في روايتها الجديدة«عشّاق نجمة»: سلوى البنّا ترسم وطناً بحجم زنزانة
بلغة مكثفة، هادئة وجميلة، اختارت الروائية الفلسطينية سلوى البنّا في روايتها الجديدة «عشاق نجمة» (دار الآداب) أن تكتب عن تخبطات الدول العربية من خلال العودة إلى القضية الأولى، فلسطين. فالأوضاع المشتعلة التي تعيشها المنطقة منذ قيام «الثورات» العربية أبعدت الواقع الفلسطيني عن المشهد الراهن، علماً أنّ للأزمات العربية برمّتها جذوراً متأصلة في المشكلة الفلسطينية بذاتها.
فالرواية تُعبّر، بأحداثها وشخوصها، عن عميق حاجتنا الى إعادة قراءة هذا الواقع، بكلّ ما فيه من تعقيد والتباس، على ضوء ما حدث- وما يحدث- في فلسطين. تنطلق أحداث الرواية من حكاية معبأة بكثافة رمزية يرويها الفلسطيني العجوز أبو المجد، لزميليه في الزنزانة سامي (اللبناني اليساري المتمرّد) ولؤي (الجزائري الأربعيني التائه). حكايته هي عن نجمة، بطلة مكرّسة في الذاكرة الفلسطينية الجماعية. قصة متوارثة تعزّز قيمة الحبّ، كما الأرض، في نفوس الفلسطينيين. «تقول الحكاية إنّ من استحق لعنة نجمة لا تُدركه شمس النهار إلاّ وقد استحال تمثالاً شمعياً. يصطف في باحة دارها الواسعة. ونجمة صبيّة من عمر شجرة الزيتون التي غرسها والدها الحاج فضل في باحة منزله. لحظة حملت له الداية أمّ الخير بُشرى ولادتها. وقد زُفّت وعريسها تحت جذعها في ليلة دام فيها رقص الصبايا والشبان حتى خيوط الفجر الأولى...». تعتمد الكاتبة في «عشاق نجمة» على الحفر في ذاكرة المكان، فتستعيد من خلال بطلها أبو المجد تفاصيل الحياة الفلسطينية بتعددها التراثي والثقافي، كأنها تُعيد بذلك إحياء «فلسطين» الإنسان والمكان والثقافة، وليس فلسطين القضية أو بالأحرى «المأساة» فحسب.
تقدّم رواية سلوى البنّا مسارات متداخلة لشخصيات ثلاث (من أجيال ودول مختلفة)، جمعهم الحسّ القومي العروبي، فالتقوا في زنزانة صغيرة سرعان ما غدت مرادفاً لـ«وطن» عربي استحالت حدوده قضباناً تزيد المواطن العربي وحدة وعزلة. تبدو الشخصيات محاصرة داخل عالم مقفل، تماماً كحال الشعوب العربية اليوم. في الزنزانة، يواجه المعتقلون ظلم «موسى»، معاون السجان الواوي، ليتكشّف لاحقاً عن هوية موسى أو الأصح موشى الصهيوني. لكنهم يهربون من واقعهم عبر قصص التذكر والعودة الى الماضي ليتبيّن للقارئ واقع الحياة التي عايشوها قبل المعتقل. فلكلّ واحد منهم حكاية حبّ هي بمثابة فانوس يُضيء عتمة السجن. هم رجال يحملون القضية بكفّ، والحبّ بكف أخرى. كأنّ الكاتبة أرادت القول إنّ «البطولة» لا تسرق من الرجل إنسانيته، وبالتالي عاطفته. فالنضال يحتاج دوماً إلى موازنة بين القلب والعقل. أمّا الحكي، فهو الأسلوب الذي يُطهّر قلوب هؤلاء المسجونين من أدران ذاك المعتقل. وتستخدم البنّا لهذه الغاية تقنية تعدد الأصوات، فتتطور الحبكة كما لو أنها روايات في رواية واحدة قبل أن يلقى «الأبطال» المصير نفسه. هكذا تتشابك الاسئلة وتتقابل المسارات لتختتم الرواية على هروب يشي بأمل، بفَرَج آتٍ لا محالة. «فتح ذراعيه واحتضن كلاَ من سامي ولؤي وأطلق حنجرته بموّال العتابا مستمتعاً بشعاع الشمس الذي ملأ المكان».
