تحت جسر الكولا في بيروت
تتناثر الحكايا و«الخبريات» هنا وهناك عن أحوال النازحين السوريين الذين يفترشون الرمال التي يظللها «اسمنت» جسر الكولا في بيروت. عشرات الاشخاص نساء وأطفالاً ورجالاً لم يجدوا مأوى لهم بعد هروبهم من نار الحرب والاقتتال في سورية إلا أرض الجسر وسقفه وأعمدته وحدائقه. تناقلت بعض وسائل الاعلام اخباراً عن مخالفات تحصل في هذه المنطقة تحديدا وروائح كريهة تفوح في المكان لعدم وجود مراحيض وحمامات. للوقوف على حقيقة ما يجري قامت «لها» بزيارة ميدانية لجسر الكولا بدأت من المستديرة وصولا الى كورنيش المزرعة.
عند الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر قصدت مستديرة جسر الكولا. ومنعاً لأي تصادم طلبت من أحد عناصر القوى الأمنية أن يرافقني في جولتي الميدانية. وبعد أمتار قليلة وجدت رجلاً طاعناً في السن مستلقياً على فراش بالٍ وساقه مكسورة، سألته عن حاله والأسباب التي دفعته إلى افتراش الأرض والنوم في العراء. في البداية تمنع وقال: «لا أريد أن أتحدث في الاعلام لأني ساغادر هذا المكان بعد أيام قليلة». وبعد أخذ ورد استسلم فتحي علي ديكور لإلحاحي وسرد لي كيفية تعرّضه لحادث بعدما اعترضته في منطقة خلدة مجموعة من الملثّمين: «كنت عائدا من منطقة خلدة عند الساعة العاشرة والنصف ليلاً وكان في جعبتي 500 دولار و400 ليرة سورية. وفجأة نزل من إحدى السيارات عدد من الشباب الملثّمين واعتدوا عليّ بالضرب المبرح وسلبوني أموالي وأوراقي الثبوتية ورموني على الأرض. الحمد الله أن سيارة توقفت أمامي ونقلتني إلى منزل أصدقاء لي في الأوزاعي الذين بدورهم رافقوني إلى مستوصف «المصري» قرب جامعة بيروت، لكن المكان كان خاليا فعدنا إلى المنزل. وفي اليوم التالي قصدت مستشفى رفيق الحريري الحكومي، حيث تمّت معالجتي».
وعن سبب وجوده تحت جسر الكولا وعدم بقائه في بيت أصدقائه قال: «أصدقائي من الجنسية الفلسطينية ولديهم عائلات. قبل أن أتعرض للاعتداء كنت في صدد البحث عن منزل لاستئجاره، لكن سلبي أموالي وأوراقي الثبوتية أعاق هذه المسألة». ثم سحب من جيبه ورقة تبين أن أحد الأشخاص السوريين الفاعلين في منطقة الكولا كتب له هذه الورقة كي يقدّمها للأمن العام اللبناني في بيروت حفاظاً على حقوقه المدنية. وعن عائلته أخبرني فتحي أنها لا تزال موجودة في اللاذقية «وأنا جئت إلى لبنان وحدي بهدف العمل إنما الظروف عاكستني، وإن شاء الله سأغادر جسر الكولا خلال أيام قليلة».
زحمة نزلاء
في ركن آخر كان هناك شابان نائمان. وفي جولة سريعة في محيطهما وجدت عدداً من البطانيات البالية ملقاة على الأرض تحت الاشجار المزروعة في حدائق جسر الكولا والتي تحولت أيضاً الى مناشر للغسيل، وهذا الأمر يدل على أن هذا المكان يعجّ مساء بالنزلاء.
في الجهة المقابلة، سيدات يفترشن الارض ومعهن أطفالهن، بالاضافة إلى رجل مريض ومسن أخبرتني زوجته انه «مجنون» . اقتربت منهن لمحاورتهن والتقاط الصور، فكان الرفض سيد الموقف وكن يلمن بصوت عال كل وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة التي صورتهن وأقنعهن بأن الهدف هو مساعدتهن، لكن هذه المساعدات ضلّت طريقها ولم تصل إليهن. وفجأة وقفت إحدى الفتيات وقالت: «أنا من آل جمعة من ريف حلب. كل الجمعيات اللبنانية التي وعدتنا بالمساعدات كاذبة».
كيف يعشن ومن أين يحصلن على الطعام وكيف يغتسلن؟ قالت إحدى السيدات إن «أهل الخير موجودون وقريباً سنعود الى بلدنا». وتابعت «لم نستحم منذ أيام طويلة لكن قضاء الحاجة مقدور عليه». امرأة أخرى تحمل بين ذراعيها طفلة لا يتجاوز عمرها بضعة أشهر، أكدت أن ابنتها بحاجة الى علب الحليب الصناعي لأن الرضاعة الطبيعية لم تعد تكفيها، بالإضافة إلى أنها بحاجة إلى «حفاضات» ومع ذلك لم تجد من يقدّمها لها وكل الذين وعدوها بذلك أخلّوا بوعودهم.
