بين هايلاندز وغلاسغو كل الترف الاسكتلندي
تركنا أدنبره متوجّهين نحو منطقة هايلاندز Highlandsحيث سنمضي ثلاثة أيام في بلدتين وننهي زيارتنا في مدينة، ونعيش تجربة التجوال بين دروب اسكتلندا الجبلية والساحلية في آن.
غادرنا العاصمة على أمل أننا تركنا هناك الثلج وبرده، ولكن كلما ابتعدت الحافلة عن أدنبره كان تساقط الثلج يزداد.
بدأنا اختراق الدروب الثلجية حيث كل شيء كان يوحي أن العاصفة ستكون رفيقتنا في الأيام الثلاثة المتبقّية لنا في اسكتلندا رغم تأكيدات زميلي في الرحلة راميشكا ومايكل، المستندة إلى نشرات الطقس الإخبارية التي بدا أنّ توقعاتها لن تصدق.
إلى هايلاندز Highlands واختراق ريف الجنرال الأبيض
أربع ساعات والثلج رفيقنا، يطرق على نوافذ الحافلة الزجاجية برفق، يفسح في المجال للشمس التي كانت تبدو خجولة في ظهورها، لتعود وتختبئ خلف السحب الربيعية.
كلنا كنّا نشعر بالبرد ونشفق على قطعان الأغنام التي كانت في المراعي الثلجية تبحث عما ترعاه.
وأخيرًا ها نحن اقتربنا من قرية بلانفيلد Blanefield الواقعة عند أقدام هضاب كامبسي فيلزCampsie Fells .
عند مدخل مطعم «بلاين فالي إن» Blane Valley Inn توقفت الحافلة وكان الثلج قد غمر القرية وقرميد بيوتها وطرقها الصغيرة، لفتتني سماكة الثلج المستريح على المقاعد الموجودة في باحة المطعم الخارجية، التي بدت أنها تدعوني قائلة Please Have a seat، ركضنا جميعًا إلى داخل المطعم الذي كان مغمورًا بالدفء إن لناحية الألوان أو لناحية الحفاوة التي استُقبلنا بها.
إلى لوك لوموند Loch Lomond
بعد الغداء الدافئ، عدنا وركبنا الحافلة نحو لوك لوموند، وتحديدًا إلى بلدة ألكسندريا. ولوك تعني البحيرة باللهجة الاسكتلندية. توقفت الحافلة أمام مدخل تتوسطه نافورة ماء.
إنه كاميرون هاوس Cameron House الفندق الذي نبيت فيه ليلتنا. وضعنا أمتعتنا في غرفنا، وتوجهنا نحو نادي تابع للفندق يوفر الكثير من النشاطات الرياضية والترفيهية منها الـRib Ride الذي كان ضمن النشاطات التي سنقوم بها، والرب رايد هو مغامرة نخوض فيها ركوب قارب يبحر بسرعة قصوى في Loch Lomond ونقوم بإنزال خاطف في الجزر المحيطة بها، غير أن الطقس لم يسعفنا للقيام بهذه المغامرة، فقد كانت الريح قوية جدًا ولن نستطيع النزول في الجزر واكتشافها.
عدت وزميلتي بتينا إلى الفندق، لأننا لم نتحمس لركوب القارب والإبحار بسرعة بطيئة كما فعلت ميريام ولورين، بل قررنا اكتشاف الفندق نفسه الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر.
كل تفصيل في هذا الفندق التاريخي ينمّ عن ترف أصيل يعيشه الاسكتلنديون. أن ترى التاريخ من الخارج شيء وأن تبيت في أحضانه شعور مختلف.
دفعني اسم الفندق إلى سؤال ما إذا كان يعود إلى عائلة كاميرون رئيس وزراء بريطانيا، فأكّد لي مايكل أن لا علاقة على الإطلاق، فقط مصادفة في الأسماء.
عند السابعة والنصف مساءً، كنّا على موعد مع العشاء في أحد مطاعم الفندق. في البداية، استعرض لنا الشيف أنواع السلمون المتبّل، الذي تذوقناه عند جلوسنا إلى مائدة العشاء، راقني كثيرًا السلمون المتبل بالشمندر.