«عشاق نجمة»، رواية تُزاوج بين الحبّ والبطولة، السجن والحرية، الأرض والهوية بأسلوب سردي لا يخلو من التشويق. رواية تُعيد قراءة التاريخ للإضاءة على الواقع. تدرس الراهن المشوّش بأدوات مغايرة ومعطيات جديدة. عن هذه الرواية، وعن تجربتها الإبداعية والتصاقها بالقضايا العربية الساخنة، تحدّثنا مع الكاتبة الفلسطينية سلوى البنّا فكان لنا هذا الحوار:
سلوى البنّا
الأدب في مواجهة «التغريب» الفلسطيني
-تكاد أعمالك لا تخلو من الكتابة عن فلسطين. فهل يُمكن الكتابة أن تعوّض عن وطن «ضائع»؟
لا شيء يمكن أن يغسل الإحساس بالغربة أو أن يعوض عن معاناة افتقاد الوطن او يلغي الحاجة الى ذلك الحضن الشاسع النابض بالطمأنينة والأمان. ثمة قلق دائم. رفض وغضب وتمرّد. هو إحساس بالقهر يسكنني منذ زمن. ثمة وجوه رحلت وفي قلوبها غصّة وحرقة ومرارة. وجوه خطفها الموت ولم ينجح في اختطاف الحلم منها، وبقيت فلسطين تميمة معلّقة في أعناقها وعلى أسفار جفونها. ثم ماذا بعد؟ ألا تستحق فلسطين التاريخية استحضارها على شاشة الذاكرة والقلوب. هناك أجيال حلّت وأخرى سحقتها الغربة، وأجيال ولدت وفي انتظارها منافٍ جديدة بينما عيون الوطن شاخصة ودامية ولا تمل الانتظار. لذا، ومن أجل فلسطين، تتألق الكلمات وتزهو بأجمل الحكايا والصور الحقيقية المولودة من رحم قضية تستحق الاحتضان. ولا شيء كالأدب (قصة ورواية وشعراً وسيرة) قادر على احتضانها واستحضارها بكامل زهوها وتاريخها وجذورها الضاربة عميقاً في حبات ترابها ونجوم سمائها ومواويل بحّارتها. هي تتحدّى بوجهها الفلسطيني الأصيل محاولات الطمس والتغييب والتغريب.
-أنت تنظرين إلى الأدب كرسالة ترتبط بالأرض والهوية؟
نعم، الكتابة بالنسبة إليّ ليست ترفاً ولا رفاهية. وإنما رسالة تولد من الإحساس بالتحدي وتخطي أسوار المفروض والمقبول ومساكنة الواقع. فالكلمة وجدت ليس من أجل التعبير فقط، وإنما للتغيير أيضاً. القضايا التي تستفز القلم كثيرة، وهي تصدمنا دوماً في الكثير من تفاصيل حياتنا وعلاقتنا بالآخر. كتابة من أجل التسلية او المتعة فقط لا تعنيني، فأنا من جيل يؤمن بأنّ الأدب هو مرآة المجتمع بقضاياه وتحدياته وهمومه وطموحاته وأحلامه، فإن نجحت في تجسيد بعض منها أحسست بمتعة حقيقية لا تضاهيها متعة أخرى. الكتابة هي عشقي الكبير الذي لا يمكن أن ينافسه عشق آخر. والكتابة عن فلسطين هي متعة وليست واجباً فقط، خصوصاً حين يتوحدّ فيها العشق مع الهدف.
