رحلة إلى ما وراء أسوار سجن بيروت حبس النساء ألف حكاية وحكاية في عيون خائفة
تعتبر قضية السجون من القضايا الشائكة والمعقدة في لبنان، فمن المتعارف عليه أن الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، هذا هو حال السجون في لبنان بشكل عام، ولكن يبدو أن لسجن بيروت (للنساء) وضعاً خاصاً ومختلفاً عن غيره نوعاً ما، لأن مشاهداتنا فيه تختلف عما كان يجول في خاطرنا يوم قررنا إنجاز تحقيق عن السجينات وأوضاعهن وأحوالهن داخل السجن.
بداية استغربت وجود سجن للنساء داخل ثكنة عسكرية لقوى الأمن الداخلي، وحاولت تخيل حال السجينات فيه ومدى حريتهن في التحرك والتصرف والعيش كنساء لهن متطلباتهن وقضاياهن الخاصة التي تختلف عن الرجال. ولكن لمست منذ وصولي مدى الحرية المعطاة للسجينات في الحديث والمواجهة وإبداء الرأي في كل ما يتعلق بهن، خلافاً للسجون التي سبق أن زرتها وأجريت تحقيقاً عنها، وهذه الحرية جعلتني أنتظر في مكتب مديرة السجن السيدة ملك مراد وقتاً لا بأس به لأن جميع السجينات يرفضن التحدّث إلى الصحافة، ولا يردن التكلم عن قصصهن ووضعهن ولأي أسباب دخلن السجن. خوفهن من الفضيحة ومن عدسات الكاميرا يمنعهن من البوح، وهنّ زعمن أن بعض وسائل الاعلام المرئية وعدتهن بعدم اظهار وجوههن واعلان اسمائهن ولم تفِ بوعودها.
رغم رفضهن طلبت مواجهتهن ورؤيتهن لاقناعهن بنفسي، فنحن نجري تحقيقنا عن سجن النساء بهدف درس أوضاع المرأة السجينة بشكل عام والاسباب والدوافع التي تجعلها تدخل السجن والمعاناة والتأثيرات التي تنعكس عليها خلال وجودها داخل السجن وبعده. تقصّدت أن اقابل نساء مدانات بجرائم مختلفة، لأعرف مدى قدرة المرأة على ارتكاب الجريمة، فأنا لا أعرف عن المرأة إلا الوجه الجميل، والقلب الحنون، والانسان المعطاء. ما الذي يدفع هذا الكائن الرقيق إلى الجريمة؟ الجهل؟ الحرمان؟ العوز؟ الضغط والعنف؟
هناك في مكتب مديرة السجن كانت تدخل الواحدة تلو الأخرى، فتيات من عمر الزهور، نساء، أمهات، خادمات... جميعهن دخلن بخوف وحذر، كن خائفات من عدسات الكاميرا، من الحوار، من معاملتهن كمجرمات، ولكن بعد حوار بسيط معهن رحن يشعرن بالراحة ويبدأن الكلام من تلقاء أنفسهن، كان لكل منهن قصة مختلفة وعذاب مختلف، وحياة مختلفة، ولكن كان قاسمهن المشترك أنهن نساء مستضعفات، معذبات ومغلوبات على أمرهن.
القصص كثيرة، والمعاناة كبيرة، والنساء جميعهن وقعن في الخطأ والممنوع، بإرادتهن أو من غيرها. هذه قصصهن بألسنتهنّ، فما من إنسان يولد مجرماً وآخر سيداً، إنما هناك ظروف وأسباب تمهد للخطأ والجريمة وتشجع عليهما.
