من حق الأرملة الخروج لعملها أثناء العدة ولا يجوز منع زواجها بعد انقضائها
أصدر الدكتور علي جمعة، مفتي مصر السابق، فتوى جريئة أيّده فيها علماء الأزهر، بأنه لا يجوز حبس الأرملة في بيتها ومنعها من العمل أثناء العدة أو منعها من الزواج بسبب التقاليد، وأشاروا إلى أن الإسلام دين يسر، وأباح للأرملة العمل لأنها قد لا تجد من ينفق عليها. إلا أنه اشترط أن تبيت في منزل زوجها المتوفي ولا تبيت في بيت أهلها، إلا إذا كان بيتها معرضاً للهدم أو به مخاطر، وكذلك أباح لها الزواج الحلال على سنة الله ورسوله، ومن يحرّم الحلال فهو آثم، ومن حقها رفع أمرها إلى القضاء لرفع آثار التقاليد الظالمة عنها.
تفجرت القضية عندما تقدمت أرملة إلى مفتي مصر بسؤال، تقول: «توفي زوجي، وأنا أعمل مدرسة بإحدى المدارس الإعدادية، هل لي الحق في العودة إلى العمل كمدرسة قبل انتهاء فترة الحداد على زوجي؟ علمًا بأنني في بداية العام الدراسي ليس لي الحق في إجازة بهذا الخصوص أو أي نوع من الإجازات المعروفة».
وأشارت إلى أن التقاليد عندهم تمنعها من الخروج من البيت قبل انقضاء سنة على وفاة الزوج، وكذلك تحرّم عليها الزواج إلا بعد مرور عام أو أكثر، وإذا خالفت ذلك تتهم بعدم الوفاء لزوجها المتوفى.
أجاب الدكتور علي جمعة بقوله: «من المقرر شرعاً أن حداد المتوفى عنها زوجها يتمثل في ترك الزينة والتطيب ومظاهر الفرح، وكذلك الالتزام بالمبيت في بيت الزوجية في فترة العدة المقررة في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» آية 234 سورة البقرة. فيجوز للمعتدة أن تخرج من بيتها نهاراً وبعض الليل لقضاء حوائجها وترتيب معاشها، لكنها تبيت في بيتها، وفي ذلك يقول ابن قدامة: «وللمعتدة الخروج في حوائجها نهارًا سواءٌ كانت مُطلقة أو متوفى عنها زوجها». ويستشهد بما قاله الصحابي الجليل جابر بن عبد الله حين قال: «طُلِّقَتْ خَالَتِي ثَلاثًا فَخَرَجَتْ تَجُدُّ- أي تقطع- نَخْلاً لَهَا فَلَقِيَهَا رَجُلٌ فَنَهَاهَا، فَأَتَتِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَه، فَقَالَ لَهَا: «اخْرُجِي فَجُدِّي نَخْلَكِ لَعَلَّكِ أَنْ تَصَدَّقِي مِنْه أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا»، وروى مُجَاهِدٌ قَالَ: «اسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَآمَ نِسَاؤُهُمْ وَكُنَّ مُتَجَاوِرَاتٍ فِي دَارٍ، فَجِئْنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَوْحِشُ بِاللَّيْلِ فَنَبِيتُ عِنْدَ إِحْدَانَا، فَإِذَا أَصْبَحْنَا تَبَدرْنَا إِلَى بُيُوتِنَا، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عليه وسلم: «تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ فَإِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلِتَؤُبْ كُلُّ امْرَأَة مِنْكُنَّ إِلَى بَيْتِهَا».
ووجه مفتي مصر كلامه إلى صاحبة السؤال قائلاً: «يجوز لك أن تعودي إلى عملك في فترة العدة، شريطة أن تبيتي في بيت الزوجية، كما لا يجوز شرعاً منعك من الزواج بعد انقضاء العدة، ومن يمنعك من ذلك فهو آثم شرعاً، ولا يجوز الاستماع إليه، وإذا أصرَّ أهلك على ذلك فلك أن ترفعي أمرك إلى القضاء لرفع الضرر عنك، لأن هذه تقاليد ظالمة ومخالفة للشرع، وواجب الالتزام بحكم الشرع وليس بالتقاليد المخالفة له».
