«الحاسة السادسة» و «الفراسة» بين علم النفس والإنسان وما وراء الطبيعة
«سرّه باتع»... هذا ما يطلق بالعامية على الأشخاص الذين لديهم حس عالٍ ويمكنهم توقّع حدوث بعض الأمور. فمنذ زمن بعيد والكثير من الناس يعتقدون بأن هناك أشخاصاً كشف عنهم الحجاب ومُنحوا البصيرة لرؤية الأمور والأشخاص على حقائقهم، لا بل التكهن أحياناً بما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد. والجدير ذكره أن لا علاقة لذلك بالشعوذة أو علم الفلك والأبراج ولا حتى بتأويل الأحلام... عموماً، تُسمى الفراسة أو الحاسة السادسة. وبين اختلاف واضح في الآراء حول مصدر هذه الحاسة عند الإنسان، والتيقن من أنها فطرية أو موهبة مكتسبة، يبالغ البعض بالاعتقاد بهؤلاء الأشخاص ومقدرتهم على تخمين المستقبل، والأدهى حين توضع قرارات مصيرية بين أيديهم بقصد اختيار الأفضل بينها. عن الحاسة السادسة نستعرض آراء ومواقف حقيقية ندعّمها بتفسيرات متخصصين في علم النفس وتفسير الأحلام...
السيدة وفاء صالح (48 عاماً)، تمتلك حدساً قوياً تجاه الأشخاص وتخمّن بقوة الأحداث المستقبلية، فدائماً ما يستعين المقربون منها برأيها، فبمجرد النظر تستطيع تحديد معدن الشخص ونفسيته وحسن سلوكه وأخلاقه، وغالباً ما تكون توقعاتها وتحليلاتها صائبة، لذلك يستعين بها إخوتها في أمور الزواج، أو في اتخاذ قرارات معينة في حياتهم الاجتماعية أو المهنية. وترى وفاء أن هذا الحدس القوي لديها فطرة من الله، إذ ترى على الدوام الأمور بطريقة مختلفة عن باقي الناس، مما يوقعها في مشاكل مع الآخرين فتميل الى العزلة والانطواء، ما يشغل تفكيرها ويؤرقها في أغلب الأوقات.
أما تسنيم رياض (27 عاماً)، فتجد أن مسألة قرب العبد من ربّه ومحبته له هي ما تجعل من الشخص قوي البصيرة. ففي كثير من الأحيان تتعرض تسنيم لمواقف صعبة يسعفها حسها العالي بتوقّع الأمور في الخروج منها بسلام. ورغم عدم دراستها علم النفس ولغة الجسد، لكنها أصبحت مهتمة جداً بقراءة كل ما يتعلق بهذا الجانب، وتنمية فطرتها في التحليل والتكهّن بما سيحصل، ولكنها لا تزال حذرة في البوح بكل ما تعتقده خوفاً من أن يظن بها البعض سوءاً. وعن ذلك تستحضر تسنيم موقفاً مرت به مع إحدى صديقاتها التي خُطبت الى شخص علمت تسنيم منذ أن وقعت عيناها عليه أنه غير مناسب. وقتها لم تستطع البوح لصديقتها خوفاً من أن تظن أنها تشعر بالغيرة أو تحسدها لكونه يتمتع بميزات مهنية ومادية وعلمية عالية، فبقيت تسنيم تفكر لأيام في كيفية إخبار صديقتها وتحذيرها، إلى أن استطاعت في النهاية إقناعها بالتحري عن خطيبها والوقوف على حقيقته. وبالفعل تكشفت لها أمور مهمة كانت تغفلها، فتداركت الموضوع وعملت على فسخ الخطوبة قبل فوات الأوان ومن دون تردد.
وتعتقد شيماء خالد (26 عاماً)، أن قدرتها على التكهّن غالباً ما تُترجم على شكل أحلام، وتقودها الى معرفة ما سيحدث في المستقبل، كما تحذرها من وقوع أمر ما، وهذا ما تشهده في كثير من المواقف، حيث رأت في أحد المنامات أن جدّها المريض سيلحق جدتها المتوفاة، وفور استيقاظها من النوم جاءها نبأ وفاة جدّها (رحمه الله). وبعدها بفترة، حلمت بفرقة والدها وإخوته بسبب مشاكل وخلافات، وتحقق الأمر فعلاً واختلف الجميع وانقطعوا عن بعضهم لفترة، وكانت شيماء تظن في البداية أن التفكير أو العقل الباطن هو ما يدفعها لرؤية ما تفكر به أثناء نومها، ولكنها في الكثير من الأحلام كانت ترى أشخاصاً وأصدقاء لم ترهم منذ زمن ويُهيّأ لها أنهم في مناسبة فرح أو حزن، وبالفعل يصادف أن تتحقق أحلامها، ما جعل شيماء تتأكد من أن أحلامها هبة من الله تمدّها بالبصيرة وتحذّرها أو تبشرها مما سيقع في المستقبل.
