تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

الأفق المفقود بين لندن وباريس

غرفة النوم في فندق شنغريلا

غرفة النوم في فندق شنغريلا

الزميلة حنين الأحمر

الزميلة حنين الأحمر

«ذلك المساء، بعد العشاء، قرر كونواي ترك الآخرين والتسلل بمفرده إلى حيث الهدوء في تلك المساحات الشاسعة التي غسلها القمر بضوئه.
شانغريلا كانت جميلة حينها، ممسوسة بذلك السحر الذي كان في جوهر كل حب... وكونواي كان مرتاحاً جسدياً، مكتفياً معنوياً ومتحرراً فكرياً...».
كانت هذه الجملة مطبوعة بخطٍ من ذهب على ورقة رفيعة وطويلة موضوعة فوق كتاب من جلد أسود عنوانه «الأفق المفقود». أخذت الكتاب المُلقى بأناقة على طاولة مربّعة سوداء جنب تختي، فتحته ورحت أتصفّحه وأنا أمشي في غرفة الفندق المطلّة على لندن بأكملها.
مشهد المدينة من خلف زجاج الطابق الثالث والأربعين كان لوحة أعادتني بالذاكرة إلى باريس، إلى معرض بيكاسو تحديداً حيث كنت قبل أيام. كان الضباب ملاصقاً للحائط الزجاجي في غرفتي. إنها المرة الأولى التي أرى فيها مدينة الضباب، وكانت شانغريلا مضيفتي وضيفتي.
ضيفتي التي أحاول أن أكتشف من هي؟ ما كتب على الورقة أوحى لي بأنها امرأة مبهرة الجمال أحبّها كونواي وأعطاها قلبه ومستقبله... ومضيفتي لأنه اسم الفندق حيث أنا في هذه اللحظات.


تأمّل المدينة أو البحث عن شانغريلا لم يكن متاحاً. فرنين الهاتف أعادني إلى واقع الالتزامات المهنية وجعلني أسرع في تبديل ملابسي وأنزل من فوري إلى المطعم حيث من المقرر أن نتناول العشاء. كنا مجموعة صحافيين من مطبوعات مختلفة، دُعينا في رحلة لاستكشاف مدينتي الحب والضباب، باريس ولندن.
كان الازدحام شديداً في مطعم TING الموجود في الطابق الخامس والثلاثين من برج شارد Shard، أطول برج في أوروبا، ربما لأنه الوحيد الذي يطلّ على لندن بأكملها، أو ربما لأن طعامه فاخر أوروبي بنفحة صينية، مصنوع من خضار وفاكهة موسمية عضوية تتغير مع تبدّل الفصول.
قبل انتهاء العشاء، استأذنت وصعدت إلى غرفتي بحثاً عن راحة احتجتها بعد رحلة دامت ساعتين ونصف الساعة من باريس إلى لندن، فالغد يحمل الكثير من المغامرات، لأننا ببساطة سنكتشف لندن سيراً على الأقدام.

