جريمة اغتصاب اسمها: زواج القاصرات
هي جريمة مكتملة الأركان، يجري خلالها اغتيال براءة الفتيات الصغيرات والمتاجرة بهن في علاقات تتستر باسم الزواج. ما يحدث بعيد تماماً عن أي زواج يمكن أن يعترف به الشرع والمجتمع. إنه زواج القاصرات، تلك الجريمة التي تدفع ثمنها فتيات في عمر الطفولة، فلماذا انتشرت أخيراً وكيف يمكن مواجهتها؟
في البداية نعرض بعض الوقائع التي تؤكد حجم الجريمة التي تحمل مسمى «زواج القاصرات»:
- «هناء»، عمرها 14 سنة، لجأت إلى المحكمة برفع الدعوى رقم 3054 لسنة 2013 لخلع زوجها الذي يكبرها بـ36سنة، بعد أن تم الزواج بعقد عرفي إلى حين بلوغها السن القانونية. واعترفت بأنها تزوجته رغماً عنها بمهر خمسة آلاف جنيه، وأنه كان يعاملها بقسوة، ويعتدى عليها بالضرب بشكل وحشي وبعنف.
- وجهت محكمة جنايات الجيزة اتهاماً لأب مصري وزوج عربي الجنسية، لاتفاقهما على تزويج طفلة عمرها عشر سنوات عرفياً، ووجهت إليهما تهمة استغلال طفلة بكر وهتك عرضها مقابل 14 ألف جنيه.
- فتاة لم تتعد 12عاماً، أُخرجت من المدرسة الابتدائية لتزويجها من أحد الشباب بورقة عرفية عند محام إلى أن تبلغ السن القانونية، لكي يتم تسجيل الزواج لدى المأذون، وتم طلاقها بعد ستة أشهر من الزواج وعادت إلى بيت أبيها وهي حامل، ووضعت بعد عملية قيصرية خطيرة، وأصبحت طفلة مطلقة وأمًّا لطفلة وليست مؤهلة لتربيتها.
- فتاة توفيت أثناء الوضع بعد أن تزوجت وعمرها 12 سنة، من خلال عملية أشبه بالبيع والشراء مع أحد الأثرياء العرب، الذي لم يبقَ معها إلا أياماً ثم تركها وسافر.
هذه أمثلة قليلة لقضايا عديدة يكون وراءها المال حيث يدفع الآباء ببناتهم الصغيرات إلى الزواج مقابل الآلاف من الجنيهات. ويتم الزواج بموجب «ورقة» لدى محامٍ، وتتناول الفتاة أقراص منع الحمل لضمان عدم حدوثه، وإذا حدث يتم نسبه إلى جد الطفل من جهة الأم فتعالَج علاج الجريمة بجريمة أكبر منها. وتشير إحصاءات المجلس القومي للأمومة والطفولة إلى أن زواج القاصرات موجود بشكل أكبر في بعض المحافظات المصرية، منها الجيزة والفيوم وكفر الشيخ، وبأشكال مختلفة. فمثلاً في الفيوم يطلق عليه «زواج صيفي» أو «زواج الصفقة»، لأنه يتم بين مسنّين عرب وقاصرات مصريات لفترة موقتة داخل مصر أو خارجها، معتقدين أن لهذا الزواج منفعة تعود على أسرة الفتاة بأكملها، دون النظر إلى الآثار السلبية التي قد تحدث نتيجة هذا الزواج. وتشتهر القرى الفقيرة بقصص كثيرة، حيث توجد مافيا للاتجار بالقاصرات، مما يجعلها صورة حية لسوق اللحم الرخيص، وقد توفيت كثيرات من البنات اللواتي تزوجن صغيرات، أثناء الحمل أو الوضع.
الطفلة الأم
تشير الدكتورة عزة العشماوي، مديرة وحدة الاتجار بالبشر في المجلس القومي للأمومة والطفولة، إلى أن المجلس يهتم بهذه القضية منذ إنشائه، وعقد ندوات ومؤتمرات وقدم تقارير وافية إلى الجهات التشريعية والاجتماعية والجنائية حول خطورة زواج القاصرات، لما يسببه من حرمان الطفلة من حقوقها الاجتماعية والنفسية والفسيولوجية، وحقها في الرعاية والحماية.
