علاقات زوجية تتحدّى البُعد الجغرافي...
يحلم كلّ شاب وفتاة بالزواج وتأسيس عائلة مترابطة وإنجاب أطفال والمشاركة في الحياة اليوميّة والعيش تحت سقف واحد، بيد أنّ الظروف تعاكس المرء أحياناً، ممّا يُضطرّه إلى القيام بتضحيات شتى في سبيل تأمين لقمة العيش الكريم وإعالة أسرته.
من أبرز العوائق التي قد تقف حاجزاً في درب الزوجين، اضطرار أحد الشريكين، وخصوصاً الرجل إلى الانتقال إلى منطقة أخرى، أو بلد آخر للعمل، وبالتالي العيش بعيداً من الشريك الآخر والأولاد. فتتأثر بالطبع العلاقة الزوجية ما بين الشريكين وكذلك بين الأطفال وذويهم نتيجة هذا البُعد الجغرافي. لذا يجب اتخاذ خطوات مدروسة منعاً لتشرذم العائلة وتفكّك أواصر الأسرة السعيدة. فكيف يتمّ بناء علاقات زوجيّة ناجحة رغم المسافات؟ وما أبرز العوائق والمعضلات التي قد تواجه العائلة؟
من البديهي أن يعيش الشريكان في منزل الزوجية ويتعاونا في الأمور الحياتية اليوميّة ويُربّيا أولادهما معاً. بيد أنّ للظروف أحكاماً قد لا تكون في الحسبان. إذ تأتي العوائق المادية مثلاً كأهمّ الأسباب التي قد تدفع بالزوج إلى البحث عن عمل في بلد آخر ليتمكّن من تأمين المردود المادّي الكافي لعائلته، بصفته المُعيل الأساسيّ لها.
في هذه الحالة، تصبح الأسرة «منفصلة» عن بعضها بفعل البُعد الجغرافي، فيبقى الأطفال مع أحد الشريكين - غالباً ما يكون الوالدة- ويأتي الوالد للزيارة في الأعياد والعطل الرسميّة أو في فصل الصيف. من هنا، تترتّب على هذه العائلة بعض القوانين المختلفة عن سواها، من حيث العلاقة بين الزوجين، وحتى مع الأولاد، في محاولة للعيش بطبيعيّة قدر المستطاع.
تشرح الاختصاصيّة في علم النفس باسكال حوراني تأثير البعد والمسافة الجغرافية في العلاقة بين الشريكين وانعكاس ذلك على الأولاد. كما تتناول من جهتها الاختصاصية في علم الاجتماع راميا شيبان وجهة نظر المحيط والتغيير الحاصل لتلبية العلاقات الاجتماعية والمناسبات من قبل أحد الشريكين منفرداً.
ظروف وأحكام
لا يدري أحد ماذا يخبّئ له المستقبل القريب، إذ قد تحكم عليه الظروف بحالات معيّنة، كما قد تأتيه فرص من العمر لا تتكرر، من ناحية الحياة العملية.
إنّ البحث عن وظيفة ذات مردود مادّي مقبول، وفقاً للشهادة الجامعيّة أو الخبرة، قد لا ينحصر في نطاق منطقة سكن المرء بحدّ ذاته، إذ قد يجد عملاً في منطقة بعيدة أو بلد آخر. كما أنّ التحصيل العلميّ لأهمّ الاختصاصات المتقدّمة قد لا يكون متوافراً في البلد الأم، بل يستدعي السفر... من هنا، نلخّص أبرز سببين «للهجرة المؤقتة». ولسوء الحظ، قد يكون هذا الشخص متزوّجاً، ولا يتمكّن من اصطحاب عائلته معه إلى بلد المهجر، فتنشأ بالتالي علاقة عائلية تتحدّى البعد الجغرافي والمسافات والقارات.
