برلين مدينة التناقضات
ها قد حان الوقت للسفر مجدداً. لا أعرف كيف أشرح بالضبط هذا الشعور الذي يتملكني. لقد حان الوقت لاكتشاف مكان جديد في العالم. أتطلع للذهاب إلى برلين منذ وقت طويل. فكل ما سمعته وقرأته وعرفته عن العاصمة الألمانية زاد اهتمامي بها... برلين ليست مجرد مدينة أخرى. فمبانيها، وموسيقاها، وفنها، وفسيفساؤها البشرية تكشف كلها العديد من الجوانب المختلفة والمتناقضة في الحالة البشرية، مما أربك أفكاري ومشاعري. يروي تاريخها حكاية عيش على مفترق طرق طوال مئة عام... ها قد انطلقنا.
إذا توجّب عليّ وصف برلين بكلمة واحدة، فإني أختار المدينية. مكثت في «ميت» الواقعة وسط برلين بمحاذاة نهر سبري، وكنت أتنقل جيئة وذهاباً من ميت إلى كروزبرغ. فتبين لي أن الهندسة المعمارية هي مزيج من الهندسة الستالينية، مع مبانٍ سكنية تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وقد أعيد ترميمها (تبدو المباني وكأنها خرجت من المصنع نفسه)، وأسلوب باهاوس وبعض المفاجآت الجميلة في الهندسة المعمارية المعاصرة (الكثير من النوافذ الكبيرة والزجاج) ومبانٍ عصرية جديدة يقيم فيها مبدئياً سكان أجانب وعائلات شابة.
تسلحت بالكاميرا، ورحت أتجول في شوارع برلين أبحث عن اللقطة المثالية. فالمشهد الجميل المناسب لصورة يمكن أن يحصل خلال جزء من الثانية. ما من شيء محدد أو موجه. لا بد أن أكون حاضرة في تلك اللحظة المميزة. المسألة أشبه بالتأمل: التحرر من الأفكار وإفساح المجال أمام العينين لاستكشاف المنطقة.
لست من هواة سوق البرغوث مبدئياً، لكني وجدت أسواق البرغوث آسرة جداً لناحية التصوير. أعتقد أن أسواق البرغوث تطلعنا على الكثير حول ثقافة المدينة وتقاليدها وعاداتها وأسلوبها. ومثلما يقول المثل: «نفايات الأول كنز الآخر»، وجدت كنزي في تصوير المشهد.
سوق «فلوهماركت» Flohmarkt هو أحد أكبر أسواق البرغوث في برلين ويقع في ماور بارك (أي حديقة الحائط، وقد أطلقت عليها هذه التسمية تيمناً بجدار برلين السابق، الذي كان موجوداً هناك). إذا كنت من هواة جمع الأغراض العتيقة، لا شك في أن هذا السوق مناسب لك.
مساحات خضراء وفنون
تعتبر برلين إحدى أكثر المدن اخضراراً في أوروبا. ثمة حديقة عامة كبيرة وسط المدينة، Tiergarten ، إضافة إلى الكثير من المساحات الخضراء في أرجائها. فكل منطقة، أو «كياز» kiez ، تملك مساحة عامة لإقامة الاحتفالات في الشوارع، والعرض الأسبوعي لمنتجات المزارعين، ومسابقات تناول الآيس كريم أو البينغ بونغ (كرة الطاولة).
أما معرض East Side Gallery فهو ذلك الجزء العملاق من جدار برلين الذي لا يزال باقياً، وإنما جرى تزيينه بالغرافيتي والفنون. يمتد هذا المعرض على مساحة كبيرة جداً وبشكل رائع، مع ألوان ساطعة وصور كاريكاتورية، فبدا المكان رائعاً للتصوير. بعد ذلك، تجولت في أرجاء المدينة وتمتعت بعظمتها.
