب والتدمير، وازداد بالتالي استيعاب المدارس في المناطق الآمنة ما يفوق الضعف.
ورغم أن قانون التسرب لا يزال سارياً، لكن توقف العمل به موقتاً نظراً الى الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد، على أن يكمل كل تلميذ متسرب تعليمه عندما تتسنى له الظروف المناسبة من دون تهجير أو تشرد والعيش ضمن المناطق الآمنة. وهنا يجب على الأهل إحضار أوراق ثبوتية من مديرية التربية ليقوم مختصون بوضع نماذج امتحانية مناسبة للصف الخاص بالطالب، فإن أجاب الطالب عن كل الأسئلة تقدّر علامته ونسبة ذكائه، فيتقدم صفاً أو يعيد الصف نفسه في المدرسة الجديدة، ونكون بذلك قد حافظنا على التلميذ في ظل رعاية المدرسة وإكمال تعليمه بشكل آمن، مع التقيد التام بالقانون.
الاستقرار هو الحل
والحل الجذري لهذه الظاهرة يكمن في عودة الاستقرار الكامل الى البلاد، وإن لم يتوافر هذا الحل، علينا العمل عليه بشكل جزئي، من خلال تأمين الاستقرار للعوائل المهجّرة ضمن المعقول، مادياً أو نفسياً أو اجتماعياً، بوضعهم في اماكن آمنة وتوفير جو هادئ للتلاميذ لتحفيزهم معنوياً، وإقامة نشاطات دائمة تنسيهم ما مروا به.
وبالنسبة الى المجتمع، يجب إقامة ندوات في المراكز الثقافية للأهالي لتعريفهم بهذه الظاهرة ومشاكلها وتأثيراتها السلبية وإعطائهم بعض الحلول لمساعدة أطفالهم على تقبل المدرسة والجو الاجتماعي الجديد. إضافة الى تشكيل فرق تطوعية وجمعيات تتكفل بمتابعة كل الأسر المهجرة وغير المهجرة، وتقوم بعمل إحصاءات كل فترة، وتكشف عن الطلاب المتسربين وتحاول إعادتهم إلى مدارسهم، وإن لم تتوافر المدارس فهناك مراكز الإيواء التي عيّن فيها متطوعون لتدريس الطلاب جميع المواد حتى تتسنى لهم فرصة الاستقرار المعيشي التام، واستكمال دراستهم ضمن المدارس العامة.
ولا بد من التركيز على تأثير الأسرة في سلوك الابن، سلباً أو إيجاباً، فلكل عائلة عاداتها وتقاليدها، وكثيراً ما نصادف أسراً غير متعلمة تدفع بأبنائها للابتعاد عن التعلّم وترسيخ فكرة سيئة عن المدرسة في أذهانهم، في مقابل أسر تحرص على تعليم أبنائها تحت أي ظرف تمر به. فالأمر يتعلق بالدرجة الأولى برؤية الأهل لمستقبل أولادهم. وبدورنا نقوم بتوعية هذه الأسر وإرشادها الى طريق الصواب، مبينين لها ما تخلّفه مشكلة تسرب الأطفال من المدارس من أمية وجهل يحولان دون تطور المجتمع وتقدمه.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024