طوكيو الجميلة مدينة تفاصيلها لا تنتهي
طوكيو هذه المدينة التي طالما شغلتني وأنا أكتب عنها من دون أن أراها، وجعلت مخيّلتي تفور بصور عالم التكنولوجيا الياباني، ناطحات سحاب تعانق الفضاء، حشود غفيرة تتوجه إلى أعمالها بخطى سريعة ومتواترة أشبه بالروبوتات التي تنتجها مصانع اليابان.
هذه الصور الافتراضية التي رسّختها هوليوود في لا وعيي، إمّا تصدق وإمّا تكذب فأشكّل صورًا مغايرة، وفي كلتا الحالتين سوف أكتشف واقعًا أتعرّف إلى تفاصيله من دون تحفظ.
ثلاثة أيام سوف أمضيها في طوكيو، بدعوة من فندق شانغريللا Shangri-la Hotel وبرعاية الخطوط الجويّة القطرية، فهل لي أن أتردد وإن كانت الرحلة بين بيروت وطوكيو مرورًا بالدوحة عاصمة قطر ستستغرق يومي سفر ذهابًا وإيابًا! فيما المكوث في عاصمة اليابان لثلاثة أيام فقط؟
بدأت مغامرتي اليابانية منذ وصولي إلى مطار حمد الدولي، والتعرّف إلى زملاء الرحلة في جناح درجة رجال الأعمال التابع للخطوط الجوية القطرية، الذي يعكس الترف الذي توفره هذه الخطوط على متن طائراتها.
عند الثانية صباحًا أقلعت الطائرة نحو طوكيو، كل تفصيل في مقصورة درجة رجال الأعمال جعلني أنعم بالاسترخاء بعدما استقبلتني المضيفة بابتسامة عريضة، وعرضت عليّ لائحة الطعام، كما لو أنني في فندق خمس نجوم، يحلّق في الفضاء، وضعت حقيبتي في أحد صناديق التخزين الموجودة في المقعد، واكتشفت البرامج الترفيهية المتوافرة وقرّرت مشاهدة أحد الأفلام الجديدة.
غلبني النعاس رغم أنني لم أعتد النوم في الطائرة مهما كانت سبل الراحة المتوافرة. يبدو أنني أردت، في لا وعيي، أن أحرق مسافة العشر ساعات الزمنية بين الدوحة وطوكيو بالنوم. ولمَ لا؟ فمقعدي تحوّل سريرًا مسطحًا والنوم أجمل وسيلة للتخلص من الشعور ببطء حركة الزمن.
اللقاء الأول طوكيو في جنح المساء
عند السادسة مساء بتوقيت طوكيو، استيقظت على صوت ربّان الطائرة يعلمنا بوصولنا إلى مطار ناريتا الدولي، من كوّة الطائرة حاولت استطلاع طوكيو من الجو، لم أرَ سوى القليل، فالسحب الربيعية كانت تجتاح فضاء المدينة.
اخترقت بوابة مطار ناريتا وحاولت اكتشاف المدينة في وجوه العاملين فيه الذين بدوا لبقين، يدلّوننا على مسارنا بهدوء وبإشارات مهذّبة، بحثت عن كشك صيرفة في المطار لتحويل الدولار إلى الين عملاً بنصيحة زميلتي ماغي التي زارتها قبل شهرين، وأكدت لي أنني سأحصل على سعر أفضل، وهكذا كان .
ثم ركبنا قطار الأنفاق «ناريتا أكسبريس» نحو محطة طوكيو، حيث نصل إلى المقلب الآخر من المدينة القريب من فندق شانغريللا Shangri- la بحوالى 100 متر. عند بهو الاستقبال رحبت بنا البوّابة الشابة، بابتسامة وتحيّة يابانية لنصعد إلى الطبقة الثامنة والعشرين، حيث مكتب الاستقبال الخاص بالفندق. اليابانيون يتكلّمون بهمس ويشعرونك بالخجل لكثرة لباقتهم واحترامهم الآخرين.
