تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

عبده وازن يجابه الخوف بالحياة: «الأيام ليست لنودّعها» ديوان جديد

كلّما كتب نصاً، سيرةً، رواية، تراه يعود إلى الشعر كعودة الإنسان إلى الأرض. أليس الشعر هو فنّ الفطرة؟ الأصل؟ البدايات؟ هكذا تبدو تجربة عبده وازن الإبداعية متأرجحة بين كونه ناثراً وشاعراً. فبعد رواية سير ذاتية عنوانها «غرفة أبي» (2014، منشورات ضفاف)، يرجع عبده وازن إلى الشعر بديوان «الأيام ليست لنودّعها» (2015، منشورات الجمل) مدفوعاً برغبة في الصمت، في السكينة، في التأمل. لذا، نلتمس في قصائده المكثفة اختزالاً يجعل من لغته «المتخففة» أقرب إلى الامحّاء منها إلى الكلام. «صرخة المكان/ يسمعها رجل أصمّ/ الدم الذي يلطّخ البياض/ يبصره رجل/ فَقَدَ ضوء عينيه» (جدلية).

شعر وازن النضر كلون الماء وسلاستها أشبه بتطهّر من أدران الثرثرة والمبالغات. إنّه يُماهي في قصائده بين البلاغة والصمت، بين التجربة والسؤال، بين الحياة والموت. وهذا ما يتّضح جلياً في ديوانه الجديد المُهدى إلى الشاعر الراحل أنسي الحاج «الساطع بحضوره أبداً».