Blue badge tour
في الصباح الباكر، كان في انتظارنا رجل أشقر عيناه زرقاوان وملامحه إنكليزية بامتياز. هو تشارلز الدليل السياحي الذي سيأخذنا في رحلة حول لندن مشياً على الأقدام.
اختبر السيّد «تشارلز» منذ انطلاقتنا بعض معلوماتنا التاريخية، مستعيناً بقرب محطة القطار ومحطة الميترو «لندن بريدج» من الفندق، فكان سؤاله «هل تعرفون لماذا سكك القطار مرتفعة عن الأرض؟ ثم أردف بعد صمتنا المحمّل بجواب «لا»، هذه سياسة حكومية في عهد الملكة فيكتوريا، في الهواء ليسوا بحاجة سوى الى دفع ثمن مكان مرور السكك، على الأرض سيكلّف الأمر شراء الأراضي المحيطة وهذا مكلف.
سكة الحديد كانت المدخل للحديث عن عظمة بريطانيا وعن الرؤيوية في السياسات المتلاحقة. أكملنا المسير على ضفاف نهر التايمز إلى أن وصلنا إلى مبنى يتألف من 10 طبقات، يقول تشارلز إنه الـ «سيتي هول» وهو مقر عمدة لندن الحالي.
تم إنشاؤه ليكون علامة مميزة لمدينة لندن فالـ «أسامبلي هول» يوجد إلى اليسار منه، والفكرة من استخدام الزجاج كجدران هي إظهار شفافية الحكومة. أما شكله الدائري فقد صمم كي لا يكون هناك «أمام وخلف وزوايا»، ليدل على الديموقراطية والعدل بين الجميع، كما أنه صديق للبيئة، حتى أن الماء التي تنزل من مكيّفات الهواء تستعمل في الحمامات!
بعد الـ «سيتي هول» عرفنا سراً من أسرار جسر البرج Tower Bridge الذي تحوّل إلى متحف يمكنك الصعود إلى أعلاه والنظر بين قدميك لترى كل ما هو تحتك، فالأرضية من زجاج. خصوصية المكان أوصلها تشارلز بأحداثٍ تاريخية قلّ التحدث عنها.
ففي كانون الأول/ديسمبر من عام 1952 كان هناك باص متجهاً ليعبر الجسر، لم ير سائقه الإشارات بشكلٍ جيّد وبدأ الجسر يفتح أسنانه القاتلة. كان الموت بانتظار السائق، فهو لا يستطيع الرجوع وفي الوقت نفسه أمامه أسنان الجسر القاتلة.
في تلك اللحظة كانت مغامرة السائق بحجم حياته، فقرر السير والقفز بسيارته من ميلٍ إلى آخر، ونجا وحصل على 10 باوندات كمكافأة وأنقذ حيوات آخرين.
منذ ذلك الحين اعتمدت طريقة أخرى أكثر وضوحاً وأماناً تعتمد على الدراجات النارية لإخطار الناس بأن الجسر سيغلق. وفي رواية أخرى، أخبرنا تشارلز أن عمالاً عشرة فقط ماتوا خلال بناء الجسر، وأن الشبابيك الموجودة فيه هي فقط للزينة، ليست لها وظيفة سوى الديكور، كأنها مستحضرة من خيال ديزني بالأزرق والأبيض.
بعد الجسر وصلنا إلى   The Tower Of Londonبرج لندن الذي بناه ويليام الفاتح فخلّد غزو النورمان لإنكلترا. صبغ البرج الذي يتألف من 3 أبراج دائرية وبرج مربّع يحتوي على السلالم الرئيسية، بصبغة الموت لأنه تحوّل إلى سجن ومكان لتنفيذ الإعدامات.
لكن الحقيقة التي أخبرنا بها تشارلز، أن الإعدامات لم تكن تجري في البرج، فقط 22 شخصاً أعدموا هناك، والبقية أعدموا في مكانٍ آخر. أما آخر من أُعدم فكان جاسوساً ألمانياً أعدم عام 1940 واسمه جوزف جايكوب. لا يزال الإنكليز حتى يومنا هذا يحضرون الزهور لتخليد ذكرى الأموات. لاحقاً تحوّل البرج إلى حصن للمجوهرات الملكية، ولا تزال الملكة إليزابيث تعرض مجوهراتها هناك حتى يومنا هذا.
بعد برج لندن، تأملنا هندسة مبنى  The Walkie Talkieحيث قلي البيض في الشارع. والووكي توكي هي ناطحة سحاب زجاجية حديثة العهد في لندن التي تتفنن في جمع التاريخ مع الحداثة، صممها رافييل فينولي Rafael Viñoly  الأورغوايّاني الأصل والمقيم في نيويورك.
تعدّ ناطحة السحاب هذه من أحدث معالم لندن المعمارية، خصوصاً أنها شكّلت ظاهرة غير اعتيادية بسبب الحرارة الشديدة التي تعكسها على الأبنية والسيارات القريبة التي ذابت بفعل الحرارة. الطريف في الأمر أن على رغم مأساة الحرارة العالية وذوبان السيارات، نظمّت مباريات بين العامة لقلي البيض في الشارع فقط بالاستعانة بحرارة المبنى.

