يرسمن الشوارع والجدران لنشر البهجة فتيات يرفعن شعار: «يللا نلونها»
تسلّحن بالفرشاة والألوان في مواجهة الاكتئاب الذي خيّم على المصريين وبات سمة أساسية من سمات الشوارع الرمادية اللون، بعد الكثير من الأحداث الصعبة التي مرّت بها مصر أخيراً، حيث قرر عدد من طالبات كلية الفنون الجميلة النزول إلى شوارع القاهرة لتغيير ألوانها وإضفاء البهجة على سكانها والمارّة، ورفعن شعار «يللا نلونها»، فما هي تفاصيل تلك الحملة؟ وكيف كانت ردود الفعل عليها؟
«هنغيّر... هنلوّن... هنطوّر»، شعار حملة «هنلونها» التي أطلقتها كريستين ظريف، طالبة قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة، بهدف خدمة المجتمع وتجميل شوارع قاهرة المعز، والتي أطلقتها عبر «غروب» دفعتها في الكلية، وبدأت العمل الفعلي بعشر فتيات فقط، حتى وصلن إلى 40 محاربة ضد قتامة اللون الرمادي.
استوحت كريستين (21 سنة)، طالبة في السنة الثالثة في كلية الفنون الجميلة، الفكرة من جداريات الغرافيتي التي انتشرت في ميدان التحرير بعد ثورة 25 يناير، والتي التصقت بالعديد من الأحداث، كاستشهاد مشجّعي نادي الأهلي ورسوم الغرافيتي في منطقة الجزيرة المحيطة بالنادي، وتقول: «من هنا جاءت الفكرة، ولأن «أهل مكة أدرى بشعابها»، قررنا أن نقوم، كطالبات كلية فنون جميلة، بتجميل شوارع القاهرة وإزالة قتامة اللون الرمادي عنها، وأعلنتُ عن فكرتي «أونلاين» على «غروب» الدفعة الذي نجتمع فيه على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، فوجدت حماسة كبيرة من زميلاتي اللاتي رغبن في مشاركتي حلم أن تكون القاهرة بالألوان».
حرصت كريستين على التنظيم منذ بداية الحملة، وأكدت: «الانطلاقة كانت في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، حين بدأت وزميلاتي أولاً باختيار المكان، وكانت الانطلاقة تلوين كوبري أكتوبر بدءاً بـ «ماسبيرو» حتى ميدان عبدالمنعم رياض، حيث يقصد هذا المكان عدد كبير من الناس يومياً، لأنه عبارة عن موقف عام للمواصلات. بعدها توجهنا إلى رئيس حي غرب القاهرة من أجل استخراج التصاريح اللازمة لتجميل الشارع حتى لا نخالف القانون، ووجدنا منه كل ترحيب، ومن ثم انطلقنا في أماكن كثيرة ومختلفة، مثل تلوين مستشفى السلام- قسم الأطفال المصابين بالسرطان ودار أيتام الأورمان، فضلاً عن التنوع في أماكن الشوارع. فمثلما توجهنا إلى حي الزمالك الراقي، قمنا بتلوين منطقة «تل العقارب» في حي السيدة زينب العشوائي، إيماناً منا بأن الألوان حق للجميع».
بدأت حملة «هنلونها» بعشر فتيات فقط، هنّ العضوات المؤسِّسات، ووصلت الآن إلى 40 فتاة ينطلقن في الشوارع مرتين شهرياً بهدف إضفاء بهجة الألوان على المواطنين.
وأضافت كريستين «أن حلمها بتلوين شوارع القاهرة كان مجرد بداية، إذ تطمح في المشاركة بمشروع قناة السويس الجديد، وهو ما أعربت عنه في وسائل الإعلام المحلية، فاستجاب مجلس الوزراء طلبها وأسند إلى كلية الفنون الجميلة- جامعة حلوان مشروع تجميل القناة، والذي سيكون مشروع تخرجها العام المقبل».
وقالت: «هدفنا كحملة «هنلونها» رفع الذوق العام للشعب المصري بالفن في الشارع، إذ أقمنا للمرة الأولى معرض فنون تشكيلية في الشارع على أنغام موسيقى هادئة، ورغم أن الشارع المصري معتاد على الموسيقى الصاخبة والضوضاء، إلا أن التغيير في الذوق لاقى ترحاباً وقبولاً من الكثيرين».
