أطفالنا في خطر، والسبب: كابوس التسرُّب المدرسي
أطفالنا في خطر. هذه هي الحقيقة التي تؤكدها الأرقام، والتي تثبت أن نِسَب التسرُّب من المدرسة في عدد من الأقطار العربية يشهد تزايداً مستمراً من عام إلى عام. وأبرز أسباب هذا التسرُّب الأوضاع الإقتصادية، وجهل الأهل لقيمة التعلُّم، واجتذاب سوق العمل لآلاف الأطفال العرب الذين يضطرّون للعمل بأجور رخيصة بسبب عجز الأهل عن تلبية احتياجاتهم. فمن المسؤول عن تفاقم هذه الظاهرة؟ الأسرة؟ أم المدرسة؟ أم المجتمع؟ وكيف نواجه هذه المشكلة التي باتت تشكّل كابوساً في معظم بلداننا؟ في هذا التحقيق تتعرّض «لها» لأزمة التسرُّب المدرسي، وأسبابها، والحلول المقترحة لها في مصر والسعودية وسورية.
كمال مغيث: الفتيات هن الأكثر تسرباً من التعليم
«أهم الأسباب التي تؤدي إلى التسرب من التعليم هي الظروف الاقتصادية»، هكذا بدأ الدكتور كمال مغيث، الخبير التربوي والباحث في المركز القومي للبحوث التربوية، حديثه عن قضية التسرب من التعليم، وأضاف: «لا أظن أن هناك مصرياً، سواء كان فقيراً أو من الفئات المتوسطة، أو حتى لو كان شخصاً غير متعلم، لا يرغب في تعليم أولاده وإدخالهم الى المدرسة، فهذا بالنسبة اليهم اختيار أول، أن يدخل أبناؤهم المدارس، بغض النظر عن مستواهم الفكري والثقافي».
يطرح الدكتور كمال الأرقام الحقيقية في شأن التسرب من التعليم، فالمدارس تستوعب حتى الآن نحو 95 في المئة من الأطفال، ونحو 5 في المئة فقط من الأطفال هم من يتسربون من التعليم، ويقول: «إذا قسّمنا الشعب المصري إلى فئات فسنجد أن الطبقات الغنية والمتوسطة والفقيرة تشكل نحو 90 في المئة من نسبة الشعب، بينما تصل نسبة الفئة التي تعيش تحت خط الفقر إلى 10 في المئة، وتلك الفئة لا يتجاوز دخلها اليومي أكثر من دولارين، والمشكلة الأساسية تكمن في الفئة التي تعيش تحت خط الفقر المدقع، لأن التسرب يأتي من تلك الفئة ويبلغ نحو 5 في المئة، ويمكننا التأكيد بأن تلك الفئة لا تفكر في أن يذهب أولادها إلى المدارس أبداً».
فئة السكان التي تعيش تحت خط الفقر المدقع – وفق الدكتور كمال - لها أيضاً أسبابها التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار إذ تمنعهم من إدخال أبنائهم إلى المدارس، ويضيف: «هناك بين العائلات من لا تستطيع شراء الزي المدرسي لأولادها، حتى وإن كان لا يتجاوز سعره الـ 150 جنيهاً، فهذا الرقم بالنسبة اليهم كبير.
أما السبب الآخر للتسرب من التعليم فيكمن في أن بعض المدارس تكون بعيدة عن البيوت، فيضطر الآباء والأمهات إلى التغاضي عن فكرة ذهاب أبنائهم إليها، بسبب بعد المسافة بين المنزل والمدرسة، والتي قد تتخطى في بعض الأماكن عشرات الكيلومترات. معضلة أخرى قد تواجهها الأسر التي تعيش تحت خط الفقر المدقع، وإن تغلبت على المشكلات السابقة، وهي مشكلة الاستمرار في الدراسة، فالظروف غير المستقرة التي تمر بها تلك الأسر بسبب وضعها المالي، تجعل استمرار أبنائهم في المدارس أمراً صعباً».
ويوضح: «لو استطاعت تلك الأسر مواجهة «الطلعة الأولى» - كما نطلق عليها في مصر - ويدخل الطفل المدرسة، فستظهر مشكلة ثانية، وهي أن احتياجات الأطفال الدورية من القرطاسية والأدوات المدرسية والملابس، بالإضافة إلى المصاريف لن تتوقف، ما يمثل ضغطاً على موازنة الأسرة الضعيفة من الأساس، فضلاً عن أن بعض المدارس تطلب تبرعات نقدية وتُجبر التلاميذ أحياناً على الحصول على دروس إضافية داخل المدرسة أو خارجها، ومن هنا يبدأ التسرب من التعليم».