سميرة .ل. سيدة في الخمسين، أنيقة ومرتبة، فور دخولها عبقت رائحة العطر في الغرفة. لم أكن أتوقع أن هناك سيدات مثلها في السجن، فمن تقع عيناه عليها يظنها تعيش سيدة في منزلها. هي لم توافق بداية على التحدّث إليّ، ورفضت فكرة الحوار والتصريح إلى المجلة، ولكن كونها المسؤولة عن المكتبة الموجودة داخل السجن طلبت رؤيتها. كانت خائفة وحذرة جداً كغيرها من السجينات، «الاعلام يعني الفضيحة لي ولأهلي ولأولادي، أرجوكِ انتبهي لا تصوري، لا أريد الفضيحة لأولادي أمام زملائهم». ابتسمت وعرّفتها على نفسي، وقلت لها «أنا امرأة وأم وانسانة مثلكنّ، ووجودي هنا هدفه مساعدتكن وإيصال أصواتكن، لكنّ الحرية في الكلام والتصوير فأنا لن أرغم أحداً منكن على شيء». عندها شعرت ببعض الارتياح وبادلتني الحديث. سألتها عن هوايتها واهتمامها بالكتب والمكتبة، فتجاوبت وبدأت محاورتي.
سميرة سيدة متعلمة ومثقفة، وهي المسؤولة عن مكتبة السجن وكل ما فيها، كانت تريد أن تخبرني عن أحوال السجن والسجينات بشكل عام، وعن أوضاع المرأة وهمومها وهواجسها بشكل خاص. لم تكن تريد أن تتحدث عن مشكلتها الخاصة لأنها تراها مشكلة كل سيدة مطلّقة أو أرملة أو فتاة وحيدة لا معيل لها، تخرج إلى المجتمع بخبرتها المتواضعة لتلعب دور الرجل وتحلّ مكانه بهدف إعالة نفسها وأسرتها، فتواجهها نظرة المجتمع المليئة بالاستهزاء والاستهتار والاستخفاف بها وبقدرتها على العمل. تقول سميرة إن رسالة المرأة الإساسية في البيت وأن الرجل أوعى منها وأقدر على العمل خارج المنزل، لأن لديه الخبرة لعبور الدهاليز الموجودة في أغلب المهن. وفي نظرها، أغلب السيدات المطلقات والمستضعفات يرمين في السجن ليس لأنهن سيئات، بل لأنهن لا يملكن الخبرة الكافية في الحياة، ولأن المجتمع لا يثق بقدرتهن وبعملهن، حتى النساء أنفسهن لا يثقن ببعضهن ويشككن في قدرة الأخريات، لذلك لا يمكننا لوم الرجل على نظرته إلينا. «تبحث المرأة دائماً عن حقوق موجودة، فيما يجب أن تبحث عن قدرتها العقلية ورسالتها العائلية. بالنسبة إليّ، لقد أديت رسالة صالحة في منزلي، ووجودي في السجن سببه وقوعي في مطب قانوني خارج عن ارادتي، لا شك في أنني أخطأت وكنت مسؤولة عن غلطي حتى سجنت، ولكن ضميري مرتاح تجاه أسرتي».
عدم خبرة
سميرة امرأة مطلقة ولديها ولدان، حائزة إجازة في علم النفس الاجتماعي والصحي وكانت تحضّر لشهادة الدراسات العليا في الاختصاص نفسه قبل دخولها السجن، لكن عملها في تجارة العقارات أدخلها إلى السجن، فعدم خبرتها الواسعة في هذا المجال وثقتها العمياء ببعض الأشخاص والمراجع القانونية أوقعاها في مطب التزوير والاحتيال، وجعلاها تمضي 18 شهراً في السجن. «اعتمدت على كلام كاتب العدل وهو مرجع قانوني في قضية بيع أرض ووثقت بكلامه ووقعت في الفخ، أنا لا أبرر نفسي ولا شك في أنني أخطأت في مكان ما حتى سجنت. ولكن استئناف المحامي لقضيتي أضرّ بي أكثر مما أفادني، فأنا مخلى سبيلي من ثمانية أشهر وعملية الاستئناف جعلتني أبقى مدة أطول».