بعد المقبلات، انهالت علينا الأطباق التي رغم التخمة التي تشعرين بها، فإنك في البداية لن تقاومي تنسيقها ثم طعمها، فلا بأس في أن تغامري برشاقتك في الإجازة، خصوصًا إذا كان الطعام صحيًا مكوّنه الأساسي ثمار البحر وأسماكه.
آيل أوف سكاي Isle of Skye اختراق لمشاهد هوليوود الطبيعية
عند الصباح كنت أول المستعدين لمتابعة المغامرة الاسكتلندية، الشمس بدأت تنثر أشعتها على البحيرة، والثلج ذاب والمرج قد بان، تسلحت بكاميرتي ورحت أطلق العنان لعدستها تصوّر ما طاب لناظري.
البحيرة كانت هادئة تمتص الأزرق السماوي بعد انكشاح الغيم. أثناء وقفة تأملي هذا الجمال، لاحظت توافد زملاء الرحلة استعدادًا لركوب الحافلة والتوجّه إلى جزيرة سكاي Isle of Skye.
في الأمس كانت الثلوج رفيقة دربنا، أما اليوم فقوس قزح هو الرفيق الذي يظهر بين حين وآخر، فيتسابق رفاق الرحلة على تصويره.
رغم أنني معتادة على مشهد جبال الثلج، فأنا من بلاد الأرز، شعرت برهبة كبيرة حين كنا نخترق دروبها المكللة بالثلوج، فارتفاعها المهيب، جعلني أشعر بأنني أسير بين أقدام مردة الجنرال الأبيض، حيث تجمدت الشلالات المنبثقة منها، فيما بعض الشلالات كانت مياهها تتفجر رغم البرد.
أما البحيرات المستريحة عند أقدام هؤلاء المردة الصامتين، فبعضها غطته طبقة من الجليد. في كل مرة كانت الحافلة تتوقف لالتقاط صور، كنت أشعر بأن جبال اسكتلندا ووديانها وأنهارها وبحيراتها ترحّب بي وجهًا لوجه لا نافذة تفصل بيني وبينها.
لا عجب في أن تكون هذه الجبال الاستوديو الذي صوّرت الكاميرا الهوليوودية أجمل المشاهد فيه وتحديدًا سلسلة جيمس بوند، وآخرها فيلم Sky Fall.
في حضرة «اللورد والليدي»
بعد مسير في الحافلة دام حوالى ست ساعات، توقفنا عند عدة محطات ، وصلنا إلى سكاي آيلاند، قطعنا جسر سكاي The Skye Bridge وهو جسر شاهق الارتفاع معلّق فوق Loch Alsh ويصل جزيرة سكاي The isle of Skye بجزيرة أليان بان Eilean Ban.
وأخيرًا وصلنا إلى كينلوك لودج kinloch Lodge، فندق صغير يستريح عند أقدام هضبة كينلوك على شاطئ بحر -البحيرة «نا دال سليت» Sleat Sea-loch Na Dal. قد يصعب وصف المكان والهدوء الساكن هنا على مقربة من الشاطئ. فهنا لا يوجد مكتب استقبال، بل تأتي موظفة الاستقبال لترحّب بك، وتدعوك للجلوس.
ومن ثم تعطيك مفاتيح الغرفة. وللفندق حكاية جميلة، فهو في الأصل منزل اللورد والليدي ماكدونالدز، شُيد في القرن السابع عشر، ليكون منزلهما خلال رحلات الصيد.
وحوّله الأحفاد إلى فندق محافظين على روحية المنزل المصمّم بأناقة تمنح شعورًا بأنك في ضيافة اللورد والليدي. في غرفة الجلوس العابقة بالتاريخ وصور العائلة واللوحات والأنتيك، أخذنا قسطًا من الراحة وتناولنا الشاي، قبل أن توزّع علينا مفاتيح غرفنا.
بعد استراحة قصيرة التقينا مالكوم دليلنا الذي يأخذنا في جولة على الشاطئ، واكتشاف ما يحمله البحر من خيرات.
