بعدما دخلت منظومة التراث العالمي: «شمسك أشرقت»: صور وحكايات أعادت النبض الى أحياء مدينة جدة «التاريخية»
في أزقتها، رائحة الماضي، وفي منازلها، حكايا تُروى عن عائلات عريقة، ما زالت أسماؤها محفورة على جدرانها، تشهد على أن أجيالاً عاصرت الأزمنة، وتعاقبت على المكان. وبين أصوات الباعة التي آنسَتّ الأزقة، ونادت على حاجيات البيت، وقطع القماش، وطوابير الناس أمام المخبز الذي يعرض أنواعاً مختلفة من الخبز، من بينها «بنت الصحن»، و «الدُخّن»، و «الفتوت»، والنسوة اللواتي يبعن «السمبوسك»، و«الكبة»، إضافة إلى الحلويات المنوعة من «اللبنية، و«العجوة بالسمسم» و«العنبر»، لوحات، وصور جسدت رغبة الزوار، والمواطنين، والسيُاح، والعديد من الكُتاب، والأدباء، والمؤرخين، والفنانين، وسيدات الأعمال، والكثيرين غيرهم، في إعادة الروح الى المنطقة التاريخية، التي سكنتها أكثر من 536 أسرة عريقة، فيما قدر عدد البيوت، والمباني، التي دخلت منظومة التراث العالمي للمدن العتيقة بنحو 1866 مبنى، وذلك في مهرجان جدة التاريخية بنسخته الثانية «كنا كده 2»، تحت شعار «شمسك أشرقت»، والذي افتتحه محافظ جدة الأمير مشعل بن ماجد، في 14 كانون الثاني/ يناير 2015... «لها» تجولت في المدينة التاريخية، فكان هذا التقرير .
هدف مهرجان جدة بنسخته الثانية «كنا كده 2»، إلى إبراز الثقافة، والتراث الحضاري، الذي شهدته السعودية في الماضي، وشمل أهميَّة المكانة التاريخيَّة لمدينة جدَّة عبر العصور، وقيمة المنطقة التجارية، والأثرية. كما دعا المنظمون، من خلال المهرجان، الأهالي والمُلاّك إلى ضرورة الاهتمام بترميم مبانيهم، وإعادة نبض الحياة إليها، تقديراً لما قدمه الآباء، والأجداد. وشارك في المهرجان، أكثر من عشرين أديباً، ومؤرخاً، تحدثوا عن تاريخ جدَّة من خلال مواضيع، وحوارات، عديدة.
ومن جانبه أكد رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز أن ما تشهده جدة التاريخية من «عودة للحياة، وإقبال من الملاك والمواطنين، كان نتاج جهود بدأت قبل أكثر من 28 عاما لتتحوّل من أماكن آيلة للسقوط إلى أماكن مزدهرة، وهذا ما نقوله عن مئات المواقع التراثية في السعودية».
وأضاف: «إن هذه الأماكن التراثية، ليس المقصود فقط ترميمها، ولكن الأهم من الترميم أنها تجمع قلوب الناس، وتعيد إلينا القيم الجميلة التي كان يتمتع بها الأجداد، والتي بدأنا نشهدها لاسيما بعد الإعلان عن انضمام جدة التاريخية، إلى قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو».
ولفت النظر إلى «ما تحقق من انتقال القيمة التاريخية للمنطقة من المباني، إلى قلوب أهالي جدة الذين استعادوا تراثهم، وشعروا بقيمته وحرصوا على توريثه، وتسليمه لأبنائهم. كما أن النجاح انعكس من خلال الإحصائيات الأخيرة، ففي السابق كانت الزيارات للموقع محدودة، والآن تجاوز عدد الزوار مليوني زائر خلال العام الماضي، ولم يكن هناك ترخيص ترميم إلا لبيتين أو ثلاثة، والآن تم إصدار 600 ترخيص، وكان الملاك ينفرون وكانوا متخوّفين من الدخول في هذه المغامرة، واليوم عشرات الملاك فتحوا بيوتهم، وفتحوا قبلها قلوبهم لترميم تراثهم والمحافظة عليه».