لا تتذمر سميرة كونها في السجن ولا تلوم أحداً بسبب وضعها، بل تتقبله وتحاول التأقلم معه قدر المستطاع، «في السجن تعلّمت تقبل الواقع كما هو، كما تعلمت تقبل الآخر أكثر من السابق، عادة خارج السجن نحن نختار الأشخاص الذين نعاشرهم، أما هنا فلا مجال لذلك. في الخارج يكون الانسان آمراً، أما في السجن فمأمور. خلال فترة سجني، حاولت أن يكون لدي نتاج إيجابي، فكنت أقرأ كثيراً كعادتي وأكتب قصصاً ومسلسلات. كان السجن بمثابة فرصة لي لأعيد النظر في أمور عدة، ومن ضمنها موضوع رسالتي الجامعية، لأنني عشت الواقع أكثر ودخلت دائرة المشاكل واختبرتها وشعرت بها وتعرفت إلى حياة السجن والسجناء». ترى سميرة أن وضع السجينات أفضل بكثير من مثيلاتهن، لأن أغلب الحاجات مؤمّنة لهن، «نحن نلوم القيمين على السجن أحياناً، ونطالب بالكثير من الحقوق وننسى أننا سجينات وهم موظفون يؤدون واجبهم كغيرهم من الناس. في السجن لا بد من العقاب وإن في جانب بسيط منه. أنا لست ضد المرأة ولكنني أراها متطلبة بعض الشيء، فكل واحدة منا تريد ان يكون السجن مفصلاً على مقاسها ووفق متطلباتها، وتظن أنها في منزلها وهذا أمر غير ممكن، علماً أن كل شيء مؤمن لنا، وأي شيء نريده ضمن القانون نحصل عليه».
وجود سميرة في سجن النساء جعلها تغير نظرتها إلى المرأة، «المرأة تفعل كل شيء وتريد أن تبرر نفسها وخطأها، نحن نخطئ ولا نريد العقاب، وهذا أمر مستحيل». تنظر سميرة إلى مستقبلها بكثير من التفاؤل والأمل، ربما لأن وضعها المادي والعائلي يختلف عن وضع بقية السجينات، فلسميرة بيتان، واحد في بيروت وآخر في قريتها، وأهلها لم يتخلوا عنها في محنتها، بل يواظبون على زيارتها دائماً، وهي من طلبت من والدتها وأولادها عدم الحضور لأنهم يتأثرون نفسياً كلما زاروها. تتمنى سميرة أن تخرج في أسرع وقت لترى أولادها وتعيد بناء حياتها بشكل أفضل، لأن الدرس الذي تعلمته رغم قساوته كان مفيداً جداً لها. «وجودي هنا كان بمثابة فرصة ذهبية لي، لأنه طوّعني وجعلني إنسانة سلسة قوية قادرة على تحمل العقاب». لا تنكر سميرة أنها شعرت بالظلم كما شعرت بالندم، ولكن كان عليها تقبل الوضع واستيعابه من أجل اجتياز هذه المحنة.
فاتن.ن أرملة في الخامسة والخمسين من عمرها، أدخلت السجن بتهمة السرقة وفي سجلها القانوني 27 مذكرة توقيف. ألقي القبض على فاتن منذ سنتين، إذ كان بحقها أربع مذكرات توقيف كما تقول، وخلال وجودها في السجن ارتفع عدد هذه المذكرات إلى 27.
فاتن امرأة أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة، تزوجت خلال حياتها من رجلين، وأنجبت من كل منهما أربعة أولاد. الاثنان توفيا وتركا لها ثمانية أولاد وحالة فقر وعوز لا حدود لهما. تقول فاتن: «بدأت قصتي مع العوز خلال زواجي الأول، إذ أصيب زوجي بمرض القلب وبات لا يستطيع العمل مما دفعني للعمل في البيوت من أجل إعالة عائلتي، كان زوجي قاسياً وظالماً ويرغمني على الشحادة والعمل في البيوت، وبعدها دفعني لسرقة البيوت التي كنت ادخلها». تبكي فاتن بحرقة ندماً وتقول: «أغواني الشيطان وبعدها تبت. بعد وفاة زوجي الأول تزوجت مرة ثانية وأنجبت أربعة أولاد من الثاني، وكنت أريد أن أعيش مع عائلتي بسلام، ولكن أصيب الزوج الثاني أيضاً بمرض خطير وتوفي تاركاً لي عائلة كبيرة وهمّاً أكبر، فعدت للعمل في البيوت واضطررت لمد يدي مرة أخرى كي أحصّل مالاً أكثر، فأنا أيضاً مريضة وأعاني أمراض القلب والضغط والسكري، وفي حاجة إلى أدوية كثيرة غالية الثمن. كما أن عائلتي كانت بحاجة إلى الطعام. أعرف أنني كنت على خطأ وتبت منذ وقت طويل، ولكن مع الأسف لم تنفعني توبتي لأن تهمتي بقيت تلاحقني طيلة حياتي. عند دخولي السجن فوجئت بالقضايا والتهم الموجهة إلي، والتي وصلت إلى 27 مذكرة توقيف بتهمة السرقة وغيرها، لا أعرف ما طبيعة هذه الدعاوى ولا مدة حكمها». تؤكد فاتن أنها تابت وأنهم عندما قبضوا عليها في الشارع لم تكن تسرق، أو تحمل أي مسروقات. «كنت بصحبة فتاة غير سوية، وطاردتنا قوى الأمن في الشارع، وأوقفونا وأتوا بي إلى هنا. في البداية قالوا إن بحقي أربع قضايا ومدة سجني سنتان، ولكن مع الوقت بات يرتفع العدد ولم أعد أعرف مدة سجني... أشعر بأنني سأموت في السجن من دون أن يسأل عني أحد».