كل المحيطين بهذا الجسر يقولون إن هؤلاء السيدات وأولادهن يستيقظون باكرا وينصرفون إلى التسوّل، وأحدهم قال بسخرية «هؤلاء يجنون مالاً مني».
أما في الحدائق الواقعة تحت جسر الكولا والممتدة إلى كورنيش المزرعة فشاهدت أطفالاً يحملون علب العلكة لبيعها لأصحاب السيارات المارة على الطرق. سألت أحدهم عن اسمه فأجاب واستفاض: «رمضان. وعمري عشر سنوات. قصدت مع والدتي لبنان منذ اندلاع الأحداث في سورية بعدما قتل والدي بقذيفة أصابت سيارته. أعيش مع امي «برحمة الله» دون أن يتعرض لنا أحد بأذية خصوصاً أننا ننام على الأرصفة». ويضيف رمضان: «لا أريد أن أعود إلى سورية لأننا مرتاحان، إلا إذا هدأت الأمور بشكل تام، مع أن كل أقاربنا ما زالوا في حلب إلا بيت جدي الذين هربوا إلى تركيا». في زاوية أخرى لمحت سيدة مع أطفالها يفترشون الأرض. ثمّ اقترب شاب منهم وأسهب في الحديث عن وضعهم فقال: «نحن مجموعة قدمت من حلب وحمص والشام، ومضى على وجودنا في هذا المكان تحت جسر الكولا أسابيع عديدة». وأكّد أن أهل الخير موجودون في كل مكان «مما يسهل علينا عملية الاستحمام وقضاء حوائجنا. ونحن محميون بوجود الأجهزة والقوى الأمنية اللبنانية المنتشرة في المنطقة وباقون هنا إلى أن تهدأ الأوضاع في سورية. أما بالنسبة إلى الطعام فنتكل على أولاد الحلال الذين يعطفون علينا في كل الاوقات».
أطل أيضاً شاب آخر فسألته لماذا لا تحاول أن تجد عملا فقال: «أنا اعمل لكن لدي مشكلة في رجلي تعيق عملي. وبصراحة كل الجمعيات التي ادعت مساعدة النازحين السوريين كاذبة ودجالة. قصدت المستشفى الحكومي في بيروت لمعالجة رجلي لأنها تحتاج إلى عملية فرفضوا بحجة أن ما أعانيه ليس أمراً مستعصياً».
وبعد هذه الجولة اتجهت إلى سكان المنطقة وسائقي الحافلات وسيارات الاجرة الذي يقفون تحت جسر الكولا للاستفسار عن الأخبار المتواترة هنا وهناك والتي تتحدّث عن قيام البعض بتصرفات مخلة بالاداب تحت الجسر حسبما جاء في بعض التقارير الصحافية، لكن كل الذين التقيتهم من أهل المنطقة نفوا هذا الكلام وأكدوا أن أي شيء من هذا القبيل لم يحصل وكل الموجودين تحت الجسر عائلات فقيرة تحصل على لقمة عيشها من الخيّرين أو من التسول.
مكرم ملاعب
وفي اطار الحصول على معلومات رسمية عن اعداد النازحين السوريين في لبنان اتصلنا بالسيد مكرم ملاعب مدير مشروع الاستجابة للحالة السورية في وزارة الشؤون الاجتماعية الذي قال إن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR قدرت عدد الذين نزحوا من سورية الى لبنان منذ بداية الأزمة بـ 575 الف شخص. أما الدولة اللبنانية فقدرت العدد بمليون ومئة ألف شخص. ويؤكد ملاعب أن هذا الفرق في التقدير يعود إلى وجود سوريين في البلد قبل بدء الازمة في سورية وآخرين حضروا ولم يعلنوا عن وجودهم او يسجّلوا انفسهم في الدوائر المختصة.
ويوضح أن 77 في المئة من اللاجئين السوريين هم من النساء والأطفال موزّعين على كل الأراضي اللبنانية، لكن الأكثرية في الشمال والبقاع اللبناني.
أما عن الأطفال السوريين المنتشرين في شوارع بيروت تحديدا او الذين ينامون في العراء تحت جسر الكولا أو حديقة الصنائع وغيرها ويمارسون التسول، يقول ملاعب: «نحاول حتى الان تجنب بما يسمى خطة أمنية أي اعتبارهم مذنبين ووضعهم في إصلاحية الاحداث، علما أن هذه الاماكن في لبنان مخصصة للأطفال اللبنانيين. ولا نزال حتى اليوم نحاول ايجاد خطة مناسبة بمساعدة مفوضية الأمم المتحدة للاجئيين لإيواء هؤلاء الأطفال وعدم إبعادهم عن أهلهم».
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024