أصغر أسيرة محررة في العالم ملاك الخطيب: شعرت بالبرد في الزنزانة لكنني تحمّلت الأسر
كانت ملاك (14 عاماً) قد أنهت امتحانها الأخير في صفها الثامن وقررت ان تتجول في محيط مدرستها في قرية بيتين قضاء رام الله حينما أحاط بها أربعة من جنود الاحتلال الإسرائيلي بشكل مفاجئ وأجبروها على التوقف وقيّدوها ومن ثم اقتادوها نحو سيارة جيب عسكرية، وانطلقوا بها الى مركز تحقيق تابع لقوات الاحتلال، متّهمينها بما لا يمكن طفلة بمثل سنّها أن تتحمله. ورغم تأكيد ملاك ان كل التهم التي وُجهت إليها ملفقة، أُجبرت على التوقيع على رزمة من الأوراق المكتوبة باللغة العبرية التي لا تفهمها. وبدل أن تخرج من السجن، اقتيدت إلى احد سجون النساء الفلسطينيات المعتقلات من جانب الاحتلال، لتصبح بذلك اصغر أسيرة في العالم أجمع.
حين زرناها في منزلها، خرجت الطفلة ملاك الخطيب من غرفتها بعدما نادتها أمها التي استقبلتنا بكل ترحيب عندما علمت اننا جئنا لمحاورة طفلتها التي حضرت متباطئة في مشيتها وابتسامة خجولة تعلو وجهها وجلست على أحد المقاعد في صالون بيتها. استهلّت ملاك حديثها عن كيفية اعتقالها وقالت: «حين اعتقلني جنود الاحتلال، قام أحدهم بتقييد يدي وبدأ آخران بضربي، ومن ثم اقتادوني معصوبة العينين وأنا أبكي وأدخلوني الى جيب عسكري انطلق بنا إلى جهة مجهولة وأنا مذهولة لا أعي ما يحدث لي». وتتابع: «وبعد فترة، توقف الجيب وجرّني أحد الجنود بشدة وكنت لا أزال معصوبة العينين واقتادني الى مكان ما ومن ثم أُجبرت على الجلوس وأنا مقيّدة. وبعد قليل، بدأ أحد ضباط الاحتلال يكلّمني بعدما نزع العصبة عن عيني وأخذ يكيل إلي التهم، ومنها أنني أحمل سكيناً ورشقتهم بالحجارة وقطعت الشارع، وسألني عمّن أرسلني، لكنني أنكرت كل ما قال، لأنني لم أفعل شيئاً مما ذكره. وفي نهاية التحقيق، أخرج الضابط رزمة من الأوراق المكتوبة باللغة العبرية وطلب مني أن أوقّع عليها، لكنني قلت له إن من حقي الاطلاع عليها، فرفض، ووقّعت لاعتقادي بأنني سأعود إلى البيت، لكن كانت المفاجأة حين اقتادوني مرة أخرى إلى غرفة مظلمة، نقلوني بعدها الى المعتقل الذي تواجدت فيه أسيرات فلسطينيات أخريات».
وتضيف: «استقبلتني الأسيرات بكل محبة، ما خفف عن عائلتي وجع غيابي عنها. في الليل، كنت أشعر بالبرد القارس ولا أجد غطاء يقيني رطوبة السجن. وفي بعض الأحيان، كانت رائحة كريهة تنبعث من الطعام، وكان هناك تقصير في العلاج والاهتمام بالمرضى، ورغم ذلك تحملت العذاب لمدة شهرين».
خضعت ملاك لسبع جلسات محاكمة في محكمة الاحتلال الإسرائيلي، وأوردت: «تم اقتيادي إلى المحكمة وفي المرة الرابعة صدر حكم بسجني لمدة شهرين ودفع غرامة 6000 آلاف شيكل وأن أبقى قيد الإقامة الجبرية لثلاث سنوات. ورغم الضغط الإعلامي الخارجي الذي أجبر محكمة الاحتلال على الانعقاد لثلاث جلسات إضافية، كان القاضي الإسرائيلي يصدر الحكم ذاته عليّ».
وأضافت: «في أحد الأيام، كان من المقرر اقتيادي إلى المحكمة وكنت أشعر بالبرد الشديد، ولاحظ أحد الأسرى المحكومين بأكثر من 25 عاماً أنني لا أقوى على الوقوف من شدة البرد فقدّم لي لفحته وحاول جنود الاحتلال أخذها مني، لكنني تمسكت بها وما زالت معي حتى الآن».
وعما تعلمته ملاك في السجن، تقول: «تعلّمت الصبر والتحمل والقوة والحفاظ على تراثي الفلسطيني من خلال تعلمي التطريز وشكّ الخرز، كما جلبت معي بعض المطرزات التي أنجزتها في السجن».
كانت ملاك تنتظر لحظة خروجها بفارغ الصبر ولكنها لم تكن تدرك أنهم سيفرجون عنها في شكل مفاجىء. تضيف: «في الليلة التي سبقت خروجي من السجن، كنت أتحدث إلى الأسيرات عما نعانيه، وتمنيت لو أبقى في السجن مقابل الإفراج عن الأسيرة لينا الجربوني، ولكن هذه تبقى أمنيات... وفي الساعة الثامنة صباحاً تم إخراجي من السجن فجأة ومن دون إخباري بذلك مسبقاً».
وتتابع: «وقبل أن أتخطى حاجز جبارة الإسرائيلي المُقام على أراضي محافظة طولكرم، حاول جيش الاحتلال أن يأخذ «البلوزة» التي كنت ارتديها ومكتوب عليها «فلسطينية»، لكنني قاومت، وأسرعت نحو أهلي والإعلام الذي كان بانتظاري».