وأشاد الأمير سلطان «بتفاعل الملاك وتكاتفهم وقناعاتهم، التي ساندت جهود الهيئة، والمحافظة، والأمانة التي تعززت من خلال جلسات، واجتماعات العمل، التي نظمتها الهيئة خلال العامين الماضيين، فالملاك يعدون العنصر الأهم، في مشروع تطوير المنطقة، خصوصاً أن أرقام المقبلين على ترميم منازلهم في تزايد واضح، بعد أن بدأت بأربعين بيتا جرى ويجري ترميمها حالياً من قبل الملاك بإشراف الهيئة، والأمانة، تمهيداً لتشغيلها، واستثمارها بأنشطة تتناسب ومكانة جدة التاريخية والتراثية، والسياحية التي تشهد حراكا كبيرا في ترميم عدد من المساجد التاريخية، وفقاً لتوجهات الدولة التي تعطي أولوية قصوى لترميم المساجد التاريخية، في كل موقع تراثي تعمل فيه الهيئة وذلك وفقا للاتفاقية الموقعة، مع وزارة الشؤون الإسلامية، حيث يأتي في مقدمة المساجد التاريخية، التي يجري ترميمها في جدة التاريخية، مسجد الشافعي الذي يتم ترميمه، على نفقة الملك عبد الله بن عبد العزيز، (رحمه الله)، ضمن مشاريع البرنامج الوطني، للعناية بالمساجد العتيقة، الذي تنفذه مؤسسة التراث الخيرية، بالشراكة مع وزارة الشؤون الإسلامية، والأوقاف، والدعوة والإرشاد، والهيئة العامة للسياحة والآثار، ومسجد المعمار، والعديد من المساجد التاريخية، التي تعمل الهيئة مع وزارة الشؤون الإسلامية، والأمانة على ترميمها».
أوبريت «شمسك أشرقت»
شارك أكثر من 100 عارض، مثلوا فرقًا شعبية مختلفة، في أوبريت بعنوان «شمسك أشرقت»، خلال افتتاح فعاليات مهرجان جدة التاريخيّة «2». الأوبريت من كلمات الشاعر الدكتور عبد الإله جدع، وأداء الفنانين عبد الله رشاد، وطلال سلامة، وماجد عادل.
فكرة أبيات الأوبريت جاءت في أربع لوحات فنية تراثية، توضح الحياة الاجتماعية لأهل جدة، قديما وما ساد فيها من حب، وتكافل، وتناغم، إلى جانب تصوير الحنين، والشوق إلى عودة أهلها إليها، بعد هجرها لفترة.
وقد أبرز الأوبريت الجانب الحضاري، والثقافي، والتراثي لجدة التاريخية، ما جعلها تدخل منظمة اليونسكو، كمدينة تزخر بموروث ضخم، وقد حضر العديد من المواطنين والمقيمين، لمشاهدة هذه الملحمة الوطنية الجميلة لجدة التاريخية، ومشاهدة الفعاليات المصاحبة لها.
في طريقنا داخل أزقة المدينة، استوقفنا منظر لسيدات، يستمتعن بالأجواء الاحتفالية للمهرجان، ويقفن على شُرفة، مبتسمات للزوار، ويتحدثن معهم، ويخبرنهم، كيف كانت تلك المنطقة في الزمن القديم، هن من جنسيات متعددة، وتكاد الفوارق العمرية تظهر بينهن، جمعتهن تلك الشُرفة التي تتبع لرباط الولاية، الذي أسسه المغفور له محمد نوري، عام 1378هـ، بحسب اللوحة التي تعلو هذه الدار.
الرباط يعيش فيه عدد من الأرامل، وكبيرات السن، تتوافر فيه جميع الاحتياجات الصحية، والمعيشية، وكافة المستلزمات الطبية من أجهزة وأدوية وغيرها. يتكون هذا الرباط من طابق واحد، يحوي 12 غرفة، لكل سيدة غرفة بملحقاتها من الحمام، والمطبخ الخاص بها، يُجهزنها، بأنفسهن، فتجد أثاث الغرف يختلف، بحسب السيدة نفسها. يقطنَّ وكأنهن أخوات في منزل كبير، وكأن الحاجة للتحدث، والبحث عن ونيس، هو ما جمعهن، منذ سنوات في هذه الدار، التي لا توفر لهم أي راتب، أو معيل، إنما أهل الخير، والإحسان، لا ينسونهن خصوصاً في مواسم رمضان، والأعياد، والحج. تحدثنا معهن قليلاً، وودعناهن، وأكملنا سيرنا في أزقة المدينة التاريخية.