وأوضحت أن قانون الطفل المصري نص على أنه لا يجوز توثيق عقد زواج لمن لم يبلغ من الجنسين ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة، ويشترط للتوثيق أن يتم الفحص الطبي للراغبين في الزواج للتحقق من خلوهما من الأمراض التي تؤثر على حياة أو صحة كل منهما، أو على صحة نسلهما، ويعاقب تأديبياً كل من وثق زواجاً بالمخالفة لأحكام هذه المادة.
وأوضحت أن المجلس أصدر بياناً أكد فيه أن الحديث عن زواج الفتاة لا يحدده سن بلوغها فقط، وإنما هناك أمور لا يجب إغفالها لأنها تسبب مشكلات اجتماعية، مثل حرمان الفتاة من التعليم وزيادة نسبة التسرب خاصة في القرى والنجوع، وظاهرة عمالة الأطفال وأطفال الشوارع وارتفاع نسبة وفيات الأمهات الصغيرات عند الولادة، وذلك بسبب ضعف الجهاز التناسلي للطفلة، لأنه غير قادر على استقبال طفل ورعايته لمدة تسعة شهور. كما أن الطفلة الأم غير مؤهلة نفسياً وصحياً وبدنياً لمرحلة الحمل، وهي مرحلة صعبة يصاحبها تغيرات عديدة تعرض الطفلة والجنين لأخطار الإعاقة أو النزف الحاد أو الولادة المبكرة أو النفاس، وهو ما قد يحرمها من فرصة الإنجاب مرة أخرى، وهذا ما ترصده منظمة الصحة العالمية وتؤكده في تقاريرها.
وأنهت العشماوي كلامها بأن الدراسات الميدانية، التي أعدها المجلس القومي للطفولة والأمومة من خلال آراء الفتيات والشباب عن زواج الأطفال أقل من 18 سنة، خلصت إلى أنه يقضي على طفولة الفتاة لأنها غير قادرة عقلياً وجسمانياً على تحمل مسؤولية الزواج والإنجاب ومتطلبات الحياة.
مطلقات وأطفال مشردون
عن التحليل الاجتماعي للظاهرة، تشير الدكتورة عزة كريم، أستاذة الاجتماع في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، إلى أن زواج القاصرات يعد شكلاً من أشكال العبودية الحديثة التي لها جذور منذ أيام الجاهلية، حين كانت المرأة في مختلف مراحلها العمرية تباع وتشترى من أجل متعة الرجل، إذا لم يقرر وأدها في صغرها.
وأوضحت أن إقرار المجتمعات لزواج القاصرات يعد سبة في جبينها مهما كانت المبررات، مثل «زواج البنت سترة»، رغم أنه أحد أخطر مصادر انتهاك حقوق الإنسان التي يجب التصدي لها بالوعي والقانون، لأن ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. والدراسات الميدانية أكدت أن زواج القاصرات يمثل خطراً على المجتمع، حيث تزداد نسبة المطلقات وما يترتب عليها من وجود أطفال مشردين، وبالتالي زيادة وتفاقم ظاهرة أطفال الشوارع وعمالة الأطفال. والأمر علاجه ليس في القوانين فقط، بل يحتاج إلى ثقافة مجتمعية وتوعية ترشد الناس الى خطورة هذا الزواج من خلال الدراما التلفزيونية والمناهج الدراسية.
وحذرت الدكتورة عزة من تزايد حجم المشكلة في بعض البلدان الإسلامية، بسبب ما يصدر من فتاوى تبيح للبنت الزواج في سن صغيرة تصل إلى عشر سنوات. لهذا لابد من تغيير تلك الثقافة التي تبحث عن مبررات لهذه الجريمة باتخاذ الشرع غطاءً لها، وهذا يحتم على مؤسسات المجتمع وناشطي حقوق الإنسان ووسائل الإعلام ومناهج التعليم ومختلف الأدوات الثقافية، إعلان الحرب على الزواج المبكر. وكذلك على المؤسسات الدينية التصدي للفتاوى التي تبيح زواج القاصرات مهما ترتبت عليه من مضار للفتاة.
وأنهت الدكتورة عزة كلامها بأن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية فتح ملف الاتجار بالبشر وطالب بتشريعات تجرم استغلال الصغيرات، لكن المشكلة أنه يتم التحايل على القوانين، مما يجعلها في كثير من الأحيان حبراً على ورق، لهذا لابد من تنشيط دور المؤسسات المدنية النسائية وحقوق الإنسان للقيام بدور فعال من خلال الوعي. ولا مانع من توفير الضبطية القضائية لبعض أفرادها، خاصة أنه لا يوجد حصر شامل للقاصرات، خاصةً إذا علمنا أن هناك مئات الآلاف من بنات الشوارع يقمن علاقات جميمة وهن في العاشرة، إن لم يكن أقل، تحت مسمى زواج مع أطفال الشوارع أو غيرهم، بعيداً عن عين القانون.