London Bridge
أطرف ما في أخبار هذا الجسر قصة بيعه التي تسببت ربما بأزمة نفسية صعبة لشاريه. فبعد تصدّع هذا الجسر الذي بني عام 1831، عرض للبيع في عام 1970 فاشتراه أميركي يدعى روبرت ماكيليك جمع ثروته من النفط.
اشترى روبرت الجسر القديم مقابل 2.4 مليون دولار ونقله عبر الأتلنتك إلى أريزونا حيث كان يبني منتجعاً وأراد تزويده بصرح تاريخي لجذب السيّاح. وعندما أُعيد تركيب الجسر في أريزونا، نظر روبرت إليه متسائلاً:
«
لماذا لا يفتح في الوسط؟»... لقد ظنّ أنه اشترى Tower Bridgeلكنه في الحقيقة كان لندن بريدج، وكثر من يخطئون بين الجسرين. إذا كنتم تريدون رؤية الجسر القديم، زوروا أريزونا واسألوا عن خيبة السيد روبرت.

Borough Market
في سوق «بورو» الذي يبعد خمس دقائق من الفندق سيراً على الأقدام، عشت تجربة استثنائية. فالتجول في السوق والاحتكاك المباشر على المستوى الشعبي مع سكان لندن، يساعدك في عيش تجربة اجتماعية فريدة ويقدم فرص تسوق رخيصة لكثير من المأكولات.
ووفق طاهي الفندق الذي رافقنا في زيارتنا لسوق المأكولات هذا، يعدّ سوق «بورو» المغطى بالكامل أبرز موقع لتجارة الأغذية منذ ألف عام. وعلّقت لوحة عملاقة تركت للذكرى فيها أسعار الخضار والمأكولات عند افتتاح السوق والتي بقيت فترة طويلة تتخصص في تجارة الجملة فقط، ولكنها منذ نحو عشر سنوات تحولت إلى البيع للمستهلكين مباشرة.
في  Borough Market تجد الخبّازين والجزّارين وبائعي الخضار والفواكه وأنواع الجبن المختلفة والأسماك. هناك يمكنكم تذوق الأطعمة قبل شرائها والتمتع بالاحتكاك مع أناس من شرائح متنوعة من داخل لندن وخارجها. وهناك أيضاً يمكنكم اختبار ذاكرتكم السينمائية. انظروا إلى أعلى قرب السوق وتذكروا، هنا تم تصوير مشاهد عدة من أفلام هاري بوتر.

The globe
وصلنا إلى عالم شكسبير في ساوث بانك حيث بُني مسرحه «شكسبير غلوب». وقفنا فوق أنقاض المسرح القديم الذي بنته مجموعة «شكسبير» التمثيلية «ذا لورد تشامبرلاينز مان» عام 1599، والتهمته النيران في عام 1613. ويبعد مسرح «غلوب» الجديد الذي أُعيد بناؤه والذي يمكنك زيارته اليوم، مسافة 750 متراً عن المسرح الأصلي.
في الغلوب الجديد، يمكنك أن تعود إلى العصر الإليزابيتي، أن تتحوّل إلى فقير من زمن شكسبير الذي يُحكى أنه ولد وتوفي في اليوم نفسه. في ذلك الزمان لم يكن في مقدور الفقراء الذين أُطلق عليهم اسم «غراوندلينغز» دفع ثمن التذكرة، وكانوا يستعيضون عن ذلك بدفع فلس واحد فقط للوقوف في الفناء ومشاهدة المسرحية. بإمكانك أنت أيضاً أن تكون «غراوندلينغ»، مقابل باوندات قليلة، هذا طبعاً إذا احتملت ساقاك الوقوف كثيراً.
بعد ساعة ونصف الساعة من السير واكتشاف الكثير من تاريخ لندن الذي لا تصادفه على محرك البحث «غوغل»، عدنا إلى الفندق حيث كان الشاي في انتظارنا، وهذا الطقس لن تستمتع به إلا إذا عرفت أصوله.