بدأ مالكوم يحدّثنا عن أنواع الثمار البحرية وكيفية اصطيادها ولا سيما المحار، فاكتشفنا كيف يلتصق بالصخر وكيف يتغذى. شعرت بالشفقة أثناء اصطياد المحار، وسلقه في الماء لتذوّقه، شخصيًا لم أفعل، شعرت بالذنب تجاهه.
رغم البرد جاءت زوجة مالكوم برفقة رضيعتها التي تبلغ ستة أسابيع فقط، أرادت أن تتنزه وتتنشق الهواء العليل. البرد يقتل الجراثيم، هذا ما يؤكده الاسكتلنديون.
انتهت نزهة الشاطئ وعدنا إلى غرفنا لننعم ببعض الدفء والاستعداء للعشاء الذي يعدّه الشيف مارسيللو تولي. انهالت الأطباق الشهية بأناقتها ونكهتها اللذيذة المنسجمة مع روعة المكان وأناقته وتاريخيته.
في الطريق إلى غلاسغو Glasgow إلى عالم المدينة
عند الصباح ودّعت الفندق بغصّة، فرغم الطقس العاصف، كنت أرغب في المكوث فيه مدة أطول. عادت الحافلة تدور بنا في أحضان الريف الاسكتلندي المثلج، نعبر بلداتٍ، وريفاً نثرت بين تضاريسه وأوديته بيوت عتيقة حافظت على بهاء تاريخها. نادرًا ما تصادفين في اسكتلندا مباني عصريّة، يبدو أن هذه البلاد متشبثة بتاريخها إلى أقصى حدود.
غداء في نزل الملوك
بعد ثلاث ساعات ونصف ساعة من المسير، توقفت الحافلة عند نزل ومطعم مورMhor84، استوقفني عند الفناء الخارجي البرميل الذي تحوّل مدفئة فُتحَتُها جاءت على شكل قلب.
وما إن دخلنا استقبلتنا منصة نشر عليها ما لذا وطاب من الحلوى، ولجنا المطعم الذي كان مكتظًا بالرواد، يثير مشهدهم وهم يتناولون الطعام، الشهية. أخذ كل واحد منا موقعه الغذائي على المائدة، وما هي إلا دقائق حتى انضم إلينا طوم لويس، الذي حكى لنا قصة نزله ومطعمه اللذين يفخر بهما.
إنه عمل عائلي، فهو وشقيقه وزوجتاهما يعملون فيه، ويعود تاريخ هذا المكان إلى 300 عام وكان نزل الملوك يستريحون فيه، أعيد افتتاحه عام 2013.
وفي التاريخ الحديث يعود هذا النزل الى والدي طوم وديك اللذين انتقلا للعيش فيه عام 1983، فكان الوالد يعمل في تربية الأغنام والماشية والأم تقدّم وجبة الإفطار وتؤمّن المنامة للمسافرين.
وهكذا تطور وتحول إلى نزل ومطعم، ومن الحكاية نفهم اسم النزل Mhor 84, Eat, Drink, Sleep. في الطبقة العليا 14 غرفة توفر الراحة للمسافرين مسافات طويلة.
ودّعنا طوم وقد أهدى زملاء الرحلة علب الحلوى التي اشتهوها عندما دخلنا المطعم، إذ أمامنا مسافة سفر طويلة نسبيًا.
ها قد لاحت لنا المظاهر المُدُنية، إنها غلاسغو المحطة الأخيرة لرحلتنا. كانت المدينة تضجّ بالحركة، كانت الساعة الخامسة والناس عائدون من أعمالهم، لا مشاهد ثلوج هنا بل أبنية تاريخية تحضنها الحداثة برفق.
توقفت الحافلة أمام مدخل لمجموعة منازل متلاصقة، إنه الفندق الذي سأبيت فيه ليلتي الأخيرة.
في مكتب الاستقبال رحّب بنا ووزّعت علينا مفاتيح غرفنا، الطريف أن لكل غرفة اسمًا بدلاً من رقم، للأسف لم أعد أذكر اسم الغرفة التي نزلت فيها.
ولكن أذكر تمامًا استقبال البواب لنا بزيّه الاسكتلندي وبابتسامته العريضة وحفاوته، واللافت أنه كبير السن، وهمّته قوية، فقد حمل حقيبتي بخفة ونحن ننتقل من رواق إلى آخر ثم صعودًا نحو الغرفة.