أقدم صرّاف في جدة التاريخية..
العم فؤاد بخاري (50 سنة)، يعمل في مجال الصرافة منذ عقود طويلة، وهو من الجيل الثالث، من الأجيال التي تعاقبت على تلك المهنة، التي يحدثنا عنها قائلاً: «الصرّاف هو الشخص الذي يجلس في الدكان، ليُبدل العملات، والصِرافة هي اسم المهنة التي أعمل بها. وعند دخول الملك عبد العزيز إلى الحجاز، كانت العملات العثمانية هي المتداولة، وعندما صار الحكم لآل سعود، قام بوضع ختم عليها أو كما نقول (دمَغ) عليها بكلمة الحجاز، وأصبحت هي العملة السائدة في حينها في منطقة الحجاز المكونة من مكة، وجدة، والمدينة المنورة. وفي منطقة الخليج بصفة عامة، ومنطقة الحجاز بصفة خاصة، كانت العملة السائدة هي الريال الفرنسي، وكأنه الدولار في الوقت الحالي، وكانت العملة الفرنسية تساوي 22 قرشاً سعودياً».
وأشار إلى أن «الفائدة العظمى، كانت عندما تحولت هذه العملات إلى عملات ورقية. وقد أصدر في حينها الملك عبد العزيز، عملة الـ 10 البيضاء، والتي كانت تستخدم فقط في موسم الحج، وكان يأتي الحجاج بها إلى محال الصرافة، لنعطيهم عِوضاً عنها قروشاً، يتمكنون من الشراء بها. وبعد أن توفي الملك عبد العزيز، أكمل مسيرته الملك سعود، الذي أمر باستخراج عملتيّ الـ 10 البيضاء، والخمسة، وهما ورقيتان، وبعد سنتين أصدر الريال، وكان لديهم بُعد نظر جميل جداً، حيث أن فئتي الريال من الخمسة والـ 10، كُتبت بست لغات. ومن الجدير ذكره، بأن العملة الفلسطينية الورقية التي كانت تأتينا من حجاج فلسطين، من أغلى العملات في العالم، وكانوا يأتون بعملات السند المصرية أيضاً».
وأشار بخاري، إلى أن أغلى عملة كانت في الزمن القديم، هي «الجنيه الذهب الذي يزِن ثمانية جرامات، أو كما كنا نطلق عليه، الجنيه الأعور. ولديّ عملات ورثتها من أجدادي، وهي عملات قبل عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وفي عهده، وعهد الأمويين، والعباسيين، والفاطميين. ولا اسمح لأي شخص، بتصوير هذه العملات، أو حتى النظر إليها، بسبب خوفي الشديد عليها. وقد عرض الكثيرون عليّ مبالغ ضخمة لشرائها، لكني أرفض لأن القاعدة في مهنتنا أن البائع خسران».
وأضاف: «كان هناك أربعة أشخاص فقط بشكل رسمي، في مهنة الصِرافة الموثقة من الحكومة السعودية، في زمننا، وهم موسى كعكي، هو الرقم واحد، ومن تحصّل على مهنة الصرافة، من مؤسسة النقد، ثم جاء با معوضة، وبعده العامودي، والاسم الرابع لا يحضرني، ومن بعدها توالت الأسماء».
