نارين شمّو: القضية الإنسانية الإيزيدية أهم ما في حياتي الآن
التقيناها في بيروت منذ أكثر من أربعة أعوام. بدت ثائرة مشاغبة تضجّ حماسة ورغبة في اكتشاف ما حولها. تحدّثت عن مآسي بلادها، وعن تحدّيات المهنة التي اختارتها، مهنة المتاعب. كأنّ مصاعب الماضي لم تكن كافية. لا مفرّ من الزلزال. لقد حدث ما غيّرها وقلب حياتها. هذا ما قالته بعدما اتصلنا بها أخيراً. نارين شمّو كاتبة وإعلامية عراقية سابقة، أما الآن، فهي ناشطة إيزيدية. هكذا تعرّف بنفسها، والتعريف بالنفس جزء من الوجع. تخلّت نارين عن ذاتها القديمة لتستوعب ما حدث وتحاربه. استقالت من عملها الصحافي يوم الاستيلاء على مدينة سنجار، وكلّفت نفسها مهمة البحث عن الأسيرات الإيزيديات لدى تنظيم «داعش» ومحاولة الاتصال بهن وإنقاذهن.
- أين تعيشين الآن؟ هل ما زلت تسكنين المكان نفسه؟
أتنقل ما بين دهوك وأربيل منذ الكارثة الإنسانية التي وقعت في سنجار وباقي المناطق الإيزيدية، أما مكان سكني الأساسي فهو أربيل.
- كيف تغيّرت حياتك بعد الأحداث الأخيرة؟ وكيف أثرت هذه الأحداث في عملك وفي كتابتك؟ هل ازددت إيماناً بهما أم أنك تشعرين بالعجز أحياناً؟ وما الذي يمكن أن تقدّميه؟
قبل الأحداث كانت طموحاتي شخصية بحتة، كنت أخطط لدراسة الماجستير في الصحافة الرقمية أو الاستقصائية في نهاية سنة 2014 خارج العراق، وكذلك كنت أنوي العمل على إتمام كتابي الأدبي وإصداره قبل سنة 2015، لكن ما حصل لبني جلدتي غيّر مخططي بشكل كامل، إذ تلاشى كل طموح شخصي وباتت القضية الإنسانية الإيزيدية أهم ما لدي، تركت عملي الذي كنت قد بدأته لأيام فقط في إحدى القنوات العربية وتفرغت بشكل كلي لقضيتي منذ اليوم الأول في 3 آب/اغسطس 2014، ولا أخفي عليكم أنني انهرت من شدة البكاء وفقدان الأمل، لكنني كنت دوماً أتلقى الاتصالات وأواجه أبناء جلدتي بوجه يحمل العزيمة والأمل لأنني أدرك أننا بحاجة الى الدعم المعنوي كأفراد خسروا كل شيء: المنازل والمقدسات والقرى والمستمسكات الحكومية الشخصية وحتى قبورنا هُدّمت، والأصعب فقدان أفراد العائلة سواء بقتلهم أو خطفهم. تنظيم «داعش» مزّق النسيج الاجتماعي وكاد أن يمزق الوجود الإيزيدي، لكننا سنصمد، ولن أتوقف عن نصرة قضيتي حتى يعود كل المختطفين.
ما قدمته هو إثارة القضية إعلامياً وعبر منظمة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية، وعبر التوثيق وإرسال التقارير اليومية الى الحكومة الأميركية والحكومتين العراقية والكردستانية، فقد عملت مع زملاء في فريق واحد بإسم «إدارة أزمة سنجار»، كذلك عبر الاتصال بالعشائر العربية والتوسط لشراء المختطفات. وأهم ما أستطيع فعله الآن هو تقديم الدعم المعنوي للناجيات من «داعش» بعد تعرّضهن لانتهاكات إنسانية تفوق مستوى القبول والتصديق، والعمل على مساعدتهن واستحصال رواتب شهرية لهن من الحكومة المركزية العراقية وتعويضات مادية، إضافة الى الدعوة الى إعادة تأهيلهن خارج العراق في الدول الأوروبية المتعاطفة وتقديم أشياء أخرى قد لا يناسب الحديث عنها.