دخلت غرفتي التي كانت في الطبقة السادسة والثلاثين والمشرفة على طوكيو بنافذتها العملاقة. تنم تفاصيل الغرفة عن الترف الذي سأنعم به خلال أيامي الثلاثة في الفندق. لفتني توفير بيجاما للنزيل في فندق شانغريللا، وهذا أمر بالفعل يُحتسب للقيّمين على الفندق، فقد نزلت في الكثير من فنادق الخمس نجوم حول العالم، ولم يوفر أحدها بيجاما! لم أدقق في الغرفة، بل بدلت ملابسي على عجل لأن ميومي مديرة العلاقات في الفندق سوف تلتقينا على مائدة عشاء ترحيبي في الطبقة التاسعة والعشرين في مطعم «نادمان» أحد مطاعم الفندق.
تتميّز هندسة المطعم الداخلية بذوق رفيع يوفر أجواء الاسترخاء والحميمية الملازمين للترف الياباني، انهالت علينا الأطباق اليابانية التي أعدّها أفضل طهاة طوكيو، واللافت أننا لم نشعر بالتخمة. كيف للسوشي في بلده الأصلي أن يفعل!
اليوم الأوّل طوكيو وشتاء الربيع
على الرغم من أنني لم أواجه مشكلة فارق الوقت بين بلدي لبنان وأي بلد آخر، فإنني لم أستطع التكيف مع فارق الخمس ساعات التي تسبق بها طوكيو بيروت، مما جعلني أستيقظ باكرًا جدًّا، لأتأمل صباح طوكيو الربيعي.
تحاول خيوط الشمس الصباحية بسط دفئها على المدينة، لكن عناد السحب الرمادية الكثيفة كان أقوى من نورها. قرّرت الصعود إلى الطبقة السابعة والثلاثين لأتناول فطوري في Horizon club ، الهمس والاحترام الياباني سيّدا الأجواء.
كما عينا الصقر حاولت أن أترصد تفاصيل طوكيو، من طاولتي المتمركزة عند الشرفة الزجاجية العملاقة رصدت ما يشبه مجموعة من العمّال يقفون بالصف، يرتدون «الأوفر -أول» الأزرق، والخوذة البيضاء، لاحظت رغم صغر حجمهم من الطبقة السابعة والثلاثين، أن هؤلاء العمال يقومون بحركات رياضية، سألت النادلة: «هل ما أراه حقيقي؟ إنهم يمارسون الرياضة قبل البدء بالعمل!» أجابتني نعم، معظم شركات البناء في طوكيو يطلبون من عمّالهم ممارسة بعض التمارين الرياضية على أرض الورشة، وهذا نوع من التحمية ليبدأوا يومهم العملي بنشاط. كنت أظن أن الأفلام الوثائقية تبالغ في تصوير اليابانيين عمومًا وسكان طوكيو خصوصًا، أنهم أناس جديون ويبغون الكمال في كل ما يفعلونه وينجزونه.
حفّزني هذا المشهد لاكتشاف صباح طوكيو وجهًا لوجه. حملت المظلة، وكما في قصة هانسيل وغريتل، وضعت لنفسي نقاط مرجع تساعدني في العودة إلى الفندق، لكنني لم أنثر حصى أو فتات خبز، بل حفظت معالم أبنية وأسماء شوارع، من المستحيل أن يأتي عصفور ويلتهمها.
الجميع في طوكيو، أقلّه في المنطقة التي يوجد فيها الفندق، يسير بخطى سريعة، الرجال يرتدون البدلة الرسمية مع ربطة العنق، والنساء يرتدين الملابس الأنيقة العملية، لا أحد يتكلم بل يسير الجميع بخطى حثيثة يعبرون الإشارات الضوئية، إلا أنا كنت أدقق في كل تفصيل في المدينة أتبختر في مشيتي غير آبهة لسرعة الزمن. كدت أن أغوص أكثر في هذه المتاهة اليابانية الفريدة وأنا ألتقط الصور، إلى أن شعرت بأنني ابتعدت كثيرًا عن الفندق، فما كان مني إلا أن عدت إليه.