لدى فاتن ثمانية أولاد، ومع ذلك تقول إنها امرأة مقطوعة، لا أحد يزورها أو يتعرف إليها، لا أولادها ولا إخوتها ولا حتى جيرانها أو صديقاتها، ولا أحد يتذكرها بحبة دواء. لفاتن ابنة معها في السجن، وقد فوجئت هي بدخولها إلى السجن: «لدي ابنة يتيمة لحقت بي إلى السجن، ولا أعرف سبب دخولها الحقيقي. صُعقت عندما رأيتها وعرفت منها انها ألصقت بنفسها تهمةً وتبعتني، فزوجها مسجون ولديها ابنة صغيرة لا تستطيع إطعامها، وأهل زوجها لا يساعدونها في تربيتها، وكانت تضطر أحياناً لإطعامها ماء وسكراً كي تخفف جوعها».
وفاجأتنا فاتن بقصة ابنها المسجون أيضاً، «ابني الحنون مسجون في سجن رومية، افترى عليه أحد الشبان وافتعل معه مشكلة وأدخله السجن، أما بقية أولادي فلا يسألون عني ولا يزورونني».
مستقبل فاتن مجهول وقاتم لأنها لا تملك بيتاً يؤويها هي وأولادها بعد خروجها من السجن، كما لا تجيد أي صنعة سوى العمل في البيوت والتسول. «كنت أسكن في بيت من صفيح وفقدته بعد دخولي السجن، اذا خرجت من السجن لا أعرف أين أذهب، ولا ماذا سأفعل. سأعود إلى التسول على الطرق مع ابنتي كي أحصّل رزقي وثمن الدواء».
وهي تتمنى أن يساعدها أحد لتخرج من أزمتها وتحضن عائلتها في بيت واحد وتستقر، تقول: «لم يساعدني أحد، لا محامٍ ولا جمعيات ولا أحد... أمنيتي أن أخرج من السجن وأحضن أولادي الأيتام المشتتين والضائعين في الطرق».
وقعت في الفخ
بكثير من القهر والعصبية تروي لنا سعاد قصتها مع السجن، ومع أهلها الذين تخلوا عنها ولم يقفوا بجانبها لتخرج من أزمتها. فهي امرأة في الخامسة والأربعين، مطلّقة ولديها ولدان، صبي وبنت، الشاب مسجون في سجن رومية بتهمة التحرش، والفتاة عند والدها في سورية. تقول سعاد إنها كانت عضواً في لجنة أهالي المساجين، وناشطة في أغلب التحركات التي كانت تحدث من أجل حريتهم وحمايتهم من المخدرات التي تُسرّب إلى السجن. «كنت أعمد إلى إقفال الطرق، وحرق الإطارات من أجل أبناء الجميع وليس فقط من أجل ابني. وتحدثت أكثر من مرة عبر وسائل الإعلام عن مطالبنا كأهالٍ للمساجين، لأن أغلب الشباب الذين يدخلون السجن يتعلمون إدمان المخدرات داخله من بقية المساجين. لقد نصبوا لي فخاً، إذ اتهمني أحد المساجين الذي ضبطت معه مخدرات بأنني أنا من هربت له هذه الممنوعات، وأُلقي القبض علي بتهمة الترويج للمخدرات، ولم يصدق أحد أنني بريئة، حتى عائلتي الكبيرة لم تقف بجانبي أو توكل محامياً ليدافع عني، علماً أنهم مقتدرون. لا أعرف لماذا فعلوا بي هذا، وأنا التي كنت أتحرك من أجل أولادهم وأغلب المساجين. لقد صدر حكم بسجني ثلاث سنوات، انقضى منها 21 شهراً، ويبقى لي وفق مدة السنة السجنية 6 أشهر كي يُخلى سبيلي، كما يجب علي دفع مليوني ليرة لبنانية لا أملك منها ليرة واحدة».