«الأيام ليست لنودّعها»، عنوان يبتكر أسلوباً مغايراً للعيش، يقودنا ربما إلى المذهب الإبيقوري حيث التبشير بمبدأ اللذّة مقابل الخوف والموت. فكرة الزمن نفسها حاضرة في عنوان يستحقّ وحده أن يكون قصيدة «الأيام ليست لنودّعها»، وفيه إيماءة إلى ضرورة تخليد اللحظة في عالم مهدّد بالزوال. الأيام إذاً لنخلّدها، ونحياها مقابل موت مجانيّ يلفّ عالمنا، وحروب عبثية تهدر أيّامنا.
يمتدّ اشتغال الشاعر على فكرة الزمن في أكثر من قصيدة مثل: «صفحة طويتها/ تليها صفحة أطويها/ إنها الأيام تنقلب إلى وراء/ مثلما تسقط شجرة من ثمرة/ مثلما تشرق شمس من قطرة ضوء/ مثلما ينبجس بحر من صدفة. / العين ترسم تخوم عالم قد يولد يوماً/ الماضي المعلّق على جدار/ سيلتمع مع أول نهار» (قصيدة إلى وراء).
يكتب وازن ديوانه بنَفَسٍ صوفي «تأمليّ»، ولكن هذا لا يمنع الشاعر من التفاعل مع قضايا زمنه ومجتمعه.
 إنّ إخفاقات هذا العالم وصراعاته الكثيرة تثير استياء الشاعر، لكنّ غضبه يظلّ داخلياً فتخرج نبرته خافتة، مؤثِراً هدوءاً يلائم حالة اغترابه عن هذه التوحشية السائدة. يُغيّر الشاعر مفاهيم الموت، فيصنع بكلماته العالم الذي يصبو اليه. عالم من الجمال والسحر. العتمة تصير جميلة بلون الليلك «الضوء عذب على شفتيها/ مثل وردة/ العتمة عذبة على شفتيها/ مثل ليلكة» (طباق). أطفال فلسطين وسورية المقتولون يصيرون «كأنهم نائمون»: «على أسرّة من بنفسج/ أغمضوا عيونهم». وفي قصيدة جميلة مهداة «إلى هولدرلن» بعنوان «هجرة»، يتساءل الشاعر عن كل هذا الصمت إزاء تقاتل أبناء البشر. لكنه يظلّ مراهناً على نور يغمر أعماقنا. نور نجابه به شرّ قلوب سوداء. فالحبّ يغدو سلاح الأنقياء، والخوف سمة الطغاة والبرابرة. «البرابرة يختفون في الصباح/ عندما تبزغ الشمس/ البرابرة يخافون/ سراب الدم على العتبات/ يخافون أيضاً ضوء عيون/ ترمقهم برأفة./ لا يترك البرابرة وراءهم أثراً/ البرابرة يمحون العالم بنظراتهم/ ويغادرون». من هنا، نجد أنّ فعل المغادرة - وبالتالي الموت والزوال - يظلّ لصيق الأشرار لا الطيبين.
قد يطغى العام على الخاص، والـ «نحن» على «الأنا» في «الأيام ليست لنودّعها»، ولكن في القصيدة الأخيرة من الديوان «النائمة»، وهي الأطول بين قصائد الديوان، يكتب الشاعر تجربته مع موت حبيبة له «إلى ليليان: سوسنة الصباح التي سقطت في مهوى الأربعين»... كأنّه يأبى الاعتراف بموتها. فالحبيبة هنا مثل كلّ الأنقياء لا تموت. فالموت يستحيل نوماً هنيئاً، بديعياً، يتمناه جميعنا. وهو في هذه القصيدة يستعير من الموروث الثقافي المحفور في ذاكرتنا قصة «الأميرة النائمة» ليهديها إلى حبيبته «المتوفاة»: الجميلة النائمة/ الجميلة التي نسيت نفسها نائمة/ التي لم يوقظها ملاك/ التي لم يطرق عصفور زجاج غفوتها/ التي لم تسمع سقوط الليل على وجهها/ التي لم تُبصر طيفها ينكسر بخفّة/ التي لم تضمّها ذراعان عندما هوت... الجميلة النائمة/ التي ستظلّ جميلة نائمة/ التي ستظلّ جميلة/ التي ستظلّ نائمة».
لا يُثقل وازن قصيدته بالترصيع اللغوي والبديعي، لكنّ هذا لا يلغي اعتناءه باللغة والجمالية الصورية. فالقصائد تحتفل بصور جديدة توحد بين الطبيعة والإنسان على نحو صوفي تميّز به وازن. «قال العجوز لشجرة قرب النافذة: عندما أموت سأكون في قلبك. في صندوق الخشب الذي يغلقونه عليّ/ سأشمّ حليب جذعك/ أوراقك ستسقط عليّ في الخريف» («صندوق»: نص شعري).
يعمد وازن في لغته إلى تعريف ما لا يُعرّف وتبديل المعاني المتعارفة بما هو عكسها، فيستخدم صوراً بيانية صادمة كالتناقض الظاهري أو ما يعرف بالإرداف الخلفي كقوله: «العروس الأشدّ بياضاً من العتمة» (ص150)، أو «ما يراه المكفوفون بعيون زرقاء» (ص 44)...
«الأيام ليست لنودّعها» ديوان يجمع بين قصائد قصيرة، ما عدا القصيدة الأخيرة، وهي تعتبر طويلة نسبياً. قصائد تجمع بين تجارب ذاتية وأخرى عامة، بين لغة بسيطة وموضوعات متشابكة، بين رؤية شعرية وموروث ثقافي تتوزّع على قصائد منوعة، منها: «ليس الخريف خريفاً/ الربيع أقلّ من ربيع/ الشتاء لم يأتِ بغيمة/ الصيف خافت مثل قبّرة./ كان على الفصول أن تكتمل/ ليكتب الشاعر قصيدة/ كانت تنقص شجرة تخضّر أوراقها/ كانت تنقص سنابل قمح وجنادب/ شمس يُصيبها شحوب/ سماء تدلّهم في العاصفة./ ظلّ الشاعر حائراً/ القصيدة فاتته بفصولها الأربعة». (قصيدة هايكو).

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079