صدمة نفسية
وصفت الدكتورة إكرام العدوي، أستاذة علم النفس بجامعة عين شمس، زواج القاصرات بأنه اغتصاب يحاول البعض تقنينه دينياً تحت اسم الزواج؛ لبنات مازالت قريناتهن في مرحلة التعليم الأساسي أو يلعبن في الشوارع، لهذا فهو يعد صدمة نفسية كبيرة جداً قد تدفع البنت إلى الانتحار، خاصة أنه ليس لديها أي دراية بأمور الزواج، مما يجعل زوجها يقوم بمعاشرتها بالإجبار، وهي لا تعرف أي استمتاع لأنها لم تنضج نفسياً أو جسدياً، فإذا بهن يصبحن أمهات أطفال يحملن ويلدن، مما يزيد عدد الضحايا من ثمرة هذه الجريمة. وأضافت: «يخطئ من يعتقد أن ظاهرة الرق اختفت في العصر الحديث، فإذا كانت العبودية في الماضي تتم بشكل صريح عن طريق البيع والشراء، فإنها الآن تتخذ أشكالاً أخرى، منها ما يطلق عليه زواج القاصرات، الذي يتم من خلاله انتهاك حقوق المرأة بلا رحمة». وأنهت الدكتورة إكرام كلامها بالتأكيد على ضرورة وجود قوانين فاعلة تجرم جميع أشكال الاتجار بالنساء، والتي تلتزم بالمعايير الدولية التي صدقت عليها معظم الدول العربية، وتوفير التدابير الضرورية لحماية الضحايا وإعادة تأهيلهن ومساعدتهن وتبادل المعلومات وتضافر الجهود بين التضامن ومنظمات المجتمع المدني، ورسم سياسة إعلامية لإحاطة الناس بالظاهرة وأبعادها، وضرورة وجود قاعدة بيانات بالفتيات القاصرات، وتوفير الخطط الأمنية لمواجهة هذا النوع من الجرائم.
وعي إعلامي
طالبت الإعلامية سوزان حسن، الرئيسة السابقة للتلفزيون المصري، بوضع استراتيجية إعلامية متكاملة على مستوى العالم العربي والإسلامي، تتبناها جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ، بحيث يساهم الإعلام في التوعية بأخطار هذه الظاهرة ويكشف جذورها وبراءة الدين منها.
وأشارت إلى أن الإعلام المرئي والمسموع والمقروء لا بد أن يتعاون في مكافحة هذه الظاهرة، ومعلوم للجميع الدور الخطير الذي يلعبه الإعلام في عصرنا، حتى أنه يساعد على قيام الثورات على الأنظمة الفاسدة، وبالتالي لن يعجز عن نشر الوعي بين الأسر عن خطورة هذه الظاهرة التي تعد سبة في جبين مجتمعاتنا، لهذا فإن العلاج يكون من خلال تقوية الثقافة المجتمعية المناهضة لها، وكذلك الحماية القانونية بأن يتم رصد تلك الظاهرة من خلال منظمات المجتمع المدني وإبلاغ المسؤولين بها، وهذا يتطلب أن يتصف الجميع بالإيجابية في التعامل معها.
عقم وإجهاض وتسمم
عن الأخطار الطبية التي تتعرض لها الفتاة نتيجة زواجها، يقول الدكتور أحمد درة الأستاذ بطب الأزهر: «أثبتت الدراسات الطبية أن زواج القاصرات يعرضهن للإصابة بالعقم والإجهاض وتسمم الحمل وفقر الدم، بالإضافة إلى احتمال تعرض الأطفال حديثي الولادة للوفاة نتيجة عدم اكتمال النمو، وهذا يؤكد أن الزواج في تلك السن المبكرة يعد ضاراً جداً بصحة الأم، بل والطفل أيضاً، وقد ثبت أن أنسب وأفضل سن يمكن أن تحمل المرأة بها هي عشرون عاماً فأكثر، وخاصة ما بين 25 و30 سنة، لهذا فإن زواج القاصرات هو جريمة قتل بطيء.
