نساء في وحدة إدارة الكوارث
شغلت النساء الفلسطينيات العديد من المناصب التي كانت حكراً على الرجال في ما مضى والتي تتسم في كثير من الأحيان بالخطورة، بل إنهن أثبتن قدرتهن على القيام بمتطلبات هذه الوظائف على أكمل وجه، وقد برز هذا الأمر في إدارة وحدة الكوارث التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني حيث شاركت المرأة الرجل في الوظيفة المكتبية والميدانية وسجلت العديد من المواقف التي أكدت أنها تستحق عن جدارة هذا المنصب الوظيفي، رغم الثقافة المجتمعية البائدة التي تنظر بسلبية الى قيام النساء بمثل هذه الأعمال.
في مقر الهلال الأحمر الفلسطيني في محافظة رام الله والبيرة، التقينا رنا الفقيه (28 عاماً) منسّقة منطقة وسط الضفة الغربية في وحدة الكوارث في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني والحاصلة على بكالوريوس في الخدمة الاجتماعية وكانت تعمل متطوعة قبل أن تحصل على وظيفتها. عن طبيعة مهمتها قالت: «من المهمات التي أقوم بها، بناء القدرات في منطقة الوسط (محافظات أريحا وسلفيت ورام الله والبيرة والقدس)، والعمل على تكوين مجموعة من المتطوعين في هذه المناطق وتدريبهم في مجالات عدة في وحدة الكوارث كي يستطيعوا التعامل مع الكوارث أو إجراء عمليات التقييم التي تسبق الاستجابة».
رنا هي أيضاً عضو إقليمي في الاتحاد الدولي للهلال الأحمر والصليب الأحمر. عن ذلك تقول: «المجتمع الفلسطيني مميز دائماً. ففي دول العالم يعتمدون على المعدّات وليس على الكادر البشري، ونحن نعتمد عكس ذلك. فعندما نشارك في أي نشاط خارج فلسطين، نحصل على المرتبة الأولى، فالمعاناة تخلق منا أناساً أقوياء دائماً».
لم تكن رنا الوحيدة في العائلة التي تمارس هذه المهنة. تضيف: «بما ان والدي سائق إسعاف وشقيقي ضابط إسعاف وشقيقتي ممرضة وأخي إبراهيم متطوع في وحدة الكوارث، فقد حصلنا على ذلك بالوراثة من والدي... وأحياناً أضطر الى النوم في مقر الهلال الأحمر رغم نظرة الناس السلبية حيال هذا الأمر، إلا ان والدي الذي أعتبره قدوتي هو من شجّعني على ذلك.
فأنا قريبة من والدي أكثر من والدتي، فهي مثل أي أم شرقية تريد أن تزوِّج ابنتها وتبقى في البيت لإنجاب الأطفال ورعايتهم. ونحن في وحدة الكوارث أصبحنا عائلة واحدة في تعاملنا مع بعضنا بعضاً ولا أشعر أبداً بالتمييز لكوني امرأة».
وروت رنا عن أحد المواقف الذي كادت أن تتعرض فيه لخطر الموت، فقالت: «عندما كنت متطوعة في الهلال الأحمر الفلسطيني، توجهت مع طاقم العمل إلى منطقة «الجفتلك» في الأغوار ودخلنا احد البيوت، ولأن السيدة التي كنت أتحدث إليها لا تسمع بشكل جيد، اقتربت منها أكثر. وعندما أنهيت اللقاء وخرجت من البيت، اخبرني احد الجيران بأن المرأة مصابة بالسل... عندها انهرت لاعتقادي بأنني أُصبت بالمرض وسأموت».
وتابعت: «هناك أخطار أخرى نتعرض لها دائماً من جانب الاحتلال الإسرائيلي في أثناء المواجهات، بحيث يستهدف طاقمنا الطبي بإطلاق الغاز المسيل للدموع أو الرصاص الحي...».
اكتسبت رنا شخصية قوية خلال عملها في الهلال الأحمر الفلسطيني وأكدت: «تعودت ان أكون قوية وخشنة لأنني قريبة من زملائي الرجال وعملي منحني قوة في الشخصية وجعلني عقلانية أكثر من كوني عاطفية».
وتابعت: «أحب التسوق كثيراً وعملي لا يؤثر في أنوثتي، لكن هذا الزمن بحاجة إلى امرأة صلبة».
واختتمت رنا حديثها بقصة أخرى مع شاب تقدم الى خطبتها فأكدت: «تقدم شاب الى خطبتي وأُجبرتني عائلتي على مقابلته، وعندما بدأ يسألني عن طبيعة عملي، أجبته بشرح مفصل عن إدارة وحدة الكوارث... وبعد مغادرة العريس الذي لم يعد إلى بيتنا مرة أخرى، قال والدي: لم يتبقَّ إلا ان تعرضي للعريس ورقة عمل عن وحدة الكوارث وتبدأي بتدريبه».
أما منسق غرف العمليات في وحدة الكوارث في الهلال الأحمر، سليمان جمعة (26 عاماً) من رام الله فتحدث عن أهمية وجود زميلاته في إدارة وحدة الكوارث قائلاً: «في وحدتي الكوارث والإسعاف هناك زملاء وزميلات. وعندما نغوص في عملنا، يجب ان نؤدي الواجب المطلوب منا، رجالاً ونساء. وقد درّبتنا زميلتنا رنا الفقيه على المهارات المطلوبة في مجالنا». وأضاف: «المرأة تملك القدرة على هذا النوع من العمل وأنا اشعر بأن المجتمع ينظر بإيجابية الى عمل المرأة في وحدة إدارة الكوارث».