عند العاشرة صباحًا، جالت بنا ميومي في أرجاء الفندق وأجنحته. يضم شانغريللا 200 غرفة فخمة من ضمنها ستة عشر جناحًا، وسبا ومسبح داخلي ونادٍ رياضي يفتح أبوابه عند السادسة صباحًا. لكل تفصيل في هذا الفندق قصة إبداع مهندس، ثريات الكريستال المتدلية في مداخل الفندق الرئيسية، جاءت حبّاتها على شكل ورقة غينكو بيلوبا اليابانية.
وقد لفتت أنظارنا ثريا، صُنعت في الجمهورية التشيكية، بطول عشرة أمتار متدلية بين طبقتين تشكلت من 486,500 حبة كريستال، و1,070 رقاقة كريستال مشغولة يدويًا صممت الثريا تانا دفوراكوفا، وقد شعرنا جميعًا بالشفقة على من يقوم بتنظيفها، لا بد له من أن يكون دقيقًا جدًا ومتنبهًا إلى أقصى حدود.
مغامرة التيه في طوكيو
بعد الجولة الفندقية، ركبنا التاكسي متوجّهين نحو كانتاناكا Kanetanaka cafe وهو مقهى يقدّم أطباقًا يابانية خفيفة، وكل أنواع الشاي الياباني. رغم شهرة المطعم تظن أنه كبير، ولكنه في الحقيقة مؤلف من طاولتين طويلتين، تسع الواحدة منهما حوالى عشرة أشخاص.
انهالت الأطباق، واحدًا تلو الآخر، بعضها لم يرق لي، فهي يابانية بامتياز ترتكز على ثمار البحر وأعشابه. بعد الغداء، جلنا في منطقة أوموتيساندوOmotesando التي يقع فيها المطعم. وأوموتيساندو هي شانزليزيه طوكيو، هذا ما أكدته ميومي، فعلى طول الجادة غُرست الأشجار على الرصيفين المتقابلين، تتأملها بوتيكات لأرقى الدور العالمية مثل شانيل وبرادا وأرماني وغيرها. توزّع زملاء الرحلة بين البوتيكات، أما أنا وزيزي، فقررنا العودة إلى الفندق.
اقترحت على زيزي أن نسير على أقدامنا، على أن نستقل سيارة أجرة حين نشعر بالتعب. كان المطر خفيفًا يلثم طوكيو بهدوء، أطلنا المسير حوالى الساعتين وقد ظننا أن الفندق أصبح قريبًا.
حاولنا أن نستوقف المارة، نسألهم عن موقع الفندق. إذا ما ذهبت إلى طوكيو وتهت تجنبي سؤال من هم في سن كبيرة، بل اسألي صغار السن. ذلك أن صغار السن يعرفون بعض الإنكليزية فيما تكون المهمة مستحيلة على من هم في عقدهم الرابع أو الخامس.
أرشدتنا إحدى السيدات إلى الاتجاه الصحيح، ولكن لم نكن نرى لوحة تشير الى مارونوشي Marunouchi المنطقة التي يقع فيها فندق شانغريللا، إلى أن استوقفنا شابًا بدا في العشرين من عمره، وسألناه عن الاتجاه، فما كان منه إلا أن اتصل بالفندق وأخبرهم ربما نحن تائهتان في طوكيو.
ما عرفناه هو أننا في غينزا Ginza، وعلينا أن نستقل محطة طوكيو، شكرنا الشاب وأكملنا المسير. وصلنا إلى مدخل المحطة ولكن ترددنا فعدنا واستقلينا سيارة أجرة وقد أرينا السائق بطاقة الفندق كي يقلّنا.
اكتشاف مركز التسوّق وعشاء إيطالي ومحاولة سهر بنمط ياباني
وصلنا الفندق، ولكن طوكيو كانت تصر على دعوتنا لاكتشافها، ذكرت لزيزي أنّ هناك مركز تسوّق قريبًا من الفندق وهو متيسكوشي Mitsukoshi، رأيته خلال جولتي الصباحية. تحمست للفكرة وتوجهنا إليه، ولكن زيزي كانت تتأكد من أنني أعرف الطريق جيدًا.