موقف الأهل
وجود فتيات في الشارع ويعملن بمشقّة أمر غريب على المجتمع المصري، وغالباً ما يكون مرفوضاً لأسباب عدة، يأتي في طليعتها التحرّش الجنسي وعدم وجود قانون رادع يثأر للضحية. ومن هذا المنطلق، يرفض الكثير من الاهل انخراط بناتهم في العمل العام في الشارع، لكن إنجي علي شعراوي (21 عاماً)، طالبة أيضاً في السنة الثالثة في كلية الفنون الجميلة، خاضت معركة اجتماعية ضد ذلك المنظور، وأقنعت أهلها بكل ما أوتيت من قوة كي تبدأ تلوين شوارع القاهرة وتضع بصماتها على جدران «المحروسة».
تقول إنجي: «علمت بالحملة من كريستين زميلتي في الدفعة، لم أتردد في المشاركة رغم كوني فتاة مغتربة من محافظة الغربية، وتحديداً منطقة المحلة الكبرى، لكنني قررت أن أشارك في إضفاء البهجة على وجوه المصريين».
التحديات الاجتماعية التي قابلت إنجي كانت صعبة، والسبب الأول فيها أنها فتاة، إلا أنها اجتازتها بكل شجاعة وإصرار، وتوضح: «مع ازدياد حالات التحرش في الشارع واختفاء الأمن نسبياً، زاد تشدد الأهل في النشاطات الاجتماعية التي يمكن أن تمارسها الفتاة لشعورهم بعدم الأمان، وهذا ما حدث مع أهلي، حيث رفضوا مشاركتي بحملة «هنلونها» بكل إصرار، خاصةً أنني مغتربة، وكانت علّتهم الأولى هي عدم الأمان في الشارع، لكنني أصررت على المشاركة وأقنعتهم بأنهم يقفون عائقاً أمام حلمي، وأنني بمساهمتي الإيجابية في المجتمع سأشجع المئات والآلاف من الفتيات على النزول بشكل عملي الى الشارع، ما سيؤدي بدوره إلى تحجيم ظاهرة التحرش بسبب اختلاف النظرة الاجتماعية إلى الفتاة من مجرد أنثى إلى فرد فاعل وإيجابي في المجتمع».
وتتابع: «بعد عناء مناقشات طويلة، اقتنع أهلي وسمحوا لي بالمشاركة في حملة «هنلونها»، وكان التحدي الثاني مرتبطاً بكوني مغتربة أيضاً، وهو المجهود الشاق الذي أبذله في سبيل ذلك، لأن عملنا في الشوارع غالباً ما يكون أيام الإجازات، الجمعة أو السبت، وغالباً ما أقضي إجازتي مع أهلي، فأضطر إلى مغادرة المنزل فجراً حتى أصل إلى القاهرة في تمام الساعة الثامنة صباحاً لأحقق حلمي في تجميل الشوارع مع زميلاتي، فسعادتي بعملي تمحو مشقات السفر ومجهود العمل في الشارع لأكثر من 9 ساعات متواصلة».
تؤكد إنجي أن التنظيم الجيد قبل الانطلاق في الشارع هو سر نجاح الحملة، وأن أكثر الأماكن التي استمتعت بتلوينها كان حي الزمالك، حيث انعكس تنظيمهن الدقيق على جمال التصميم والألوان.
وتشير إلى أن حماستها لا تخبو، بل تزيد عندما ترى ردود أفعال الناس في الشارع أو على موقعي التواصل الاجتماعي «فيسبوك» و«تويتر»، وتقول: «سعادتي لا توصف عندما أسمع الكلمات التشجيعية من الناس في الشارع أثناء عملنا، مثل «أنتن بنات بـ100 راجل» و «أنتن شباب المستقبل» و «أنتن أمل مصر القادم»... كلمات التشجيع تلك نلقى أيضاً ما يشبهها على مواقع التواصل الاجتماعي.
استعدادات
تؤكد دينا عز العرب، (21 عاماً) طالبة في السنة الثانية في كلية الفنون الجميلة، أن العمل في حملة «هنلونها» يشبه التجنيد، فكل فرد يعرف دوره ويؤديه على أكمل وجه، خاصةً أن النتيجة المطلوبة لا تأتي إلا بمجهود شاق.