الفتيات هن أكثر من يتعرضن للتسرب من التعليم مقارنة بالذكور، وفق رأي الدكتور الكمال، فالنظرة التقليدية الى الفتاة في الفئات الفقيرة هي أن دورها الأساسي يتلخص في القيام بالشؤون المنزلية، وبالتالي يكون هناك ضغط عليها لكي تنهي تعليمها مبكراً، لكي تساعد أمها في تحمل مسؤولية المنزل، وأحياناً قد تُجبر على ترك التعليم.
يرى الدكتور كمال أن المدرسين يشكلون آخر الأسباب التي تؤدي إلى التسرب من التعليم، وعلى عكس المتوقع فهم عوامل ثانوية، لأن الحمل الأكبر يقع على عاتق الأسرة وظروفها المادية، ويقول: «تقصير المدرّس وعدم قيامه بواجبه التعليمي على أكمل وجه، قد يكونان آخر الأسباب التي تؤدي إلى التسرب من التعليم، لأنها مشكلة يمكن التغلب عليها».
وعن مقاومة التسرب من التعليم، يؤكد الدكتور كمال: «لا بد من أن تقوم الدولة بدور غير تقليدي، وتقدم أفكاراً مبتكرة. عليها أن تبحث عن الفقراء الحقيقيين، ثم تقدم لهم كل الدعم المادي المطلوب لكي يستكملوا تعليمهم. وفي بعض الدول يقدمون قروضاً تعليمية تُسمى «القرض الحسن»، فمن حق الطالب الذي لا يتمكن من دفع مصاريف دراسته الحصول عليها وتسديدها وفق رغبته، حتى لو تطلب الأمر سنوات طويلة».
الأسلوب الآخر الذي على الدولة انتهاجه – وفق الدكتور كمال - يتمثل في تشجيع الجمعيات الأهلية على البحث عن المشردين والمتسربين من التعليم، لكي يتم تأهيلهم ومن ثم إعادتهم إلى المدارس من أجل استكمال تعليمهم، ويضيف: «من الضروري فعل ذلك للمتسربين حديثاً، لأنه لو مر على المتسرب من التعليم أكثر من عام، يصبح من الصعب عليه قانوناً استكمال دراسته أو العودة مجدداً إلى المدرسة».
الدكتور سالم الرفاعي: مقاومة التسرب من التعليم مسؤولية الجميع
أما الدكتور سالم الرفاعي، خبير المناهج والمواد التعليمية، فيرى أن عملية التسرب من التعليم معقدة، وهناك مجموعة من العوامل تتسبب في تلك المشكلة المخيفة، التي تهدد معظم الأنظمة التعليمية في العالم، وليس في مصر وحدها.
أول تلك العوامل – وفق الدكتور سالم – هو «الكثافة السكانية» الكبيرة التي تعانيها مصر حالياً، تليها كثافة الفصول وازدحامها، وهي نتيجة منطقية لفكرة الكثافة السكانية. أما العامل الثالث فهو العامل الاقتصادي، ويقول: «الحل الأساسي لمواجهة تلك المشكلة هو ما يسمى بالتعليم المجتمعي، فالدولة المصرية بذلت الكثير من الجهد في مواجهة تلك المشكلة، وتعد مدارس الفصل الواحد من ضمن الآليات التي ابتكرتها وزارة التربية والتعليم للمتسربين من التعليم».
ويشرح الدكتور سالم نظام مدرسة الفصل الواحد قائلاً: «هي عبارة عن فصل واحد، وفيها مناهج معدّة بشكل خاص للمتسربين من التعليم، والهدف إعادة الطالب الذي فاته التعليم في سن معينة إلى الدراسة، ولكن من خلال مدرّسين ومناهج وأساليب مختلفة في الشرح والتعليم».
السن القانونية للالتحاق بتلك المدارس - تبعاً لكلام الدكتور سالم - تبدأ من ست سنوات حتى 12 عاماً، أي من العام الأول الابتدائي حتى العام السادس الابتدائي، ويتم تقسيم الطلاب إلى فئتين: الأولى هي الأعوام الأول والثاني والثالث الابتدائي، وتشمل كتباً معينة للدراسة تختلف عن كتب الفئة الثانية، والتي تشمل الأعوام الرابع والخامس والسادس الابتدائي، والمدرسة يكون فيها ما يسمى الميسرة أي المعلمة التي تهتم بمراقبة أداء التلاميذ في تلك الفصول، والمنهج الذي يتم شرحه في مدرسة الفصل الواحد هو المحتوى الخاص بتعليم المرحلة الأساسية - من العام الأول الابتدائي حتى السادس الابتدائي - لكنه يكون أقل من حيث الكم، ولا يتضمن أي ضغط على الطلاب، كما يوجد في المدارس العادية، بالإضافة إلى وجود أكبر كم من الأنشطة من أجل جذب الطالب، و «الفكرة الأساسية في تلك المناهج هي أن تكون بعيدة كل البعد عن التعقيد».