- هل تعرفين شخصياً من تعرّض أو تعرّضت للأسر؟ وهل نجحت في الاتصال بالأسيرات؟
نعم، كما ذكرت سابقاً قمت بالتوثيق، وبعد تحرير إحدى الناجيات سواء بالهرب أو الشراء أتواصل معها وأتعرّف إلى نوع الانتهاك الذي تعرّضت له وأرسل تقارير الى منظمة الأمم المتحدة في العراق لتوثيق «الجينوسايد» وتقديم الدعم والضغط على الحكومتين العراقية والكردستانية لتحرير المختطفين والمختطفات تجنباً لوقوع جرائم اكبر بحق الذين ما زالوا في أوكار «داعش».
كنت على تواصل مع عشرات، بل مئات المختطفين من كلا الجنسين، لكن للأسف إنقطع الاتصال بهم كلياً بسبب تعطيل أبراج الاتصالات في عموم المناطق التي تسيطر عليها تنظيمات «داعش».
- ما هي الحقيقة؟ هل ما قرأناه عن جهاد النكاح وعن بيع الأسيرات وتبادلهن حقائق؟
لا أود أن أسمّيه «جهاد النكاح»، لأنني متأكدة من أن لا إمراة أو فتاة إيزيدية تؤمن به لتعتبره جهاداً، نعم تم اغتصاب غالبية الفتيات ممن تجاوزن 10 سنوات وبعضهن أيضاً في الثامنة والتاسعة، ولديّ حالتان موثقتان، وقد قدّمت الفتيات الإيزيديات كهدايا وصدّرن إلى خارج البلد، الى سوريا وباكستان وحتى أفغانستان ودول أخرى، ولديّ عشرات الحالات ممن تم بيعهن مرة ومرتين و7 مرات أيضاً، وأعمارهن لا تتجاوز 16 سنة. الاعتداءات التي تعرضن لها لا يمكن التطرق اليها فهي وحشية، نعم المرأة الإيزيدية تحولت الى مشروع استعباد جنسي في القرن الواحد والعشرين.
- ماذا عن الأطفال المحتجزين لدى مسلّحي تنظيم «داعش»؟ كم يبلغ عددهم؟ وهل لديك فكرة عن ظروف عيشهم؟
وفق تقديري ومصادري، عدد الاطفال يقارب 1500 طفل، الغالبية تتجاوز أعمارهم 9 سنوات والبعض 7 من الذكور الذين تم فصلهم عن أمهاتهم والآن يدربون ليصبحوا إرهابيين في المستقبل، ونسبة ليست كبيرة من الأطفال دون 7 سنوات يُلقنون الشريعة الإسلامية بالطريقة الداعشية. كما انهم يتعرضون للضرب والتكريه في دينهم وتشويه انسانيتهم وطفولتهم، والخوف الكبير هو أستخدامهم في عمليات إرهابية واستغلال طفولتهم.
- هل تسعين إلى توثيق الأسماء؟
بدأت منذ نهاية آب/اغسطس بتوثيق أسماء المختطفين، ومازلت أوثق الانتهاكات وأتابع القضية بشكل ميداني وعن كثب، كما حرصت على أن أثير قضية أقليتي إعلامياً وكذلك عبر المحافل الدولية وإرسال التقارير الى الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية، إضافة الى اعمال أخرى، ولن أتوقف أبداً.
- هل تعاني المرأة أكثر من الرجل ويلات الحروب؟ ولماذا؟
بالتأكيد، وبالأخص حيث ينظر اليها كفرد ضعيف وجسد لا قيمة له، تكون أول المستهدفين، وإن لم تستهدف فقد تكون ضحية من الدرجة الثانية، فالحروب أوجدت مئات الآلاف من الأرامل في العراق وأكثر من 2000000 طفل يتيم، العبء الأكبر يقع على المرأة، وهي بصورة أو بأخرى تتحول الى ضحية.
- بمَ تختلف حياتك عن حياة صحافية في سنّك تعيش في بلد غير العراق؟ ولو كنت تنتمين إلى بلد آخر فهل كنت ستسعين إلى تغطية الأحداث في مناطق النزاعات؟
مجرد أن تعملي في مجال الصحافة في ظل النزاعات فإنك تعرّضين حياتك للخطر، فكيف إذا كنتِ إمراة وصحافية في الوقت ذاته وفي بلد تحوّل الى منطقة للنزاعات وبؤرة للإرهاب؟ فهذا تحد كبير، وعندما تكونين صحافية من أقلية دينية فهذا تحدٍ أكبر.