تعاني سعاد في السجن كثيراً لأنها لا تجد من يسأل عنها أو يساعدها لتخرج. فالجميع تخلوا عنها عند دخولها السجن، لا أحد يزورها أو يوكّل محامياً لها من أجل مساعدتها على خفض الحكم. عائلتها كبيرة ولديها إخوة كثر، ولكن لا احد فيه خير كما تقول، «لي اخت واحدة فقيرة تزورني كل أربعة أو خمسة أشهر، ولا تحضر لي شيئاً أو تعطيني أي مساعدة لأن أحوالها المادية صعبة. أشعر بعذاب كبير هنا لأن والدي توفي ولم أعرف بالخبر إلا بعد أربعة أشهر من وفاته، كما أنني لا أعلم شيئاً عن أولادي، ولا أحد يطمئنني إليهم وإن بكلمة، أنا امرأة عاثرة الحظ منذ ولادتي كأمي، ولا نصيب لي في الحياة». تؤكد سعاد أنها بريئة وهي تشعر بظلم كبير لأنها سجنت من دون ذنب، فالفحوص المخبرية التي أجريت لها بيّنت أن دمها خالٍ من المخدرات، كما لم يضبط بحوزتها أي منها. ورغم ذلك سجنت، وهي تقول إن غيرها من الأشخاص المروجين بالكاد يحاكمون ويخرجون في وقت قصير جداً. «الجميع يستغربون أنني من آل (م) وفي السجن، لأن أغلب من يدفع يخرج ويُخلى سبيله وخصوصاً اذا كان لديه دعم من جهة معينة».
لا تشعر سعاد بالندم، لأنها لم تفعل شيئاً سيئاً لتندم عليه، وترى أنها ستخرج من السجن امرأة أخرى، خصوصاً انها تعلمت درساً قاسياً منه لن تنساه أبداً. «علمني السجن عدم الوثوق بأحد وعرّفني على طبيعة الناس وحقيقتهم وخصوصاً أهلي، لن أصدق بعد اليوم أحد حتى لو قالوا لي إن والدتي قامت من قبرها لن أذهب إليها بل سأقول لهم فلتأتي هي إلي. السجن ولّد لدى سعاد كآبة كبيرة وصعبة جداً كما تقول، فهي تشعر بالوحدة والحزن والأسى رغم علاقتها الجيدة ببقية السجينات، ورغم ذلك تنظر إلى مستقبل أفضل بعد السجن، لأنها تعلمت داخله أشياء كثيرة، معنوية وعملية، «تعلمت هنا صناعة السلال والخياطة والتطريز مما يمكنني بعد السجن من أن أكون منتجة ومستقلة مادياً».