من جهتها، ترى حوراني أنّه «بعيداً من السبب الاقتصادي، قد تظهر بضعة عوامل نفسيّة تدفع بالشاب إلى اتخاذها كحجّة أو ذريعة للسفر أو البعد الجغرافيّ بين الشريكين، وأبرزها تركيبة الشخصية التي تمتاز بالرغبة في الهروب من المسؤولية وحبّ الحرّية والاستقلالية والخوف من الارتباط والتقيّد. ينتج ذلك من التربية والتجارب الخاصة وهذه طبعاً ليست القاعدة». فالإقدام على اتخاذ قرار مماثل هو مسؤولية كبرى، لذلك على الشريكين التعاون والتفاهم مسبقاً على الأمور كافة درءاً للمشاكل والخلافات.
مشاكل وصعوبات
إنّ الحياة برمّتها ليست سهلة وقد تكون ظالمة بعض الشيء، لكن على المرء أن يحسم أمره ويتّخذ القرارات المصيرية من دون تردّد.
تقول حوراني: «من الطبيعيّ أن يخلق البعد بعض المشاكل، بسيطة كانت أو معقّدة، وذلك حسب متانة العلاقة الأساسية بين الشريكين ونوعيّتها، وطباعهما وشخصيتيهما. فمن أبرز الصعوبات هو البعد الجغرافي وعدم العيش تحت سقف واحد، ما قد يخلق نوعاً من الجفاء أو البعد العاطفي أحياناً. كما أنّ غياب التعبير عن المشاعر والأحاسيس والانفعالات كجزء أساسيّ من الحياة اليوميّة المشتركة قد يسبّب كبتاً لما يختلجه المرء ويتراكم مع مرور الوقت، ليتحوّل إلى معضلة يصعب حلّها أحياناً. أضف أنّ كلّ فرد يتمتّع بقناعات وسلوك وقدرات على التحمّل مختلفة عن سواه، وبالتالي، قد لا يتقبّل الطرفان الظروف بالنظرة نفسها، وقد تختلف وجهات النظر».
من جهة أخرى، في حال وجود أولاد، فقد ينعكس البعد سلباً على حياتهم أيضاً، بحيث يشعرون بأن عائلتهم غير مكتملة وينقصهم الإرشاد الوالديّ، أو الحنان أو الدعم المعنويّ من أحد الشريكين. وهذا أمر لا بدّ من تداركه منذ البداية.
تغييرات اجتماعية
ترى شيبان أنه «عندما يكون أحد الشريكين مسافراً، تتبدّل نوعيّة علاقة العائلة حتى مع المجتمع. إذ قد يتمكّن الشريك الآخر-غالباً ما يكون المرأة- من تلبية مختلف الدعوات الاجتماعية منفرداً، أو قد لا ترغب في ذلك. فالحفلات والأعراس مناسبات اجتماعية أو عائلية غالباً ما يطغى عليها طابع الثنائي. فقد لا يحبّ البعض التواجد منفردين في هذه المناسبات». من جهة أخرى، يترتّب على الشريك الباقي في البلد أن يقوم بواجباته الاجتماعية على أكمل وجه بمفرده، من حيث التهنئة أو العزاء أو زيارة المريض وغيرها، لغياب الشريك القصري.
تتابع شيبان: «في بعض الأحيان، تتبدّل نظرة المجتمع تجاه العائلة والسيدة، بحيث يستنتجون فرضيات قد لا تكون صحيحة، عن سبب غياب الشريك الآخر وسفره. أو قد ينصّبون أنفسهم حكاماً وحُماة للمرأة وأطفالها، من حيث إبداء الرأي بتحركاتها وتنقلاتها ودوامات دخولها وخروجها من البيت، ذلك أننا ما زلنا نعيش في مجتمعات محافظة بعض الشيء.