ضوابط المعتدّة
عن حكم الشرع في عدة المرأة الأرملة، قالت الدكتورة سعاد صالح، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، إن الأرملة نوعان، أولهما إذا كانت معقوداً عليها ولم يتم الدخول بها- أي إنها ما زالت آنسة– فمثل هذه الأرملة إذا توفي زوجها ومازالت في بيت والدها، فليس لها عدة وبالتالي من حقها أن تخرج، لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا»
وأضافت أما المطلقة المتوفى عنها زوجها– أي الأرملة- إذا كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل، ولو كان بعد الموت مباشرة، لقوله تعالى: «وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا» آية 4 سورة الطلاق. وكذلك ما روته زوجة الرسول، صلى الله عليه وسلم، أُمِّ سَلَمَةَ حيث قالت: «وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ». وبالتالي فإن عدّة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء.
وروت الدكتورة سعاد تجربة شخصية لها عندما توفي زوجها الكاتب الصحفي السيد عبد الرؤوف، رئيس تحرير مجلة «عقيدتي»، كانت ملتزمة بتسجيل برامج دينية وأصبحت في حيرة من أمرها في ظل أقوال بعض الفقهاء بعدم خروج الأرملة من بيتها أثناء العدة، وبين ما عليها من التزامات، لهذا قامت بسؤال أكثر من عالم وانتهى الأمر بخروجها إلى تسجيل الحلقات ونشر العلم من خلال محاضراتها في الجامعة، فهذا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات، لقوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» آية 173 سورة البقرة.
وأنهت الدكتورة سعاد كلامها بالهجوم الشديد على الأسر التي تحبس الأرملة سنة في بيتها وتمنعها من حقها في الزواج، مع أنه من حقها التزيُّن وقبول الخطبة والزواج بمجرد انقضاء العدة، ولا قيمة لغير ذلك، ولها أن ترفع شكواها إلى المسؤولين في عائلتها ثم القضاء لرفع الضرر عنها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».
مكان العدة
وتقول الدكتورة فايزة خاطر، رئيس قسم العقيدة بكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، أن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها ولم تكن حاملاً، أربعة أشهر وعشرة أيام، لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» آية 234 سورة البقرة. وهذه المدة لا تختلف إذا كانت الأرملة صغيرة السن أو كبيرة السن، وكذلك سواء كانت كتابية أو مسلمة، وذلك لعموم الآية في الأزواج المتوفى عنهن أزواجهن.
وعن مكان قضاء العدة، وخاصة أن كثيراً من الزوجات يذهبن إلى بيت أهلهن، أشارت الدكتورة فايزة خاطر إلى أن مكان قضاء العدة هو البيت الذي كانت تسكنه وقت وقوع الوفاة، إلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة، سواء كان هذا البيت ملكاً لزوجها أو معاراً له أو مستأجراً، وفي الحضر أو الريف أو البدو، وبالتالي فإن خروج الأرملة إلى بيت أهلها مخالف للشرع.
وعن خروج المعتدة من بيتها قالت: «اختلف الفقهاء في خروج المعتدة، فقد أجاز المالكية والشافعية والحنابلة للمعتدة الخروج لضرورة أو عذر، كأن خافت هدماً أو غرقاً أوعدواً أو لصوصاً أو غير ذلك، وأجاز الحنفية للمعتدة الخروج في حوائجها نهاراً، وكذلك الشافعية أجازوا لها الخروج جزءاً من الليل إلى دار جارتها مثلاً، بشرط أن ترجع وتبيت في بيتها.