وفي احد اقسام الإدارة، التقينا المساعِدة الإدارية رحاب عابد (40 عاماً) والتي بدأت عملها منذ 15 عاماً ولديها خبرة كبيرة في العمل التطوعي وكيفية تشكيل طاقم تطوعي في الإسعاف والطوارئ والكوارث يفيد المجتمع وقت الحاجة. حدثتنا رحاب عن سبب اختيارها هذه المهنة فقالت: «كنت أول امرأة في العائلة تدرس في الجامعة وتحصل على رخصة قيادة. حينها واجهت معارضة شديدة من شقيقي ولكن والدي دعمني حتى أكمل تعليمي واختار لي تخصص الخدمة الاجتماعية في دار الطفل التي أنشأتها السيدة هند الحسيني في القدس، وأنا بالطبع وافقت من دون تردد، وتخرجت بتفوق وعملت مباشرة في الجامعة نفسها».
وأضافت: «في أواخر 1997 عملت مع المتطوعين في دائرة الرعاية الصحية في الهلال الأحمر في القدس ومن ثم انتقلت إلى مقر الهلال الأحمر في رام الله. لكنني وجدت حينها معارضة من العائلة وطلبوا مني أن أعود إلى عملي في القدس ولم أكن أرغب في ذلك، فانتقلت من دائرة الرعاية الصحية الأولية إلى المتطوعين وأصبح العمل أصعب»، وتابعت: «كان أهلي يخافون عليّ ويضطرون الى التوجه إلى رام الله من اجل إعادتي إلى المنزل في القدس وتكرر الأمر مراراً، ما دفعني إلى تقديم استقالتي من الهلال الأحمر».
ولم تكن حال رحاب في الميدان أفضل من حال رنا، إذ تعرضت إلى مواقف نفسية صعبة خلال عملها وتناولت أحدها بالقول: «كنت أبقى داخل سيارة الإسعاف في الميدان، لأن الهلال الأحمر الفلسطيني يحافظ على سلامتنا، وكانت مهمتي تستوجب بقائي داخل سيارة الإسعاف، وكان الكثير من زملائي يخرجون لإنقاذ الجرحى في الميدان وفي بعض الحالات يتعرضون للإصابة وكنا نقوم بإسعافهم. وفي إحدى المرات، أُصيب احد المواطنين برصاص حي في رأسه والدم يتدفق بشدة في سيارة الإسعاف حيث كنت موجودة، ولم أحتمل المشهد وتم نقلي الى المستشفى مباشرة لأنني أصبت بحالة هستيرية، وعلمت لاحقاً ان المصاب بقي على قيد الحياة وقمت بزيارته».
وأضافت: «وبعد 6 أشهر على استقالتي، عدت مرة أخرى الى العمل في الهلال الأحمر، ولكن هذه المرة بعيداً من الميدان، إذ اقتصر دوري على تدريب أشخاص جدد للميدان».
تزوجت رحاب من شاب يعمل في الإسعاف وروت لنا قصة زواجها فقالت: «كان متطوعاً وكنت موظفة وتزوجنا وأصبحت لدينا طفلتان تزوران الآن الهلال الأحمر وترتديان زيّه، ويعمل زوجي مسعفاً حالياً. وأذكر جيداً أن خلال زيارة مفاجئة لرئيس الوزراء الفلسطيني السابق د. سلام فياض الى مقر الهلال الأحمر، شاهد طفلتيّ وسألني عن سبب وجودهما فقلت إنهما متطوعتان صغيرتان، فعبّر عن فرحه بذلك».
تفخر رحاب بزي الهلال وتقول: «أخرج الى الميدان بزي وحدة إدارة الكوارث، وحتى في بيتي أرتدي ملابس الهلال الأحمر، حتى أن منشر غسيلي يمتلئ بهذا الزي».
من ناحيته، أكد مدير إدارة الكوارث المهندس بشير أحمد انه ومنذ تأسيس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني لعبت النساء دوراً أساسياً في تطويرها، وقال: «تأسست الجمعية على مبدأ ان تكون المستجيبة الأولى للطوارئ واحتياجات الشعب الفلسطيني، سواء في الوطن أو في الشتات. وعندما تأسست وحدة إدارة الكوارث بعد عودة الهلال الأحمر إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، كانت النساء عنصراً أساسياً في الاستجابة إلى الطوارئ وإدارة الكوارث. كما أن في الكثير من الحالات يتطلب الأمر وجود العنصر النسائي بشكل أساسي».
وأضاف: «عدد النساء العاملات يفوق عدد الرجال ويصل إلى 53%، وهناك متطوعات بنسبة 40%، وفي حالة الطوارئ تصل النسبة إلى 60%، وفي الكثير من النشاطات التي تقيمها إدارة الكوارث يطغى عدد النساء على عدد الرجال. وفي معظم الأحيان تشارك المرأة في الميدان، ولكن في بعض الحالات وبسبب خصوصية مجتمعنا نلاحظ معوقات تؤثر في صورة المرأة العاملة في هذا المجال. لذلك نحن نعمل منذ أكثر من 10 سنوات على تغيير الثقافة المجتمعية من خلال الفئات المستهدفة بحيث تكون مشاركة المرأة اكبر في الاستجابة للطوارئ. وبالفعل فقد تزايدت أعداد النساء العاملات بشكل ملحوظ والخدمة اصبحت أفضل مقارنة بالسنوات السابقة».
في الختام، تأكد أن للمرأة دوراً أساسياً في جعل العمل في إدارة الكوارث في جمعية الهلال الأحمر أكثر فاعلية وتأثيراً، فقد ضحت المرأة بالكثير وتحملت نظرة المجتمع القاسية حتى تصنع مستقبلاً مشرّفاً ومشرقاً لبلادها وأسرتها، وها هي اليوم تجني ثمار عملها الجاد وصبرها طوال السنوات الماضية.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024