إيجابيات وحلول
تشير حوراني إلى أنّ «لكلّ عملة وجهين! وبالتالي، فإنّ للبعد الجغرافي بعض الإيجابيات على العلاقة الزوجية إذا استثمر الشريكان الموضوع بذكاء. فمع تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي، بات من السهل التواصل بشكل يوميّ ودائم مع الشريك من خلال مختلف الوسائل مثل Skype و Whatsapp و Facebook وسواها، بحيث تخفّ وطأة البُعد ويتمكّن الشريكان من التواصل صوتاً وصورة! من هنا، عليهما تغذية علاقتهما عبر محاولة إبقائها حيّة من خلال مشاركة نهارهما مع الآخر وسرد ما جرى معهما والتحاور كأنهما في البيت نفسه. وهذا يعزّز أواصر العلاقة الروتينية ويخلق تقارباً في الأفكار».
كما على الوالدة أن تشارك أطفالها في الحديث مع الوالد بشكل يوميّ وإطلاعه على مستجدّات المدرسة والأصحاب والعائلة، حتى يشعروا بوجوده وإن لم يكن جسديّاً.
ولا بدّ من معرفة كيفية الإفادة من كلّ الفرص المؤاتية التي تسمح بوجود الشريكين في البلد نفسه والبيت عينه، في مختلف العطل والأعياد والمناسبات، بحيث يتمّ تخصيص وقت للأولاد مع الأب ووقت للشريكين على حدة أيضاً لتعويض كلّ ما فاتهما من أحاديث وحميمية وتواصل... إنّ اللقاء بعد الغياب يمكن استثماره بشكل إيجابيّ للغاية، ويمكن الاستفادة من كلّ لحظة وتعويض الوقت الضائع. فلا ينبغي أن يكون لقاء معاتبة وتصفية حسابات، بل لقاء تواصل وحبّ وتفاهم.
تضيف «من خلال الشحن الإضافي للمشاعر عبر مختلف وسائل التواصل والمحادثات اليومية، يعزّز الزوجان البعيدان الثقة والحب من دون أن يرهقهما روتين العيش تحت سقف واحد. فهذا من شأنه أن يجعلهما يتغاضيان عن الأمور البسيطة التافهة التي قد تتسبّ بإشكال بين الزوجين المقيمين في بيت واحد، لتربطهما علاقة أمتن من الإلفة والمودّة والصداقة والحبّ».
مسؤولية مزدوجة ومساعدة عائليّة
عندما يغيب أحد الوالدين لسبب قصري، يضطر الآخر إلى اتخاذ دور مزدوج ليلعب دور الأب والأم معاً تجاه الأولاد. تفسّر شيبان: «قد تُجبر الأمّ على لعب دور الأب أيضاً، إذ تكثر المسؤوليات عليها لأنها الوحيدة القريبة من أطفالها، ولا بدّ من البقاء على بيّنة في كلّ ما يقومون به. تكثر مسؤولياتها وواجباتها تجاه أولادها، من الاهتمام والرعاية والتعليم، وصولاً إلى تلبية دعوات أعياد الميلاد والمشاركة في سائر النشاطات الاجتماعية والرياضية لأولادها. وهذا قد يضغط عليها بعض الشيء، أقلّه من حيث الوقت، فتراها قد تقصّر في بعض المناحي الاجتماعية الخاصة بالراشدين وبها شخصياً، فلا تعود قادرة على تلبية مختلف الدعوات أو تكريس وقت خاص بها للاستجمام أو حتى المشاركة في أمور باتت بالنسبة إليها ثانويّة».
لكن هذا لا يمنع أن تتوطّد أواصر العائلة الكبرى، إذ غالباً ما يُبادر أهل الزوج والزوجة إلى المساعدة في تربية الأولاد ورعايتهم، ويُحيطونهم بالعطف والحنان اللازم كي لا يشعروا بالنقص. وهذه من إيجابيات هذا الوضع القائم. تؤكّد شيبان «أنّ رعاية الجدّين والأعمام والخالات للأولاد مكسب عائليّ واجتماعيّ ونفسيّ بامتياز، إذ يشعر الولد أنّه غير متروك وأنّ بإمكانه مشاركة محيطه بما يشعر أو يطلب ما يحتاج إليه ولو كان والده بعيداً. كما أنّ هذا الدعم يُعطي السيدة الدفع الذي تحتاج إليه للمضيّ قُدُماً في حياتها، وهي على يقين بأنّ عائلتها الكبيرة تحيط بها».