15 سنة في السجن
بوديكا ن.، أثيوبية في الرابعة والثلاثين من عمرها، تعتبر من اقدم سجينات سجن بيروت، إذ مضى على وجودها هناك 15 عاماً وستكمل بقية عمرها فيه. بوديكا محكومة بالسجن المؤبد بجرم القتل ومحاولة القتل. لقد قتلت بوديكا مخدومتها وحاولت قتل زوجها بالسكين، هكذا اخبرتني بلكنتها العربية الضعيفة. لم تكن تريد قتل أحد ولا تحب أن تتذكر ذاك اليوم المشؤوم، ولكن وفق قولها، ظروف سيئة قادتها إلى هذا القدر، ودفعتها للقتل غصباً عنها. تروي بوديكا أن مخدومتها كانت تعاملها معاملة سيئة جداً، تضربها وتحتجزها في المنزل، ولا تعطيها راتبها بحجة أنها لا تحتاجه لأنها غير متزوجة. كما كانت تحرمها من التحدث إلى أهلها عبر الهاتف. وفي يوم من الأيام اشتاقت بوديكا إلى أهلها وهاتفتهم بغفلة عن مخدومتها، واطمأنت إلى والدتها ووالدها وأقفلت الخط. وعندما جاءت سيدة البيت لتتحدث على الهاتف اكتشفت فعلتها، وثارت ثائرتها عليها وراحت تضربها ضرباً مبرحاً وأمسكتها من شعرها وأخذت السكين وهددتها بالقتل وجرحت رقبتها. لم تستوعب بوديكا البالغة يومها 19 عاماً ما يحصل معها، خصوصاً عندما شاهدت الدم يسيل من رقبتها، فضربت السيدة وأوقعتها أرضاً وأخذت السكين من يدها وطعنتها بها طعنات عدة حتى ماتت. تقول بوديكا: «لم يكن أمامي من خيار. كانت تريد قتلي فقتلتها دفاعاً عن نفسي وأقفلت باب البيت علينا، وعندما عاد صاحب البيت حاول الدخول فلم يقدر. انتظرت قليلاً وبعدها فتحت الشرفة بسبب حرارة الطقس، وكان الرجل لا يزال ينتظر فدخل منها وبدأ بضربني ويصرخ بوجهي، فما كان مني إلا أن اخذت السكين وطعنته هو أيضاً ولكنه لم يمت، وأُلقي القبض علي وحكمت بالسجن المؤبد المبرم».
تعترف بوديكا بأنها أخطأت، وهي نادمة على فعلتها هذه كثيراً ولكن لا ينفع الندم الآن لأنه لن يغير شيئاً في حياتها. «أعيش في السجن منذ 15 سنة كبقية السجينات وتعلمت كيف أصنع السلال من الورق، ويتم بيع منتجاتي خلال المعارض، ويوضع المال في حسابي، وأحول جزءاً منه إلى أهلي». لا تفكر بوديكا في الحياة ولا في مستقبلها وتعتبر نفسها مذنبة وتستحق العقاب حتى لو كان ذلك دفاعاً عن النفس. هي تعيش في السجن لتمرير الوقت لا أكثر، وتتمنى أن يأتي يوم تستطيع فيه السفر لرؤية والدتها.
مديرة السجن السيدة ملك مراد
تتحدث مديرة سجن بيروت السيدة ملك مراد عن واقع سجن بيروت للنساء، وتشرح لنا كيف كان وأين، وكيف أصبح. إذ لم يكن سجن بيروت يختلف كثيراً عن سائر السجون في لبنان، إن من حيث الحجم أو المؤهلات والوضع السيئ، إلا أن المديرية العامة لقوى الأمن أجرت تعديلات فيه ونقلته من مكانه في منطقة الظريف إلى ثكنة بربر الخازن في فردان، وأنفقت ما يقارب المليون دولار حتى أصبح على ما هو عليه الآن. تقول مراد: «حال السجن الآن أفضل بكثير مما كان عليه، من حيث الحجم أو المؤهلات، فهو مجهز بكل الوسائل الضرورية للإنسان إضافة إلى وسائل التسلية والتعليم، ففيه وسائل تدفئة وتلفزيون ومكتبة وغرفة خاصة لتعليم السيدات الخياطة وبيانو... كما أنه بات بامكانه استيعاب ما يقارب 80 سجينة، بواقع عشر في كل غرفة، وهو يحتوي الآن على 44 سجينة، بحيث تشغل كل غرفة 6 سجينات تقريباً. أما بالنسبة إلى المعاملة وأسلوب التعامل مع السجينات فتقول: «لا قانون يفرق في أسلوب التعامل مع السجين أو السجينة، إلا أن المرأة، هذا الكائن الضعيف الرقيق الذي خلقه الله ليكون مصدراً للحنان والعاطفة، ترغمك مهما كانت عقوبتها على أن تعاملها بطريقة مختلفة، وخصوصاً عندما تعرف حقيقة مشاكلها والبيئة الاجتماعية التي كانت تعيش فيها. بطبيعتي لا أحب إهانة المرأة مهما كانت تهمتها أوعقوبتها، ومهما كان سلوكها. نحن نحرص دائماً على معاملتها بإحترام ونحاول التعرف إلى حالتها ووضعها وظروف دخولها السجن، ونعمل على مساعدتها نفسياً وصحياً وقانونياً قبل أن نضمها إلى السجينات الأخريات».