وتوضح: «العمل في الحملة له استراتيجيات واستعدادات خاصة. فأولاً، لا بد من تحديد المكان الذي سنتجه إليه ببهجة الألوان، بعدها نتوجه إلى المكان لتنفيذ معاينة مبدئية، ثم نتشاور حول التصميمات المقترحة والألوان المستخدمة، إذ لكل مكان طبيعة خاصة، فتلوين جداريات الشوارع يختلف عن تلوين الكباري وسلالمها، وكذلك أماكن الأطفال. ومن ثم يأتي دور الألوان وتركيباتها فنتوجه إلى شركة الدهانات لتحديد التركيبات المطلوبة ليتم تجهيزها، حتى فراشي الرسم نجهزها مسبقاً ونعيد غسلها وتنظيفها، وفي النهاية لا ننسى مظهرنا الموحّد الذي يشبه كتيبة الجيش، حيث نرتدي «تي شيرت» موحّداً، مكتوب عليه اسم الحملة «هنلونها».
وتعرب دينا عن أمانيها قائلة: «أتمنى المشاركة في مشروع تجميل قناة السويس الجديدة، الذي أسندته رئاسة الوزراء إلى كليتنا بناءً على مجهودنا في الشوارع واستجابة إلى أمنياتنا».
وتتابع: «كما أتمنى أن تنعكس الألوان في شوارع مصر كلها، حتى العشوائيات عندما تضج بالألوان تختلف روحها وتعمّها البهجة، فاللون الرمادي أحد عوامل اكتئاب المصريين».
انتقادات ذكورية
تتذكر ياسمين محيي الدين (21 عاماً)، طالبة في السنة الثالثة في كلية الفنون الجميلة، اليوم الأول لانطلاق «هنلونها» في الشارع، وتقول: «بدأت الحملة بعشر فتيات فقط، لكن التواجد العملي في الشارع في أول يوم عمل وصل إلى 40 فتاة، جميعنا مؤمنات بأن مشاركتنا الاجتماعية بالألوان هي مشاركة بسيطة، لكن هذا ما نستطيع فعله».
وتتابع: «لم نكن نتخيل ردود الأفعال، الناس كانت سعيدة جداً بفكرة أن البنات يرسمن في الشوارع ويغيّرن ملامحها الرمادية الكئيبة، لكن هذا لم يمنع الانتقادات الذكورية أيضاً. فالبعض كان ينتقد كوننا فتيات ويثبط من عزيمتنا بدعوى أننا لن ننجح بما فشل فيه الرجال، أو أن مشاركتنا لن تكون سبباً لتقدم الدولة، فمثلاً عندما صعدت إلى «ونش» لأتمكن من تلوين سقف كوبري أكتوبر، سمعت انتقادات مثل «أنتن مكانكن بالأسفل وليس بالأعلى»، فكنت أرد بابتسامة قائلة: «لو أنك تُتقن ما أفعله تَفضّل مكاني»، ولأننا مؤمنات برسالتنا فلم نتأثر، بل انتشينا بردود الأفعال الإيجابية».
وعن قلقها في ما يخص التحرش، تقول: «لا أنكر أننا في البداية كنا نخشى التعرض للتحرش وسط غياب أمني. فأنا شخصياً لو تعرضت لذلك، لم أكن لأجرؤ على الاستمرار في الرسم في أماكن عامة، لكنني كنت أقوّي نفسي بأننا لا نفرق عن الرجال شيئاً، ولن يتم التحرش بنا، وهذا ما حدث فعلاً وازداد شعورنا بالأمان في الشارع».
وتعرب ياسمين عن أمانيها قائلة: «أتمنى القضاء على العشوائيات بالألوان، وأن نستطيع تلوينها كلها ونشر البهجة في نفوس سكانها».
بهجة
تلتقط أطراف الحديث منّة الله خالد (22 عاماً)، طالبة في السنة الثالثة في كلية الفنون الجميلة، وتقول: «في كل مرة نتوجه فيها إلى الشارع نتمنى رؤية السعادة على وجوه المارة بعد تعاملهم مع الألوان التي هي عشقنا لطبيعة دراستنا، هدفنا أن يتعامل الناس مع الألوان ببهجة وأنها ليست شيئاً غريباً في الشوارع، فكم أتمنى أن ننجح في رفع الوعي والذوق العام بالألوان، وهذا ما نسعى إليه جاهدين».
وتتابع: «لم أتردد في المشاركة في حملة «هنلونها» عندما علمت بها في الكلية من زميلتي كريستين، وكنت من أوائل المشتركين بها. فعندما توجهنا إلى عميد الكلية لنقترح عليه الفكرة، طالبنا بأن تكون بدايتنا من الكلية، واقترح علينا ترميم التماثيل الموجودة فيها، وبالفعل قمنا بترميمها وتلوينها، لكن بدايتنا الحقيقية كانت في الشارع وحصدنا النجاح من خلال ابتسامات المارة وسعادتهم بالألوان».
