زمن البوح
أسمع صوت المطر. أحبّ أن أصدّق أنّ المطر ينهمر وأنّ الصيف ما زال بعيداً. أقرأ كتاباً بعنوان «حكاية الشتاء» للكاتب الأميركي بول أوستر الذي يسرد في صفحاته سيرته الذاتية. يظهر أوستر في مشاهد من حياته أحمق وأرعن في بعض قراراته، محارباً حظّه العاثر، وهذا أجمل ما في الكتاب. لا يحاول أن يبرّر أخطاءه أو أن يجمّل الموقف الذي يسرده ببساطة رائعة.
تجذبني قراءة السير، وبخاصة السير الذاتية، ولأكون شديدة الدقّة، تأسرني سير الروائيين والكتّاب. مهما اختلفت انتماءات البشر الجغرافية والإثنية والسياسية والدينية، إلا أنّهم يتشابهون إلى حد بعيد. مذهلة نقاط التشابه بين هذه السيرة أو تلك، ومنها محاولة نزع الهالة عن الموت أو الاعتراف بالخوف منه ومن فقد الأحباء والأقرباء والأصدقاء، والتعلّق بمشاهد من الطفولة أو النفور من مشاهد أخرى يصعب نسيانها أو تناسيها. كم نتشابه وإن ولدنا في قارّات مختلفة وأزمنة مختلفة.
نقدّر جرأة الكتّاب الذين يتطرّقون إلى تفاصيل شخصية بشفافية. ونحن نعيش الآن في زمن البوح المرئي والمكتوب عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ثمة مَن يصوّر زوجته وهي تضع مولودها لينتشر الفيديو على مواقع التواصل أو يعرضه مباشرة (لايف) على مدوّنته. وثمة من تخبرنا عن انفصالها عن خطيبها في حكاية مفصّلة تنشرها في مدوّنتها أو على موقع فايسبوك. نزع الستائر عن الخصوصيات أصبح ظاهرة يتقنها البعض، في حين يبالغ البعض الآخر في تحويل تلك الشفافية الجذابة إلى استعراض مبتذل.
ولا شك أنّ الإنترنت ووسائل التواصل ومواقعه سمحت لكلّ منا بأن يتحوّل إلى فنان أو كاتب، وبأن نثري ذكاءنا الفردي والجماعي. فهناك الآن من يستفيد من هذه المساحات أو المنصّات للتعبير عن نفسه وأحياناً للإفراط في التعبير، وربما كانت ممتعة متابعة المدوّنين وهم يشرّحون حياتهم في «بث مباشر»، إلا أنّه ثمّة فرق بين الكشف الشفاف والاستعراض، بين الأدب والابتذال. البوح جميل لكن ضمن حدود تحفظ معناه ومغزاه.
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024