-تجمع «عشاق نجمة» ثلاث شخصيات أساسية: لؤي الجزائري، سامي اللبناني وأبو المجد الفلسطيني. فهل أردت في هذه التعددية تمثيل الدول العربية التي تتداخل مصائرها إلى حدّ كبير؟
ربما تجسد شخصيات الرواية بتعدد هوياتها وانتماءاتها السياسية وظروفها الاجتماعية شرائح المجتمع العربي وتركيبته الثقافية والفكرية ومعاناته الانسانية والتي تجمعها نقاط مشتركة كثيرة. وهذه الشخصيات- إضافة الى الواوي/ السجان- تعكس الواقع الذي عاشه ويعيشه هذا المجتمع على مدار عقود من الزمن مع تصوير طبيعة العلاقة التي حكمته مع الأنظمة وأجهزتها.
في الحقيقة، الوطن هنا ليس مجرد زنزانة صغيرة وإنما هو وطن مخطوف وهويته برسم التمزق والاغتيال. هو سجن كبير تحتجز قضبانه حلم الوطن الواحد بكل ما يعنيه هذا الحلم من مضامين فكرية وثقافية وسياسية وطموحات ونضالات عاشها الشعب العربي بكل رموزه وتياراته. وقد دفع من أجلها الثمن غالياً.
-قد تكون «نجمة» في الرواية هي المرأة الفلسطينية. لكنّ تتبّع الأحداث قد يومئ بأكثر من ذلك. هل قصدت بها فلسطين نفسها؟
نجمة هي البوصلة التي تصحّح الهدف وتحدد المسار كما تشكل الخلاص وربما الولادة من جديد، وأعني بها فلسطين.
-إلى أي مدى تتماهى القضايا العربية الراهنة مع القضية الفلسطينية التي جسدتها من خلال تداخل المسارات بين الشخصيات العربية في روايتك؟
لؤي الجزائري، كما ابو المجد الفلسطيني وسامي اللبناني والسجان الملقب بـ»الواوي» هم نماذج لشرائح اجتماعية وحّدتها المعاناة الناجمة عن الاضطهاد والتبعية ومصادرة القرار، وأيضاً الاحباطات والانكسارات. لكنّ شخصية سامي بعنفوانه وتمرّده تبقى هي الأقرب الى واقع شبابنا العربي اليوم وطرق استدراجه واستغلال ظروفه، وربما تمرده على الواقع. هوية الفلسطيني ليست وحدها المستهدفة حكماً في الرواية وإنما هوية المواطن العربي والوطن ككل. وربما تماهي الانسان العربي مع قناعاته وخياراته ووحدة المصير والهدف يشكل بداية تأطير هذه الهوية.
-تفتح روايتك في مختتمها كوّة أمل بعد تواتر الأحداث وتعقيداتها. هل ينسحب هذا التفاؤل على المشهد العربي الغارق في سوداويته؟
الأمل دائماً هو رديف الخلاص. صحيح أن واقعنا محبط ومخيف، ولكن لا بد من الأمل الذي يضيء نافذة الخلاص، والأمل هنا وحدة الهدف. فحين تلاقت الأيدي وأمسكت بالبوصلة، تحطمت جدران السجن وتنفس الجميع نسائم الحرية. وأود هنا ان أضيء على الوجه الآخر لأبطال الرواية، ذلك الوجه المشع بدفء الحب بكل صخبه ودرجة حرارته وألوانه. لكل منهم حكاية عشق لامرأة لم تغادر عروقه ولطالما استحضرها في أشد لحظات الوجع وأكثرها مرارة. امراة سكنته ولم تغادر.
❊ سلوى البنّا، روائية فلسطينية. من مؤلفاتها: «عروس خلف النهر، مطر في صباح دافئ، الآتي من المسافات الوجه الآخر، كوابيس الفرح، العامورة... عروس الأرض، حذاء صاحب السعادة، امرأة خارج الزمن».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024