النوع الثاني من التعليم المجتمعي – وفق الدكتور سالم – هو «المدارس الصديقة» التي يكون هدفها الأسمى، القضاء على التسرب من التعليم. ويوضح سبب تسمية ذلك النوع من التعليم بـ «المجتمعي»، بأن المجتمع هو الذي يشارك في عملية إعادة هؤلاء المتسربين من التعليم إلى المدارس، ويضيف: «التسرب من التعليم مسؤولية الجميع، بداية من الأسرة التي قد تنقصها الموارد، والدولة التي تعاني الكثافة السكانية، والمنظومة التعليمية، وحتى المجتمع بأفكاره التي تقول بأن تعليم البنت ليست له فائدة، لأن مكانها البيت، أو أن الولد عليه أن يعمل بدلاً من أن يتعلم لكي يساعد والده، ولذلك فإن مقاومة التسرب من التعليم هي مسؤولية الجميع».
ينهي الدكتور سالم حديثه مؤكداً أن الدور الأكبر في مواجهة قضية التسرب من التعليم يتبناه الإعلام الذي عليه أن يناقش القضية من جوانبها كافة، ويقوم بنشر الجديد من الأساليب المبتكرة في مواجهة تلك الظاهرة، لأن «من الجيد أن نرى الإعلام يركز على تلك القضية، مقارنة بقضايا فرعية قد يكون الهدف من التركيز عليها فقط الإثارة وتحقيق أكبر نسب قراءة أو مشاهدة».
منال ياسين: السبب الأساسي إهمال البيت، وطُرُق التعليم السيئة
منال ياسين، معلمة، تعتبر أن سبب التسرب من التعليم لا يمكن إلقاؤه على المدارس وحدها، وإن كان لها دور كبير لا يمكن إغفاله، فبعض المعلمين يستخدم طرقاً غير مناسبة في التعليم، ولم تعد تناسب العصر الحالي، وتقول: «يشوب المنظومة التعليمية بعض الخلل الذي يحتاج إلى إصلاح، ويمكن ملاحظة ذلك الخلل في طريقة تدريس بعض المدرسين الذين يذهبون يومياً إلى مدارسهم، وفي نيتهم فقط أنهم يؤدون وظيفة ولا يقومون بعمل مهم، يحمل رسالة تربية أجيال ستساهم في تنمية الوطن وبنائه».
وترى منال أنه بسبب تلك الطريقة، صارت نسبة لا يستهان بها من التلاميذ لا ترغب في استكمال تعليمها، بل تعتبره «تحصيل حاصل»، فإذا أصبحت طريقة المعلم سيئة في الفصل، يقرر الطالب من تلقاء نفسه ترك المدرسة نهائياً، والتفكير في شكل جديد لحياته وهو لا يدرك أنه بذلك ينهيها.
السبب التالي في رأي منال هو الأسرة، وخصوصاً الأمهات اللواتي يهتممن بعملهن على حساب أسرهن وتربية أبنائهن، تقول: «كثير من الأمهات يهملن أولادهن، بحجة أنهن يعملن ويساهمن في الإنفاق على الأسرة، لكن العكس هو الصحيح، فالأم بذلك قد تتسبب في تسرب أبنائها من التعليم، إذا لم تهتم بالإشراف عليهم وملاحظاتهم أولاً بأول».
الدكتورة سامية خضر: العنف المدرسي وراء التسرب من التعليم
«التسرب من التعليم منتشر في مصر منذ فترة طويلة»، بهذه الكلمات بدأت الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس، حديثها. وتضيف: «أول الأسباب التي تؤدي إلى التسرب من التعليم هي نفسية الطفل وحالته البدنية والذهنية التي لا يمكن إغفالها، فالطفل عندما يكون مشاغباً في الفصل، قد يسعى والده ليترك التعليم، وأحياناً يخبر الطفل أو الطالب أباه برغبته في ترك التعليم، لأنه لا يروق له أو يكون غير مرتاح في المدرسة، وهنا تلجأ الأسرة إلى الاستجابة للطفل، بل وتسعى للبحث له عن عمل، فتعالج المشكلة بأكبر منها، وهي ترسيخ سياسة عمالة الأطفال، والمسمى البرَّاق لهذا الأمر، أن الطفل يساعد أباه أو والدته في النواحي المادية».