استمرارية واتفاق
عندما يقرّر شخصان الزواج، يكون ذلك عن رضى وتفاهم بين الطرفين. وكلّ قرار مصيري لا بدّ من أن يُتخذ من قبل الإثنين، بعد دراسة لمختلف جوانبه. يبقى سرّ كل علاقة ناجحة قائماً في مدى الالتزام عند الشريكين من خلال المجهود من الثنائي معاً.
تشدّد حوراني على «ضرورة خلق أرضيّة مشتركة للتفاهم على مختلف الأمور من خلال تحديد الأسس والمبادئ والحدود والهدف الأساسيّ للعلاقة منذ البداية. فالثقة أمر جوهريّ لأنّ انعدامها يولد الشك وحتى قد يؤدّي إلى الخيانة في مرحلة لاحقة».
في الختام، تعطي حوراني بضع نصائح للحفاظ على علاقة سليمة تتلخص بـالتالي:
- الخلافات البناءة من شأنها أن تعطي وجهات النظر المختلفة لتحسين الذات والعلاقة ككلّ، وهي بعيدة كلّ البعد عن تقاذف المسؤوليات والدمار العاطفي والمعنويّ.
- الاحترام المتبادل يزيد من التقارب بين الثنائي ويؤدّي إلى السعادة.
- الحوار الشفاف وتقبّل الآخر كما هو، دليل على الحبّ والصراحة في العلاقة.
- الصبر والتقدير والحبّ من أبرز سمات الزواج الناجح مهما عصفت به الظروف والمسؤوليات والمشاكل.
شهادتان
ثائر وإيليز دبغي ثنائي يعيش كلّ واحد منهما في بلد. تهتمّ إيليز بتربية طفليها ذوي السنوات السبع والست في لبنان، وتعمل بدوام جزئي في تصميم الأكسسوارات والأشغال اليدويّة، فيما سافر ثائر إلى دبي ليعمل Operation Manager منذ نحو سنتين لتأمين لقمة عيش شريفة وتحسين نوعية حياة أولاده. ترى إيليز أنّ وضعهما هذا صعب ويُلقي بمسؤولية تربية الأولاد عليها، لكنها تحظى بالدعم من أسرتها وأسرة زوجها. كما أنّ وسائل التواصل الحديثة قد سهّلت لها التواصل المستمرّ واليوميّ مع زوجها لتشاركه في مختلف جوانب حياتها وأولادها.
جيلبير وريما فوّاز متزوجان ويعيشان كلّ في بلد منذ عام1996 . بقيت ريما مع أولادها الأربعة في لبنان وسافر جيلبير إلى نيجيريا ولا يزال هناك. تقول ريما إنّ العتب كبير على الدولة التي لم تستطع تأمين فرص عمل مناسبة والظروف أصعب من أن تتحكّم بها. لكنها استطاعت التأقلم وتحاول قدر المستطاع ألاّ يؤثر ذلك في علاقتها مع زوجها و أولادها. في السنوات الأربع الأخيرة، باتت الأمور أسهل بعض الشيء بفضل سهولة التواصل اليوميّ عبر سكايب وغيره وقد كبر أولادها . تستفيد ريما من كلّ زيارة يقوم بها جيلبير إلى لبنان لتعزيز أواصرالعلاقة المتينة مع زوجها والعائلة.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024
شؤون الأسرة
اقتراحات تمييزية للتشويش على حق الأمهات اللبنانيات بإعطاء الجنسية لأطفالهن
شؤون الأسرة
عائلة حسام ورولا تنقل تفاصيل دقيقة عن الحياة في هولندا بكل صعوباتها وإيجابياتها
شؤون الأسرة