أصحاب الحاسة السادسة مخيفون
وفي خوف شديد، تؤكد فرح سعادة (23 عاماً) أن الحاسة السادسة أو القدرة على توقّع الأمور هي ميزة يتفرد بها أشخاص معينون دون غيرهم. ورغم كونها نعمة، قد تصبح في الوقت نفسه نقمة بحيث تبعد هؤلاء الأشخاص عن الناس بسبب ما يرونه ويعتقدونه، فصديقة والدتها سيدة في الأربعين من عمرها تمتلك حدساً عالياً جداً وقدرة على معرفة كل ما هو مخفي من خلال النظر، وكثيراً ما كانت تخبر والدتها بأحداث وقعت لهم بالفعل، حيث في إحدى الزيارات الخاطفة وبينما كانت والدتها تخفي حمل زوجة ابنها، فاجأتها صديقتها بالقول: «زوجة ابنك حامل ببنت»، ما خلق حالة من التوتر لأن الكنّة لا تزال في شهرها الأول، ولم تتم معرفة جنس الجنين بعد، وتبين بعدها بأشهر أن توقّعات صديقة والدتها صحيحة، ما جعل فرح تتجنب مواجهة تلك السيدة خوفاً من أن تفضح أسرارها التي تخفيها عن والدتها.
الحاسة السادسة عبء يحرم من النوم
تستهل فدوى محمد ( 46 عاماً) كلامها بأن الحاسة السادسة تجلب القلق والتوتر لصاحبها، فهي تتمتع منذ زمن بهذه الفطرة أو القدرة على تخمين وقوع الأشياء، إما من طريق أحاسيس وانقباضات تشعر بها، أو على شكل أحلام ومنامات، كما تستطيع معرفة ما إذا كان الشخص الذي يقف أمامها يكنّ لها المحبة أو العداوة بمجرد النظر في عينيه، الامر الذي يجعلها متوترة على الدوام وتتحاشى الاختلاط بالناس أو مجاملتهم. فالفراسة أو الحاسة السادسة عبء ثقيل على الشخص، إذ تحرمه من النوم وتسبّب له الأرق والقلق المتواصل في حياته.
الفراسة وأنواعها
وفي السياق، يؤكد استشاري علم النفس والسلوكيات الأسرية الدكتور ماجد علي قنش، أن علم الفراسة يعد من العلوم الطبيعية التي تمكّننا من معرفة بواطن الناس من خلال النظر إلى أحوالهم الظاهرة من طريق الألوان والأشكال والحركات والتأمل في الأعضاء. والفراسة مصطلح شامل ولا يختص بعلم معين، فهناك فراسة الأثر أو ما يسمى بـ «العيافة» وهي تتبع آثار الأقدام على التراب، وفراسة «الريافة» التي تتم من خلالها معرفة مصادر المياه وأماكن الحيوانات والنبات. أما الأنواع التي تختص بالبشر فهي متعددة ومتداخلة أيضاً ولها أشكال كثيرة، تأتي في طليعتها فراسة «القيافة» التي تؤدي الى معرفة الناس بمجرد النظر إلى بشرتهم وملامحهم وبنية أجسادهم. حالياً ظهر الكثير من الدراسات والبحوث في علم الفراسة الخاص بالبشر وتحليل شخصياتهم، كفراسة الوجوه أو ما يسمى بـ «الفيزيونومي»، وفراسة الإيماءات والحركات وهو علم «الكينيسيكز» الذي تتفرع منه فراسة الإحساس بالنبرات والهيئات، وفراسة خط اليد أو الكتابة البدوية، إضافة الى فراسة الألوان، الى جانب نوع من الفراسة يتعزز مع الممارسة والتجربة، وهو ما يتميز به كل شخص وفق تخصصه وعمله، وهذا ما نجده عند بائع الذهب أو خبير الأرصاد الجوية...
