«حارس الموتى» لجورج يرق. حين تجرف الحرب المهمّشين.
من أجواء الحرب في لبنان التي بدأت في سبعينات القرن العشرين، استلهم الكاتب والصحافي جورج يرق أحداث روايته الجديدة «حارس الموتى» (منشورات ضفاف). إذ تناول فيها الظروف والدوافع التي قادت أغلب الشباب في تلك الفترة للانخراط في الاحزاب والميليشيات وقضت على مستقبلهم، كما دفعتهم للاصطفاف إلى جانب زعماء طوائفهم ومذاهبهم حتى لو لم يكونوا مقتنعين بأفكارهم وأهدافهم.
يروي يرق في هذه القصة حكاية شاب في مقتبل العمر تقوده الصدفة وحظه السيئ إلى اتهامه بقضية خطف واعتداء على شخص لا يعرفه ولم يره، كل ذنبه أنه كان عائداً من الصيد عندما سمع أنينه واكتشف وجوده في أرض مهجورة. كان من السهل جداً في تلك الفترة الوقوع في التعصب والطائفية مهما كان الانسان بعيداً عنهما وكارهاً لهما، فالأجواء العامة تقود المرء أحيانا إلى حيث لا يريد وتجبره على فعل أشياء مخالفة لاقتناعاته ومبادئه، وهذا ما حصل فعلاً مع بطل القصة، إذ اضطر لترك قريته وأهله والهرب إلى بيروت، تلك المدينة التي لا يعرف منها سوى أسماء المناطق المتداولة في نشرات الاخبار، ولا يعرف فيها أحداً. قصدها فيما كان أغلب الناس يهربون منها بسبب الاشتباكات الدائرة فيها. «غريب يجيء ليلاً إلى مدينة لم يسبق أن داس ترابها، مغامرة لا تخلو من بعض المجازفة، خصوصاً أن الوضع الأمني ليس مطمئناً». هذا الغريب عاش قمة المغامرة والمجازفة في تلك المدينة، وكان كلّما هرب من مأزق وقع في آخر أشد منه وأقسى. فخوفه من الوقوع في فخ الاتهام والمحاسبة، قاده إلى حياة الغربة والتشرّد، وقساوة الغربة والتشرّد قاداه إلى العمل الميليشيوي، وخطورة هذا العمل وبشاعته قادتاه إلى عمل أبشع وهو حارس موتى في أحد مستشفيات بيروت.
يستعيد يرق في هذه الرواية أجواء الحرب في لبنان، ويروي أدق تفاصيلها. وكأنه يريد أن يوثّق أحداث الحرب من منظاره الخاص، منظار المواطن الحيادي الكاره للعنف وحمل السلاح والتعصب والقتل على الهوية والسرقة والتفجير... فمن لا يعرف هذه الحرب ولم يعشها، يمكنه التعرف عليها وعلى بشاعتها عبر هذه الرواية، ومن عاشها سيستعيد حتماً كل يومياتها وأحداثها وأدق تفاصيلها. لقد رواها بلسان الانسان المظلوم والمشرّد، وبلسان الشباب الضائع، وبلسان الميليشيوي، وبلسان الانسان الخائف والمسحوق والمغلوب على أمره، وبلسان الناقد والثائر على كل ما هو خطأ وشواذ.
لم يعالج الكاتب في الرواية قصة الحرب الأهلية فحسب، بل عالج موضوعات شتى ومتنوعة، كالمكان والغربة والعلاقات الانسانية، والعلاقات الاجتماعية ، والعادات وعالم المجهول والموت... فكان في كل فصل من فصول الرواية ينقلنا إلى أحداث جديدة ومشاهدات جديدة وتحليلات جديدة، حتى الحب والمشاهد العاطفية لم تغب عن الرواية. كان يروي الاحداث، يستعرضها، يصفها، يقارنها، يحللها ويطرح احتمالات عدة لها.
تميزت الرواية بأسلوبها الشيق ولغتها المتينة والسلسة ومشاهدها المتعددة، وطروحاتها المتنوعة. إذ توافرت فيها كل عناصر الرواية إن من ناحية الأسلوب أو طريقة طرح الاحداث وتسلسلها أو من ناحية التحليل، فهي تشد القارئ إليها من ألفها إلى يائها، لما فيها من مشاهد متنوعة بعيدة عن الرتابة، وأحداث متلاحقة، وأفكار متجددة.
نجح يرق في «حارس الموتى» في نقلنا إلى عالم الرواية، من خلال وصفه الدقيق للمكان، والشخصيات والاشياء المحيطة بها، كما تناول من خلالها فلسفة الحياة والموت، وعلاقتنا بالعالم الآخر، عالم الموت، هذا العالم الغريب عنا، كيف ننظر إليه ونواجهه. أدخلنا عالم المجهول من خلال موتى روايته وبطلها. جذبنا لمعرفة تفاصيل نخاف التفكير فيها، وقلما نتطرق إليها، فأسلوبه وطريقة طرحه للموضوع يفرضان على القارئ فضول القراءة والمعرفة والاطلاع.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024