أعمل اليوم في ظل ضعوط أمنية وحزبية صعبة ومخاطر لا يمكن حصرها. الكثيرون من المهتمين لأمري يقولون إن ما أقدم عليه انتحار وتهديد كبير لسلامتي وحياتي، لكنني لا أملك خياراً آخر. إنها قضيتي، وقضية شعب كامل يواجه الموت، ولا يمكنني التوقف عن مهمتي ولن أقارن نفسي بقريناتي ووضعهن في بلدان أخرى، فهن بالتأكيد يمارسن عملهن في ظل حماية ووقاية من المخاطر ويحظين بدعم من دولهن ومؤسساتهن.
إنني متأثرة بالقضايا الإنسانية منذ بداية مسيرتي الصحافية. لذا، فلو حدث ما حدث في سنجار في بلد آخر فقد كنت سأسعى الى تغطية الأزمة الإنسانية بكل ما لديّ من طاقة وإمكانات.
- هل تحسين بالانتماء إلى العراق؟
العراق كان أغلى ما لديّ، لكنني اليوم أنظر اليه كمكان اغتصبت فيه كرامة أبناء جلدتي، بيعت فيه أخواتي واغتصبن، هُدمت فيه قبور أمواتنا ومن بينهم قبر والدي، فجرت 80 في المئة من مقدساتنا، وأكثر من 85 في المئة من الإيزيديين خسروا بيوتهم وأموالهم وحتى مستمسكاتهم الشخصية التي تثبت هويتهم، نعم العراق هو المكان الذي قتل فيه أهلي في ظل حكومتين، كردستانية ومركزية، بلد فرّ فيه الجهاز العسكري تاركاً أهلي بين أيدي تنظيمات إرهابية، المكان الذي تميز بخطاب الكراهية ضد أهلي، فهل لي أن أشعر بالانتماء إليه بعد كل هذا رغم طيبة الكثيرين في البلد وتعاطفهم مع قضيتنا؟!
- لا بد من أنك اكتشفت قصصاً قاسية ضمن المآسي التي غطيتها أو سمعت عنها؟ هل يمكن أن تتحدّثي عن قصة أصعب من غيرها؟
أية قصة ليست مؤلمة؟ كل ايزيدي من منطقة سنجار قصته مأسوية. لا يوجد بيت لم يخطف منه فرد أو فردان، لا يوجد بيت لم يعش الجوع والعطش والخوف لأيام فوق الجبل محاصراً من تنظيم «داعش» الإرهابي، لكن من لا يمكن أن أنساها حتى الممات هي صغيرتي (ع) يتكرر صوتها في ذهني كل يوم، سأموت ولن أنساها وهي ترجوني لإنقاذها، وهي ترجوني أن اخاطب غرفة العمليات لقصفهن وتخليصهن من الانتهاكات التي يعشنها لحظة بلحظة وهن في طريق النقل الى سوريا كهدايا الى إرهابيي «داعش»، وكل من أمها ووالدها وإخوتها مختطفون ومصير الجميع مجهول.
وصغيرتي الأخرى «أ» التي قتل والدها وشقيقاها ومازالت أمها وأختها مختطفتين، نجت من «داعش» بعدما تم بيعها 3 مرات وانتهك جسدها النحيل الطاهر، مجرد النظر في عينيها كان تحدياً كبيراً بالنسبة إلي.
- هل تعيشين في ظلّ الخوف؟ وأين تتمنين العيش؟
أتلقى تهديدات في شكل متكرّر، كانت في البدء من أمن الشأن الحزبي في اقليم كردستان العراق، وكان الهدف إيقافي عن العمل وعدم التعبير عن هويتي الإيزيدية بشكل مستقل، إضافة الى تهديدات من أفراد تنظيم «داعش»، عبر الهاتف من أرقام خاصة لا تظهر، وكذلك رسائل من مجهولين على وسائل التواصل الاجتماعي، نعم يوجد قلق وخوف، الآن اشعر أنني لست ملكاً لنفسي وأخشى أن يصيبني مكروه والكثيرون يبنون الأمل على عملي، أود أن أرى أهلي المخطوفين محررين من «داعش» وبعدها لا يهمني شيء.