أمضيت بعد الظهر في سوق الفنون، وتنزهت في الشارع الرئيسي قرب الكاتدرئية والمتاحف. ذهبت بعدها لرؤية مبنى العاصمة وتنزهت في واحدة من الحدائق العامة الكثيرة في المدينة، قبل التوجه إلى متحف DDR ، الذي هو متحف تفاعلي حول تاريخ برلين في الجانب الاشتراكي من الجدار.
الخبز والبريتزل ألذّ ما تناولته
لا أعرف ما إذا كان بوسعي التعبير عن مدى حب الألمان للخبز (das Brot). فكلما مشيت قليلاً، وجدت أمامي مخبزاً (Bäckerei). ويمكنني القول إني تناولت الطعام حصراً في المخابز، من دون أن أنسى البريتزل، التي كانت ألذّ شيء تناولته في برلين، إذ كانت مغطاة بالجبنة وبذور اليقطين.
مترو برلين أو U-Bahn (من كلمة Untergrundbahn أي القطار تحت الأرضي).
لا توجد أكشاك لبيع التذاكر. يعمل المترو وفق نظام المصداقية مع التحقق العشوائي بين الحين والآخر. وجد الألمان أن الطريقة الأكثر فاعلية لتشغيل نظام القطارات تقضي بإلغاء البوابات.
نجحت في الوصول إلى المحطة، واشتريت التذاكر، وركبت في القطار الصحيح بعد عدد من المحاولات الفاشلة وسؤال العديد من الأشخاص حولي، علماً أن الجميع كانوا لطفاء جداً. وجدت طريقي في نظام قطارات جديد في مدينة غريبة، حيث لا أجيد اللغة ولا أعرف بالضبط ما الذي أفعله. قد يكون هذا أحد أظرف الأمور التي حصلت معي في هذه الرحلة، لكني تعلمت العديد من الأشياء وتعرفت إلى المدينة.
التسوّق للصحة العقلية!
لا تكتمل الرحلة إلى برلين من دون نزهة في جادة Kurfürstendamm (أو باختصار Ku’damm) في شارلوتنبرغ. وبالترافق مع الجادة المكمّلة لها Tauentzienstrasse، تعتبر أطول جادة في المدينة ومنطقة التسوق الأكثر ازدحاماً فيها، إذ توجد فيها المراكز التجارية الكبيرة والمتاجر الراقية ودور مصممي الأزياء.
يمكن مناداتي أحياناً، لا بل معظم الأوقات، مدمنة تسوق لأني أحب التسوق بكل بساطة. في الواقع، أشعر أحياناً أني بحاجة إلى ذلك، ليس من أجل الملابس وحدها، وإنما من أجل الصحة العقلية. أنا إنسانة عاشت حياتها على مبدأ «إفعلي ما تشائين، وما تحبين، واتركي القلق لوقت لاحق. عيشي حياتك بكل ما فيها...»، فلا عجب إذاً أن أكون من مناصري العلاج بالتسوق.
لا تزوري برلين فقط، بل اختبريها!
المدينة بحد ذاتها تحفة فنية متطورة باستمرار. فهناك المباني القديمة المذهلة المنتشرة في كل مكان. يجب ألا تقتصر زيارة برلين على رؤيتها، إذ لا بد من اختبارها أيضاً. إنها مركز للفنون والتصميم، وبدا ذلك جلياً بمجرد النظر من حولي.
أما الأشياء التي لفتتني في البداية فكانت الأنابيب المكشوفة- الساطعة والعملاقة، بحيث امتدت فوق الأرصفة والطرق كأنها قناطر. ولا ننسى طبعاً الموسيقيين على الأرصفة الذين أضافوا المزيد من الحياة إلى رحلتي.
أعتقد أن آب/أغسطس هو أفضل شهر لزيارة برلين. فالطقس جميل وأهل برلين مرتاحون ومسترخون. وإذا أتيحت لك فرصة الاختيار، أنصحك بزيارة برلين في أيام الربيع أو الصيف بدل أيام الشتاء.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024