وتكمل: «السبب الثاني في قضية التسرب من التعليم، هو الحالة النفسية والاجتماعية للأب والأم، التي لا يمكن إغفالها، فالأب أو الأم قد تكون لديهما سمة العنف في تصرفاتهما تجاه أطفالهما، مما يؤثر في نفسيتهم ويدفعهم دفعاً إلى ترك الدراسة، وأحياناً تكون سمة العنف هذه موجودة لدى المدرسين الذين يتعامل معهم الطفل في المدرسة، وللأسف «بعض المدرسين يبدأون في توبيخ الطلاب على أقل خطأ، وتبدأ كلمات اللوم مثل «فاشل» و «خايب» وغيرهما، وهم لا يدركون أنهم بذلك لا يحفزون الطفل على المذاكرة، بل على العكس يدفعونه إلى الفشل في الدراسة».
وفي نهاية حديثها تقول الدكتورة سامية: «المتابعة الإيجابية لا السلبية هي السبيل الوحيد لمنع تسرب الأطفال من التعليم، سواء في المنزل أو في المدرسة، فالطفل ينتظر التقبل لا العنف والرفض. وإذا كانت بيئة المدرسة أو المنزل تتميز بالعنف والرفض، يبدأ الطفل بالتمرد ويرفض الاستمرار في التعليم، وبطبيعة الحال لن يكون الطفل ذهنياً قادراً على المذاكرة أو استيعاب الدروس، وبالتالي سيقرر أن من الأفضل له ترك التعليم بلا رجعة، وسيشجعه على ذلك الأصدقاء في مثل سنّه، والذين لا يدركون عواقب تصرفاتهم، لذا فإن التعامل الإيجابي لا السلبي هو بداية حل المشكلة، خصوصاً إذا كانت لدى الطفل مشاكل في التعليم، الى جانب المتابعة الجيدة التي تتميز بمعرفة جوانب الضعف والقوة لدى الطفل والتعامل معها بجدية، لذا أعتقد أن الجانب النفسي والاجتماعي من أهم النقاط الأساسية التي يجب مراعاتها لمنع التسرب من التعليم».
الطفل خميس أحمد: شقيقي قال لي «اشتغل واكسب أحسن»!
في منطقة الفسطاط بالقرب من المركز الثقافي درب 1718، كان يقف خميس أحمد الذي لا يتجاوز عمره الـ 12 عاماً، لكنه لم يكن يلعب مع الأطفال من حوله، بل كان يقوم بصنع إحدى الأواني الفخارية التي اشتهرت بها المنطقة هناك، وتستخدم في زينة المنازل أو الحدائق العامة.
خميس، الطفل الذي لم يتجاوز عمر البراءة، قرر من تلقاء نفسه ترك التعليم، بعدما نجح في العام الابتدائي الأول بمجموع ضعيف، فرأى أخوه الكبير أن من الأفضل له أن يذهب إلى عمل يتكسّب منه. يقول خميس: «لما كنا بنتكلم؛ أخويا قالي: فكر، أنت من الأفضل ليك تشتغل ويبقى معاك فلوس ولا تتعلم وممكن تسقط أو متكملش».
يحكي خميس تفاصيل حياة أسرته، بنوع من الحزن المكتوم، فوالده توفي ولم يكن عمره يتجاوز السنوات الخمس، مما دفع أخاه إلى تولي مهمة الإنفاق على الأسرة التي تتكون من بنتين وأمه، ويقول: «التعليم في الراس مش في الكراس، أمي قالتلي كده؛ وأنا قلت إني ممكن أساعدهم في البيت بأي حاجة بالشغل ده».
رغم سنه الصغيرة، يؤكد خميس أنه صار يحب العمل في صنع الأواني الفخارية، وهي ليست مهنة بسيطة، بل تحتاج إلى صبر ومجهود كبير، إذ يبدأ بوضع الطين في الفرن بعد إحمائه، ثم يصب الطين مرة أخرى حول قالب «الفخار»، سواء كان كبيراً أو صغيراً، ويبدأ العمل بيده، وعن ذلك يقول: «الموضوع كان صعباً في الأول، لأني مكنتش أعرف أعمل أي حاجة، وبدأت أتعلم واحدة واحدة، دلوقتي أنا بعمل بإيدي مباشرة، بعد ما كنت بخاف ومكسبي على حسب عدد القطع التي أصنعها».
وعن ذكرياته في المدرسة التي تركها، والتي كانت في منطقة الأزهر وتدعى «أم المؤمنين» الابتدائية المشتركة يختتم بالقول: «رغم أن درجاتي كانت دايماً وحشة، بس كنت بحب أروح المدرسة علشان بلعب مع عيال في سني، ودلوقتي مفيش لعب إلا لما الشغل يخلص».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024