أتمنى أن يعيش كل الإيزيديين والأقليات الدينية في بلد يحميهم وفي أرض تقبلهم، العراق لم يعد آمناً وأتمنى أن يجد كل الإيزيديين ملجأ آمناً في بلد آخر غير العراق.
- ما الذي تتمنينه على الصعيد الشخصي؟
بقناعة تامة أقولها لم يعد هناك اهتمام وطموح على الصعيد الشخصي، ما أتمناه هو استعادة كل المخطوفين وعودتهم الى أهلهم، أنا وكل الإيزيديين لن نشعر بالحياة إلا بتحرير المخطوفين.
قبل أعوام كتبت لنا نارين فقرة بعنوان «من هْم الإيزيديون؟» نشرناها ضمن موضوع أنجزناه عن إقليم كردستان العراق و«تاريخه المحفوظ في ذاكرة حضارة بلاد الرافدين»، نعيد هنا نشر بعض مما كتبته لنا نارين عن «أهلها».
من هم الإيزيديون؟
تعدّ الإيزيدية إحدى أكثر الديانات القديمة في العالم جدلاً، فرغم أنها ليست ديانة عالمية كالمسيحية والإسلام والبوذية، إلا أنها تمثل أكثر من رؤية أو فلسفة، إذ تمتلك أجوبة كاملة عن مفهوم الحياة وازدواجية الإنسان (بما فيه من خير وشر)، وأجوبة عن معاناة الفرد، وما يخص الحياة بعد الموت.
لا تسعى الإيزيدية إلى الحكم، ولا تطمح أو تطالب بمقاليد السلطة، ولا تحمل فكرًا عدوانيًا حيال حقوق الآخر أو شن حروب من أجل الدين، هذا كله نابع من صلب نصوصها الدينية.
تسكن غالبية الإيزيديين شماليّ العراق، في منطقة إقليم كردستان، والمناطق المتنازع عليها ضمن محافظة نينوى، حيث يقع معبد لالش والأرض التي يقدّسها أتباع هذه الديانة، فهي قبلتهم للحج، يحجّون إليها من مخلتف أنحاء العالم سنوياً في الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر. إضافة إلى شماليّ العراق، ينتشر الإيزيديون في تركيا وسورية وأرمينيا وجورجيا وروسيا، كما ارتفعت أعداد الجالية الإيزيدية في ألمانيا بعد حرب الخليج في ربيع عام 2003. ويبلغ تعداد الإيزيدية في العراق حوالى 500 ألف نسمة، كما يقطن حوالى 50 ألف إيزيدي في سورية، و200 ألف منهم في دول الاتحاد السوفياتي السابق. أما في المهجر فيسكن حوالى 90 ألف إيزيدي، أغلبهم في ألمانيا.
تعتقد النخبة المثقفة من الإيزيديين أن العوامل التي حافظت على هوية الديانة الإيزيدية وبقائها واستمرارية أتباعها إلى اليوم تتمثل بالمزايا الروحية للتراث والميثولوجيا القديمة، التي كانت ولا تزال تمارس في الأعياد والمناسبات.
وتقدر الإيزيدية الأديان كافة وتتآخى معها، سواء التي ظهرت قبلها أو بعدها، فهناك أقوال دينية في مدح السيد المسيح عليه السلام، والرسول محمد (ص).
تحتوي الإيزيدية في تراثها على مفاهيم فلسفية وأفكار بابلية وآشورية وهندو جرمانية، وقد عاشت هذه المعتقدات آلاف السنين بكل إخاء ومودة جنباً إلى جنب، ليكمل أحدها الآخر.
تتمثل الصلاة بالدعاء عند الإيزيدية، إذ يتوجه الفرد الإيزيدي إلى الله مرتين في اليوم صباحاً ومساءً، ولا يغيب عن دعائه ذكر أخيه في الأديان الأخرى، وطلب السلامة والأمان للإنسان، أينما كان.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024