شيخ المفاتيح.. وأكبر قفل في العالم
مهنتهم منذ 90 سنة، من عهد الأجداد، ومازال الآباء يُورثونها لأبنائهم، يعملون على تصميم مفاتيح المنازل، والسيارات، وتوفير الأقفال القديمة، ومفاتيح الأبواب القديمة، التي يقارب عمرها الـ 125 سنة بسبب طلب البعض لها، لديهم قفل يُعد أكبر قفل في العالم، منذ سنة 1943م، يبلغ طوله خمسة أمتار، وعرضه مترين و 40سم، وسماكته 63 سم، ووزنه طنين. ويتابع محمد: «مازال هناك من يطلب الأقفال القديمة، ومنذ عدة سنوات، جرى تعديل قفل بوابة المدينة، وتم تسليمه بشكل رسمي إلى الإمارة». ولفت إلى أنه لم يستطع تسجيله في موسوعة غينيس، لعدة أسباب « قلة الدعم المادي وقلة الاهتمام، والتزامه لمهرجان جدة التاريخية، كما أنه من شروط الانضمام إلى غينيس، أن يتم الحفاظ على مكان القفل، الذي نقلوه من مكان إلى آخر».
أول مدينة خضراء نموذجية محافظة على هويتها وتراثها
تستعد العالمة السعودية في مجال البيئة والإنسان والتنمية المستدامة، ونائبة رئيس جمعية البيئة السعودية، وعضو مجلس الإدارة، والباحثة الإقليمية ضمن فريق ناسا العلمي، والأستاذة المساعدة في كلية العلوم بقسم التقنية الحيوية في جامعة الملك عبد العزيز في جدة الدكتورة ماجدة أبو راس لإطلاق أول مبادرة لإنشاء أول مدينة خضراء، نموذجية، منخفضة التكاليف في السعودية، وقد تم اختيار منطقة جدة التاريخية، كتطبيق لإنشاء هذا النوع من المدن.
وعن اختيار الموقع التاريخي، ذكرت أبو راس أنه و«لإنشاء أول مدينة بيئية متكاملة في جدة التاريخية، تحوي أسسا بيئية،تحافظ على الطاقة، وتسهم في توريدها، وتستخدم الطاقة البديلة، وتطوِّع المباني التاريخية، لتكون مباني خضراء، دون المساس بهويتها التاريخية. وهي تخدم ذاتها على نحو يتيح تحسين نوعية حياتها دون الإضرار بنوعية حياة الأجيال المقبلة. وأشارت الى أن هناك الكثير من الخطط، والاستراتيجيات، للحد من التلوث ورفع مستوى الوعي البيئي، لدى المؤسسات والجهات الحكومية وغير الحكومية».
وقالت أبو راس: «أمانة جدة، وجمعية البيئة السعودية، أطلقتا مع بداية مهرجان جدة التاريخية أول مبادرة بيئية، تستهدف المدن السعودية، تحت شعار مبادرة ساكن ومسؤول، وتشكل أول فريق تطوعي بيئي بالألوان، في المدن السعودية، وذلك لإعطاء زخم لمشاركة كل القطاعات في مهرجان جدة التاريخية. وهذه المبادرة شارك فيها فريق أصدقاء جدة، الذي ينبثق منه فريق المواطنة البيئية المستدامة بالألوان للعمل التطوعي».
وأشارت إلى أن المبادرة تستهدف «أكثر من مليون زائر، وسائح، وهو العدد المتوقع لزيارة مهرجان جدة التاريخية، ومشاهدة أكثر من 90 فعالية، من أجل تأصيل عودة الهوية، والقيمة العظيمة، لهذه المنطقة طوال عشرة أيام». وأضافت: «من الواجب علينا التشديد على أهمية تفعيل تطبيقات أمانة جدة، من خلال الرقم 940، خصوصاً خلال المهرجانات، والفعاليات، التي تستهدف عدداً كبيرا من الشرائح المجتمعية، والتأكيد على أن نظافة الوطن، مسوؤلية أبنائه، ومؤسساته، وقطاعاته، وأن الوقت قد حان من أجل تعميق، وتعزيز المفاهيم البيئية، داخل المدينة بشكل عام، وعلى وجه الخصوص في المنطقة التاريخية. وقد تم وضع 75 تطبيقا، للإبلاغ عن أي مشكلة، وبإمكان كل مواطن، ومقيم، إجراء هذا التطبيق لأي مشكلة، وتصوير المكان صورة، أو مقطع، يوتيوب وإرساله».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024