وتضيف: «إذا كان للسجينة وضع خاص، كأن تكون حاملاً مثلاً، تخصَّص غرفة لها تسمى غرفة المرضعة والحامل، ولا تشاركها إياها أي من السجينات. علماً أن القانون يمنع تنفيذ الحكم بالمرأة الحامل إلى أن تنجب، كما يمنع دخول الأولاد إلى السجن، ولكن هذا القانون يشهد بعض الاستثناءات أحياناً فهناك حالات خاصة ننظر فيها وفق طبيعتها. مثلاً لدينا الآن سجينة يرافقها ولداها هنا، هي غير لبنانية ولديها وضع خاص وموقت، ولذلك خصصنا لها ولأولادها غرفة كاملة وحرصنا على أن تكون مشمسة ويدخلها الهواء بشكل دائم، هي من أكثر الغرف أماناً حفاظاً على صحة الاولاد وسلامتهم».
وتوضح السيدة مراد أن وزارة الصحة ووزارة الشؤون تنسقان وتتابعان مع إدارة السجن هذه الحالات وتتكفلان بكل حاجات الأولاد من حليب وحفاضات وأدوية... وتلفت مراد إلى أن على «السجينة إلتزام نظام السجن وقوانينه التي نُطلعها عليها عادة عند دخولها السجن. للسجينة الحق في مواجهة أهلها والتحدّث معهم عبر الهاتف، كما يحق لها شراء أشياء خاصة بها يتم تأمينها عبر الجمعيات، فمثلاً يحق لها اذا احبت ان تطبخ شراء ما تريد من حسابها الخاص عبر الجمعيات، وعادة يتم تفتيش جميع الاغراض التي تدخل السجن، وكل غرض ممنوع أو مشكوك بأمره لا ندخله». وعن طريقة فرز السجينات في الغرف وبناء على أي اعتبارات يتم ذلك، تقول: «قانوناً يجب فرز المحكومات عن الموقوفات، ولكن نحن هنا لا يمكننا اتباع هذا النظام لأن عدد السجينات قليل نسبياً، وعادة نعمل على خلطهن وفقاً لحالتهن الاجتماعية وأعمارهن ومستوياتهن الفكرية، ونطلب من المثقفات مساعدة زميلاتهن وتعليمهن اذا أمكن». وعن نظام السجن ومدى حرية التحرك فيه والنشاطات التي تمارسها السيدات خلال نهارهن تقول: «عادة تفتح أبواب الغرف في الثامنة صباحاً، ويحق للسجينات في هذا الوقت تناول الفطور وأخذ الدواء وشرب القهوة أو الشاي، وعند الساعة الثانية يأتيهن الغداء ويتم بعدها تنظيف الغرف وتعداد السجينات، إذ تقفل الابواب عند الساعة الخامسة عصراً ولا تفتح إلا في اليوم التالي. وعادة يتم خلال النهار تدريب السجينات على بعض المهن كالخياطة والتطريز وشكّ الخرز وصناعة السلال وغيرها من الحرف، كما تقام دورات خاصة لتعليمهن اللغات أو الموسيقى أو غيرها من الفنون والحرف. وبالإضافة إلى ذلك، نحاول عبر الجمعيات تأهيلهن نفسياً لمواجهة المجتمع بعد خروجهن من السجن».
وتختتم مراد بالقول: «لا يزال مجتمعنا يقسو على المرأة ولا يرحمها، ونحن لا نستطيع تغيير نظرة المجتمع إلى المرأة السجينة ولذلك نعمل على تأهيلها هي لتتقبل المجتمع وتعرف كيف تواجه الصعوبات فيه».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024