مصادر الفراسة
تعقيباً على كلام الدكتور قنش، توضح المستشارة النفسية والأسرية شيماء الجيلاني، أن الفراسة أو الحاسة السادسة عند الشخص ترافقه منذ ولادته، وتعتبر قوّتها صفة مكتسبة إذا عمل الشخص على تنميتها. ويتميز هؤلاء الأشخاص بالفطنة والذكاء والنباهة وصفاء القلب والذهن والتركيز العالي والإيمان القوي، لذلك يمكننا حصر مصادر هذه الهبة بثلاثة مصادر، هي: المصدر الإيماني الذي يتعلق بقوة الإيمان وارتباط العبد بربه، المصدر العملي المستوحى من دراسات الأطباء وتصنيفاتهم، والمصدر الثالث الذي ينشأ من طريق بعض الممارسات وتكرارها والتخلي عن الشهوات وممارسة تمارين التأمل كـ «اليوغا». والمصدر الأخير من الفراسة يتشارك به الشخص المؤمن وغير المؤمن على حد سواء، ولكن قوة كشفها تعد جزئية وليست قوية... وتصحيحاً لما يعتقده الناس، تؤكد الجيلاني أن قارئي الكف والفنجان ومحللي الأبراج لا يندرجون تحت مسمى «المتفرسين»، لكون هذه الفئة تصنَّف لدى الغرب بأنها علوم لا ترتبط بالفراسة، على خلاف مفسري الرؤى والأحلام الذين تتسم غالبيتهم بالفراسة.
الفارق بين التفرّس والتكهن والرؤى
في مداخلة حول هذا الموضوع، يرى الداعية الإسلامي ومفسر الرؤى عايض بن محمد الحصيني أن الحاسة السادسة، كما تسمى، أمر فطري وتوفيقي من الله تعالى لعبده، وليست لها علاقة بمعرفة الغيبيات، إذ لا يعلم الغيب إلا الله، وهي في أبسط تعريف عبارة عن الشعور بالحقيقة من خلال «التوقعات» من دون أسباب تبررها، وهي أمر لا إرادي يمارسه الكثيرون في حياتهم من دون وعي، سواء من خلال مهنهم أو لمجرد التوقع والتحليل، فنجد على سبيل المثال الجنائيين والمحققين يعرفون المجرمين أو الدجالين لمجرد النظر في وجوههم وأعينهم. في علم الفراسة ارتباط وثيق بلغة الجسد والعيون، فقد ورد في حديث الإمام الألباني «إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم»، والتاريخ حافل بشواهد المتفرسين وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والفراسة نابعة من فطنة ذهن المتفرس وقوة إيمانه وحدّة قلبه، فالمسلم الذي يتسم بالصدق والاستقامة وتحرّي الحلال بالمأكل والمشرب، يقذف الله في قلبه البصيرة. ورد في حديث الرسول (صلّى الله عليه وسلّم): «اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»، ويدلّ الحديث إلى وجود أناس يتحلّون بهذه الكرامات والفتوحات التي تجعلهم يصيبون الظن. وينبّه الحصيني الى محك مهم وخطير، ألا وهو الفارق بين الفراسة الخاصة بأهل الايمان، والتخرص الذي يختص به المشعوذون أو المتلبّسون بالجن الذين يُطلعونهم على الغيبيات. أما الرؤى والأحلام فهي كما ورد عن النبي (عليه الصلاة والسلام)، جزء من 46 جزءاً من النبوة... إنها فتوحات وتوفيق من الله وقد تصيب أو تخطئ وفق الرائي أو المعبّر ودقته وصفاء ذهنه. قال عليه الصلاة والسلام: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً».
الأثر السلبي لكثرة الاعتقاد بهذه الحاسة
ويبيّن الدكتور ماجد قنش نقطة مهمة تتعلق بأصحاب الحاسة السادسة، فهم بلا شك أشخاص طبيعيون ولكنهم يميلون الى الخيال أكثر من غيرهم، كما يتميزون بالهدوء وعمق التفكير، ولذلك يلجأ بعضهم إلى الانطواء. ويعتقد الدكتور قنش أن المبالغة في الاعتقاد بهذه الحاسة تترك تأثيراً سلبياً في الشخص وفي محيطه، بسبب علمه بأمور لا يعرفها غيره، تجعله يبني عليها آمالاً كثيرة في حياته وعلاقاته. وفي النهاية، يرى الدكتور قنش أن لا بد من التفريق بين علم الفراسة الذي له تفسيرات في علم النفس ومرتبط بعلم الإنسان والوراثة، وبين الحاسة السادسة التي لا تفسيرات أو ارتباطات منطقية لها، حيث إن علم الفراسة نتج من تجارب وأبحاث ودراسات وتراكم خبرات تم تناقلها لتشكل نموذجاً علمياً مدروساً، بينما تندرج الحاسة السادسة تحت مسمى ما وراء علم النفس أو ما وراء الطبيعة لأن لا تفسيرات واضحة لها.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024