وصلنا إلى مركز التسوّق، المؤلف من طبقات عدة تضم بوتيكات لدور أزياء عالمية ويابانية، حاولت زيزي مقارنة الأسعار بين طوكيو ودبي، ووجدت أن ليس هناك فارق كبير بين المدينتين. قررنا العودة إلى الفندق للاستعداد للعشاء في مطعم بياشيريه Piacere الإيطالي الموجود في الطبقة الثامنة والعشرين.
يتميز Piacere بهندسة داخلية جريئة وديناميكية ويميل أثاثه إلى الترف، فثرياته من الكريستال الفينسي، وألوانه تعكس دفء البحر المتوسط ليمثل صالونات المطاعم الإيطالية الكبرى فيمنح رواد المكان شعور الدولتشي فيتا.
بعدما انتهينا من تناول عشاء إيطالي في عقر الدار اليابانية، قررنا وزملاء الرحلة، التعرف إلى حياة طوكيو الليلية.
روبونغي منطقة السهر التي لا تنام وبرج إيفيل «الطوكيوي» يراقب
رغم المطر توجهنا إلى المنطقة القريبة من الفندق، ولكن زملاء الرحلة كانوا يصرّون على السهر بطريقة سكان طوكيو، أي الذهاب إلى نادٍ تقام فيه حفلة كاريوكي، وهذا ما لم يكن موجودًا في المنطقة المحيطة بالفندق.
ركبنا سيارة أجرة وكان السائق لطيفًا وطريفًا، يتقن الإنكليزية، لأنه كان يعمل في شبابه صحافيًا، ونصحنا بمنطقة روبونغي، إنها منطقة السهر التي لا تنام حتى ساعات الفجر الأولى. ترجلنا من سيارة الأجرة ورحنا نسير ونتعرف إلى هذه المنطقة التي رغم أنها الثانية عشرة مساء كانت مزدحمة بالناس، وعندما نظرنا إلى أقصاها لاح من بعيد برج إيفيل «الطوكيوي». سألنا عن نادي كاريوكي، فأرشدونا إلى أهم واحد في طوكيو، وعندما دخلنا بحماسة، قال لنا موظف الاستقبال إن لا مكان شاغرًا،علمًا أن الهدوء الكامل كان يخيّم على النادي.
عدنا وسألنا عن نادٍ آخر ولكن عبثًا حاولنا لأن الجميع كان يدلنا على النادي نفسه. بعدما باءت محاولتنا حضور كاريوكي بالفشل، انهينا سهرتنا مع لعبة الرشق بالسهام Darts Board، في أحد النوادي الليلية، وقد اشتدت المنافسة في ما بيننا على رمي السهم في وسط اللوح، ونجحت ثلاث مرات.
انتهى يومي الأول في طوكيو مع كثير من المرح، اكتشفت بعضًا من وجوه المدينة وبقي الكثير مما خفي عني، سأكتشف أيضًا بعضًا منها. فغدًا زيارة إلى بيت الشاي الياباني وجولة في الحديقة الإمبراطورية، وعشاء في أحد المطاعم الأكثر شهرة في طوكيو.
معلومات مفيدة
مواقع تساعد في البحث عن أفضل أماكن التسوّق في طوكيو:
www.marunouchi.com/e/shop?type=top
www.ginza.jp/?lang=en
http://omotesando.or.jp/en
مواقيت فتح المصارف والأسواق التجارية
- تفتح المصارف أبوابها من التاسعة صباحًا حتى الثالثة عصرًا
- تفتح المتاجر أبوابها من الثامنة صباحًا حتى التاسعة مساء. أما مراكز التسوّق فتفتح من العاشرة صباحًا حتى الثامنة مساء.
- يمكن استعمال مياه الصنبور في اليابان للشرب فهي آمنة ونقية.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024