يحتفظ الفندق بمعالم هذه البيوت بما في ذلك الجدران المغطّاة بخشب البلوط والمواقد العملاقة والسلالم الواسعة ونوافذ الزجاج الملون العملاقة.
لم أتمكن من التعرف إلى غلاسغو، فقد وصلنا متأخرين عن الوقت الذي كان محدّدًا ضمن برنامج الرحلة، والسبب كانت أشغال صيانة الطرق الجبلية.
لذا فإن موعد العشاء قد حان، رافقنا مايكل وساره وراميشكا إلى منطقة كلفين بريدج لتناول العشاء في مطعم سترافيغين Stravaigin. مرّة أخيرة في هذه الرحلة أحار في اختيار وجبتي من لائحة الطعام، جرّبت طبق اللحم والجزر الأبيض، كان لذيذًا أكثر مما توقعت.
بعد العشاء قررنا أن نتعرّف إلى حياة سكان غلاسغو الليلية، وتوجهنا إلى منطقة النوادي الليلية التي ذكّرتني إلى هذا الحد أو ذاك بمنطقة جبيل اللبنانية إن لناحية البيوت، وتجاور النوادي الليلية فيها، كان هناك One Man show الروّاد كانوا سعيدين يردّدون الأغنيات معه، ويطالبونه بإعادة الأغنية رغم أن برنامجه قد انتهى، وكذلك موعد إغلاق النادي عند الثانية عشرة منتصف الليل.
انتهت رحلتي الاسكتلندية مع وداعي غلاسغو وتوجهي إلى مطار أدنبره. صحيح أن كاميرتي حملت في ذاكرتها الكثير، ولكن ذاكرتي الإنسانية خزّنت الكثير من المشاهد المتحرّكة، إذ أجمل ما في السفر ليس فقط التجوال بين المعالم التاريخية والتعرف إلى جغرافية المدن التي تزورينها، فهذه معلومات يمكن الاطلاع عليها بكبسة زر عبر الإنترنت... بل أن تعيشي بروحك الإنسانية تفاصيل المدينة التي تظنين أنك غريبة فيها، لتكتشفي وأنت تتحدّثين إلى سكانها وتتعرفين إلى طباعهم أنهم يشبهونك في سماتك الإنسانية، ومن حيث لا تدرين تجدين نفسك أنك نموذج المواطنة العالمية وأن العالم فعلاً تحول إلى قرية كبيرة.
عناوين مهمة:
www.kinloch-lodge.co.uk
www.hotelduvin.com/Glasgow
www.qhotels.co.uk/our-locations/cameron-house/
- إذا قررتِ تمضية إجازة في اسكتلندا، عليك أن تضعي في حقيبتك معطفاً وقفّازات وثياباً صوفية، إذ قد تفاجئين بالأمطار والبرد في عز الصيف. وكما قال لي مايكل «اليوم الواحد في اسكتلندا يجمع أربعة فصول، صيف خريف شتاء وربيع».
- أينما ذهبتِ في اسكتلندا تتوافر لك خدمة الإنترنت و«الواي فاي» مجاناً.
حكاية فندق
لا يوجد في فندق Hotel Du Vin مصعد لأنه في الأصل مؤلف من طبقتين وهو كان مجموعة منازل يعود تاريخ بنائها إلى عام 1886، وسكن في أحدها السير وليام بوريل عام 1896، وبوريل واحد من أهم تجار النقل البحري في غلاسغو وكان جامع تحف وأنتيك، وهب المجموعات الفنية والتحف التي جمعها إلى مدينة غلاسغو.
ما يعني أنني سأنام في عوالم القرن التاسع عشر بكل ترفه الفيكتوري وبذخه. وعندما تحوّل المنزل فندقًا بدأت إدارته تشتري المنازل الملاصقة واحدًا تلو الآخر وعلى مدى سنوات إلى أن أصبحت المنازل مجتمعة تشكل فندق Hotel du Vin هذا يفسر الأروقة التي تصل المنازل ببعضها والتي تتدرج في الانخفاض.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024