تجارة
تشير المهندسة كاميليا حلمي، رئيسة اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل، أن زواج القاصرات يعد ممارسة لشكل من أشكال الجريمة المنظمة في الاتجار بالبشر، ويتم بمقتضاها سنوياً نقل ملايين من الفتيات عبر الحدود الدولية أو داخل حدود الدولة بغرض الاتجار بهن، وخاصة في المجتمعات التي تعاني من الحروب أو الاضطرابات أو الفقر الشديد والجهل الديني والأمية الأبجدية، وهو ما يعني أن تفعيل أي جهود لمواجهتها يتطلب تعاوناً قانونياً دولياً في ظل الغياب الحقيقي للقوانين المحلية، حتى لو كانت هناك نصوص وتشريعات إلا أنها غير مفعلة.
القوانين
طالبت الدكتورة فوزية عبد الستار، أستاذة القانون في حقوق القاهرة والرئيسة السابقة للجنة التشريعية في مجلس الشعب المصري، بتفعيل القوانين الحالية التي تشترط أن تبلغ الفتاة الثامنة عشرة، وألا يقوم أي مأذون بتوثيق عقد الزواج أقل من هذا السن، وإذا فعل ذلك فهو مخالف لقانون الطفل الذي حظر زواج الفتيات أقل من 18 عاماً، وأن ذلك يعد جريمة تستوجب العقاب، والمادة 291 التي حظرت أي نوع من الاستغلال الذي يقع على الأطفال، وكذلك مخالفته لقانون الاتجار بالبشر 64 لسنة 2010.
وأوضحت أن المشكلة في الأهالي الذين يتفقون مع المأذون، خاصة في المناطق الفقيرة، على القيام بكتابة عقد زواج عرفي وجعله معه، وتتزوج الفتاة، مهما كانت سنها، حتى تبلغ السن القانونية فيتم تحرير عقد زواج رسمي بعد أن تكون قد تزوجت وأنجبت طفلاً أو أكثر، وقد يتم تسجيل هؤلاء الأطفال باسم الأجداد للأم أو الأب. ورأت أن الحل في قوانين أكثر حزماً تنص على عقوبات رادعة، وفي الوقت نفسه لا بد من نشر الوعي بخطورة هذا النوع من الزواج.
رأي الدين
ويؤكد الدكتور إبراهيم الخولي، رئيس قسم الشريعة في كلية الحقوق جامعة حلوان، أنه لا يجوز الاستناد إلى ما ورد في بعض الروايات المختلف فيها، أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج السيدة عائشة وعمرها تسع سنوات، لأن هناك روايات أخرى تؤكد أن سنها لم تكن أقل من 17 عاماً، بالإضافة إلى اختلاف ظروف البيئة والظروف المناخية التي كانت تجعل الفتاة أكثر صحة وأسرع بلوغاً وأكثر خبرة بشؤون الحياة، لهذا فإن الحل من المنظور الشرعي هو اللجوء إلى الأطباء لتحديد مدى قدرة المرأة على تحمل متطلبات الزواج من الناحية الجسدية ونضج أعضائها التناسلية واستعدادها النفسي، من خلال أسئلة يستشف منها ذلك. وهذا الحل نوع من الاستعانة بأهل الاختصاص، وقد أمرنا الشرع بذلك في قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» آية 43 سورة النحل. وإذا فرط الطبيب أو الأب أو الزوج في ذلك يكون آثماً شرعاً، لأنه غير أمين ويجب ردعه بالقانون الصارم، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وأنهى الخولي كلامه بالتأكيد أن إقرار زواج القاصرات من بعض الفقهاء، خاصة إذا كانت الفتاة لم تبلغ، يعد إساءة بالغة إلى الإسلام وهو منها براء، كما إنه يعد نوعاً من التفريط في الأمانة وتطويع الشرع لتنفيذ رغبات البشر، مع أنه لا يوجد في التشريع الإسلامي ما يقر أي ضرر يقع على إنسان صغير، مثلما هو الحال في زواج القاصرات. والغريب أن بعض الدعاة يطالبون بإلغاء النص القانوني بأنه لا زواج للبنت قبل سن الثامنة عشرة، لأنه مخالف للشرع، مع إنه من المجمع عليه بين علماء جميع المذاهب أن من حق الحاكم أن يقيد بعض المباحات، خاصة أنه لم يرد نص شرعي عن سن معينة للزواج.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024