وتؤكد منّة أنها تتلقى دعماً عائلياً بسبب مشاركتها في حملة «هنلونها»، وتقول: «أمي دائماً ما تشجعني على المشاركة والاستمرار، لكن هذا لا يمنع خوفها من بعض المناطق غير الآمنة مثل العشوائيات».
انتشار
إضافة إلى رفع الذوق العام بالجمال، وعلاج الاكتئاب بالألوان، تؤكد ريهام زكريا (21 عاماً)، طالبة في السنة الثالثة في كلية الفنون الجميلة، أن ما دفعها إلى المشاركة في حملة «هنلونها»، هو الانخراط في روح العمل الاجتماعي الجماعي، وتقول: «كم هو جميل أن ينحّي كل فرد أنانيته وقناعاته جانباً ويستمع إلى الآخر ليحكّم عقله في ما يخص المصلحة العامة».
وتتابع: «حاولنا أن نرسم بسمة على وجوه الآخرين ونجحنا، فأنا شخصياً أشعر بحصيلة مجهودي عندما أبدأ الرسم بالرصاص على الجدران فتظهر ملامح العمل، ومع وضع الألوان أستمتع بالنتيجة مع المارة في الشارع، فكلانا يرى الشارع مبهجاً بالألوان بعيداً من اللون الرمادي الكئيب».
تتمنى ريهام أن تخرج فكرة تلوين الشوارع من تحت عباءة العاصمة لتنتشر في كل محافظات مصر، وتقول: «أتمنى أن تنتشر الفكرة في باقي المحافظات، أحلم بأن أجوب مصر كلها لأضع بصماتي على شوارعها، وأشعر بأن جزءاً من حلمي بدأ يتحقق، حيث بدأنا نستقبل على صفحة الحملة في «فيسبوك» ردود أفعال مصوّرة من شباب في المحافظات المختلفة، كل يلون مدرسته أو شوارع مدينته، فيرسلون إلينا الصور ويكتبون رسائل مفادها أنهم لم يدرسوا الفن مثلنا، لكن حبهم للألوان جعلهم يحاكوننا في نشر البهجة والابتسامة على وجوه الآخرين».
تحدي الاستمرار
رغم أن الإحصاءات تؤكد تعرض 98 في المئة من المصريات للتحرش، إلا أن عضوات حملة «هنلونها» لم يتعرضنّ إلى تلك الظاهرة رغم وجودهن في الشارع، فهل تنجح الحملات النسائية في تغيير النظرة النمطية للمرأة كأنثى؟ وهل ينجحن في تحقيق هدفهنّ؟ يجيب عن تلك الأسئلة الدكتور أحمد عبدالله، أستاذ الطب النفسي في جامعة الزقازيق، قائلاً: «عدم تعرض فتيات الحملة للتحرش يدل إلى متغير إيجابي في المجتمع، خاصة ما يخص وجود المرأة في المجال العام».
ويتابع: «إضافة إلى ارتباط المرأة بالحسّ الجمالي، يأتي سر انتشار الحملة في إطار فكرة العلاج بالألوان وقدرتها على نشر البهجة في نفوس الآخرين. لكن على مؤسِّسات الحملة وعضواتها أن يعلمن أن رفع الذوق العام بالجمال لا يتم من طريق الألوان فقط، بل يحتاج إلى مجهود أكبر».
ويعلق: «لا يمكننا اعتبار الحملة ناجحة إلا إذا استغلت الفتيات طبيعتهن البشرية كنساء في استمالة الأطفال وتعليمهنّ الرسم والتلوين، ليبدأ كل طفل في تلوين غرفته ومنزله والمنطقة المحيطة به، فيصبح لدينا جيش من الفنانين الصغار القادرين على استيعاب الجمال مع تقدمهم في العمل، وبذلك يتم رفع جزء كبير من الذوق العام بالفن والألوان».
ويؤكد الدكتور أحمد عبدالله أن التحدي الأهم الذي يواجه نجاح الحملة هو الاستمرار، ويقول: «نحن أحياناً نمتلك بدايات رائعة، لكن يجب أن نحافظ على الاستمرار، وفي طبيعة حال النساء من الممكن ألا يستمررن في حملتهن بسبب زواج البعض أو انشغال بعضهن الآخر، لكن التحدي الحقيقي أمامهن هو الاستمرار ليثبتن أنهنّ قادرات على التغيير الحقيقي».
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024