وتضيف: «احتضنني والداي، وعبّرت أمي عن اشتياقها لي وأنا أبكي في حضنها، ورافقني الجميع إلى مكتب محافظ طولكرم الذي كان في استقبالي، ومن ثم توجهنا إلى قرية بيتين في رام الله حيث أسكن. وهناك كانت الكشافة في انتظاري رغم المطر الغزير والبرد القارس. وبعدها أُقيم مهرجان بحضور محافظة رام الله د. ليلى غنام وشخصيات معروفة، إضافة الى زميلاتي في المدرسة. واستقبلني أخيراً الرئيس محمود عباس، ما جعلني أفتخر بقضيتي الفلسطينية أكثر فأكثر».
وعما تنوي أن تفعله ملاك في المستقبل، تؤكد: «أريد ان أمتهن المحاماة لأتمكن من محاكمة القاضي الذي أصدر حكماً ضدي لأنني صاحبة حق وسأحصل عليه إن شاء الله». وتحدثت أم ملاك عن كيفية تلقيها خبر اعتقال طفلتها قائلة: «كنت في البيت عندما جاء أحد أعضاء المجلس القروي وأخبرنا بأن ملاك اعتقلها الاحتلال الإسرائيلي وأنهم سيعيدونها بعد قليل، فبكيت بشدة. خرجنا من المنزل للبحث عنها ولكن بعد محاولات عدة تم إخبارنا بأنها ستخضع للمحاكمة لدى محكمة الاحتلال الإسرائيلي وبدأت ألطم رأسي من هول الخبر». وتضيف: «وفي أثناء جلسات المحاكمة، كنت أرافق والد ملاك ومُنعنا من التحدث أو النظر إليها وكنت أحبس دمعتي لئلا تنهار ابنتي أمام القاضي الإسرائيلي». وتؤكد: «يوم خروج ابنتي من الأسر كان شديد البرودة... وقفت برفقة والدها مع مجموعة من الناس في انتظار خروجها عند الثامنة صباحاً، إلا أن جيش الاحتلال تفنن في إيذائنا نفسياً وجسدياً حين مدّد مهلة الإفراج عن ملاك. كنا ننتظر تحت المطر، وعندما أفرج عنها خرجت وهي ترتجف من البرد وحضنتني».
من ناحيته، تحدث الاختصاصي النفسي محمد العوري عن تأثير تجربة الاعتقال في الاطفال، فقال: «الاعتقال بكل ما يحمله من تفاصيل هو تجربة سيئة، تلقي بظلالها على نفسية المعتقل. كما يأتي وقع التأثير النفسي صادماً على الطفل لأنه لا يملك الوعي الكافي أو القدرة على التحمّل ومواجهة الظروف الضاغطة التي تتمثل بالاعتقال والمعاملة اللاإنسانية في زنازين الأسر».
ويتابع: «والاضطراب الذي يحصل لدى الأسرى غالباً ما يسمى اضطراب ما بعد الصدمة، ويترافق مع العديد من الأمراض النفسية كأن تتكرر الأحلام المزعجة التي تتعلق بالسجن، أو يصاب الشخص بالقلق والتوتر أو الرهاب فيصبح أكثر ميلاً للعزلة. وقد تنمو لدى بعض الأطفال الرغبة في افتعال العنف والعصبية والحركة الزائدة. وتؤثر كذلك مدة الاعتقال في المعتقل. فإذا كانت فترة الأسر طويلة، تضطهد الطفل فكرة العودة إلى السجن مجدداً ويسيطر عليه خوف من المجهول، فيفقد الشعور بالأمان. كما يؤثر الاعتقال في مستوى الطفل الدراسي، فلا يعود يملك القدرة على الانتباه والتركيز والتواصل والتحليل. لذا يجب أن يتلقّى الطفل علاجاً نفسياً بعد تجربة الاعتقال لضمان عدم معاناته من أي أعراض نفسية في المستقبل».
واختتم محمد العوري حديثة مؤكداً: «للأسف، نقلل أحياناً في مجتمعنا الفلسطيني من دور العلاج النفسي وأهميته بسبب المفاهيم الخاطئة التي تلاحق من يخضعون الى العلاج النفسي، فيُحرم الكثير من الأطفال من تلقي العلاج المناسب على أيدي الاختصاصيين. وهنا يأتي دور الأهل والمدرسة في ترغيب الطفل ليتمكن من مواجهة التغيرات التي قد تطرأ على سلوكه».
إحدى الدراسات الصادرة عن مركز المعلومات الفلسطيني، أشارت إلى ان عدد الأسرى الأطفال (ما دون سن الـ 18 وفقاً للقوانين الدولية) في سجون الاحتلال الإسرائيلي في كانون الأول/ديسمبر 2014، بلغ قرابة 280 طفلاً قاصراً يعيشون ظروف القهر في سجون «عوفر» و«مجدو» و«هشارون». وهؤلاء الأطفال يتعرضون لما يتعرض له الكبار من قسوة التعذيب والمحاكمات الجائرة، والمعاملة غير الإنسانية، التي تنتهك حقوقهم الأساسية، وتهدد مستقبلهم بالضياع، بما يخالف قواعد القانون الدولي واتفاقية الطفل. ملاك الخطيب، أصغر أسيرة في العالم استُقبلت بعد خروجها من سجن الاحتلال استقبال الأبطال وهي تعبر بدورها عن معاناة الأسيرات القابعات في المعتقلات الإسرائيلية... ملاك تحتاج إلى محيط يتفهمها ويدعمها ويساعدها على الاندماج من جديد في واقعها بعد مرورها بتجربة الأسر المريرة.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024