وأكدت الدكتورة فايزة أن من حق المعتدة الانتقال من المسكن الذي كانت فيه عند الوفاة إذا خافت هدماً أو أذى محققاً عليها أو على أولادها، وهنا يكون الأمر للضرورة، مع التأكيد على أنه ليس للمعتدة المبيت في غير بيتها الجديد، وكذلك لا يجوز لها الخروج إلا لضرورة وخاصة ليلاً، أما نهاراً فيجوز خروجها لقضاء الحوائج وشراء ما تحتاج إليه، لأنها تحتاج إلى الخروج بالنهار لاكتساب ما تنفقه، وكذلك لأنه لا نفقة لها من الزوج المتوفى بل إن نفقتها عليها، فتحتاج إلى الخروج لتحصيل النفقة، بخلاف المطلَّقة فإن نفقتها على الزوج فلا تحتاج إلى الخروج. وتعجبت الدكتورة فايزة ممن يحرّمون ما أحلَّ الله باسم التقاليد الجاهلية، بمنعهم الأرملة من الخروج أو الزواج إلا بعد انقضاء سنة على الوفاة، فهذا قمة الظلم لها ومن حقها الخروج والزواج والتزيُّن، وإذا عارضها أهلها فلها رفع أمرها إلى القضاء إذا لم يجدِ معهم التفاهم والإقناع.
محرمات
وعن تحريم بعض الفقهاء أي نوع من الزينة على الأرملة، قال الدكتور محمد مختار جمعة، عميد كلية الدراسات الإسلامية للبنين جامعة الأزهر: «يجب على المعتدة من الوفاة الإحداد، وهو ترك الزينة من الحلي أو الكحل أو الحناء، وتجتنب الصباغ كله إلا الأسود، وكذلك تجتنب الطيب كله، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب».
وأشار الدكتور مختار جمعة إلى أنه على الأرملة أن تجتنب كل ما يعتبر زينة شرعاً أو عرفاً، سواء كان يتصل بالبدن أو الثياب أو يلفت الأنظار إليها، كالخروج من مسكنها أو التعرض للخطَّاب، حيث يحرم عليها كل ما يعتبر مرغباً فيها من أدوات الزينة، وتجتنب من الثياب كل ما جرى العرف باعتباره زينة.
وأوضح أنه يجب عليها أن تجتنب الحلي، فقد أجمع الفقهاء على حرمة الذهب بكل صوره عليها، فيلزمها أن تنزعه حينما تعلم بموت زوجها، لا فرق في ذلك بين الأساور والخواتم، ومثله الحلي من الجواهر، ويلحق به ما يتخذ للحلية من غير الذهب والفضة كالعاج وغيره، وكذلك لا يجوز عليها أن تغادر منزلها حتى تنقضي عدتها، لكن ليس من حق أهلها حبسها في المنزل، سواء كان منزل زوجها المتوفى أو منزلهم، ومنعها من حقها في الخطبة والزواج والتزيُّن، بحجة أن هذا ليس فيه وفاء للزوج.
وأنهى كلامه بأنه ينبغي على المسلمة وأوليائها أن يبتعدوا عن التقاليد المخالفة للشرع، والتي منها ما يحبس المرأة في بيتها طوال 130 يوماً من وفاة الزوج، بل على الجميع أن يسمعوا ويطيعوا لأمر الله تعالى، ويعينوا المرأة الأرملة على البقاء في بيتها، ولا يكونوا عوناً لها على مخالفة أمر الله تعالى القائل: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ» الآيتان 51 -52 سورة النور.
التيسير وليس التعسير
وتهاجم الدكتورة آمنة نصير، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، بعض التقاليد في مجتمعاتنا العربية، التي تعيب على الأرملة الخروج للعمل أثناء العدة أو الزواج بعد انقضائها، وتعتبر ذلك نوعاً من عدم الوفاء، بل وصل الأمر ببعض التقاليد إلى أنها تحرم زواج الأرملة أو حتى تزيُّنها بعد انقضاء عدتها، وتشترط أن تبقى لسنة أو حتى سنوات بلا زواج أو زينة، مع أنه ليس من الشرع أن تحد الأرملة على زوجها فوق أربعة أشهر وعشرة أيام، إلا إذا كانت حاملاً فتحد عليه إلى وضع حملها.
ودعت الدكتورة آمنة إلى التيسير مع الأرملة لإخراجها من أزمتها النفسية بفقد الزوج، وليس التعسير عليها ومنعها مما أحله الله لها؛ بحجة التقاليد البالية التي ما أنزل الله بها من سلطان، لقوله تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً» آية 36 سورة الأحزاب.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024