أكرك عجم
في ذاكرتي جدّي وهو يخبر قصة عن شخص فارسي (عجمي) اسمه «أوؤرق» يملك دكاناً بالقرب من الجامع الأموي في دمشق. حرص أوؤرق على تزويد دكانه الصغير الذي لا تتعدى مساحته «متر بمتر»، بالسماور كي يشرب الشاي يومياً ويكرّم ضيوفه، فكان «يغمّق» لون الشاي أو «يفتّحه» على هوى الزبون، ومن كثرة غلي الشاي كانت له نكهة مميزة، خصوصاً أنه مغليّ على الفحم الخشبي. هكذا ارتبط اسم «أوؤرق» بجودة الشاي في بلاد الشام وصارت العبارة «أكرك عجم» يرددها جدّي كما كثيرون كلما أراد الثناء على طعم الشاي الذي يشربه.
في لندن كانت للشاي حكاية أخرى. أشخاصٌ آخرون غير «أوؤرق» وزبائنه الذين أخبرني عنهم جدّي، وطعمٌ آخر غير طعم الجوز المرافق للشاي الحاد المائل الى السواد.
فشاي ما بعد الظهر البريطاني، على ذمة متدرّبة في الفندق، سامرتني حتى اكتمال تعداد الفريق الصحافي، يعود إلى القرن التاسع عشر. تلك الفترة، اشتكت الدوقة السابعة لبيدفورد «آنا» من «شعور بالنعاس» في فترة ما بعد الظهيرة.
لكن المشكلة كانت تكمن في العادات المتبعة حينها، فقد كان العُرف أن يتناول الأفراد وجبتين فقط من الطعام خلال اليوم، وهما وجبتا الفطور والعشاء. فقررت «آنا» كسر الشائع وتناول فنجان من الشاي وقطعة من الكيك، سراً، في حجرة ملابسها في فترة ما بعد الظهيرة.
دأبت الدوقة على تلك العادة وصارت تدعو الأصدقاء لمشاركتها في وجبتها الخفيفة في الغرف الخاصة بها في ويبرن آبي، حتى تحوّل هذا الطقس إلى تقليد صيفي اعتمدته ونقلته معها إلى لندن، حيث كانت تقوم بإرسال بطاقات الدعوة إلى الأصدقاء لتطلب منهم تناول «الشاي والسير بين الحقول». وجرياً على عادة الدوقة، اتبع أصحاب الطبقات الاجتماعية الراقية هذا التقليد الذي انتقل إلى غرف الرسم الخاصة بهؤلاء. وبعد ذلك، حافظ معظم أفراد المجتمع الراقي على عادة تناول بعض الوجبات الخفيفة في فترة ما بعد الظهيرة، نحو الساعة الرابعة قبل التجول في حديقة هايد بارك. أما الطبقات الفقيرة والمتوسطة فكانت تتناول «شاي آخر النهار» لاحقاً في حوالى الساعة الخامسة أو السادسة، بدلاً من العشاء.
حكاية «آنا» عشتها في الفندق، شربت الشاي، تمتعت بطعم الشطائر الفاخرة والحلويات اللذيذة المرافقة، وابتسمت في سري، وتخيّلتني أخبر جدّي المتوفى وأسأله: «ماذا لو التقى أوؤرق وآنا؟ أي طعمٍ للشاي كنا سنتذوّق؟».
بعد الشاي كان لا بد من التسوّق، فالأحباء كثر ولا بد من تذكار أحمله. الخيارات كثيرة وسهلة، من شارع أوكسفورد Oxford Street الذي يعد أشهر وأطول شارع تجاري في لندن، فيه مجمّع «سيلفريدجز» Selfridge's الشهير الذي استطاع منافسة متاجر كبرى كهارودز وميسي وجون لويس. وهذه سياسة أبدع فيها مؤسس هذه المتاجر، سيلفريدج، صاحب مقولة «الزبون دائماً على حق».
ولهواة الماركات العالمية الشهيرة، يمكنكم زيارة شارع نيو بوند ستريت New Bond Street الذي يتفرّع من أوكسفورد ويضمّ أرقى المتاجر ودور الأزياء العالمية من مثل: Chanel وHermes وLouis Vuitton Dolce and Gabbana وBurberry وGucci وBoss وPrada. أما شارع نايتسبريدج Knightsbridge فهو موقع المتاجر الفخمة، فيه هارفي نيكولز Harvey Nichols وهارودز Harrods، وغيرهما الكثير من المتاجر.
في العدد المقبل من مجلة «لها» سيكون هاري بوتر حاضراً في لندن، سنكتشف في باريس سر الرقم 4، رقم الموت، سنتعرف على ماري وعلاقتها بفرويد، وستنكشف نهاية القصة بين باريس ولندن.

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078