دموع إمبراطورة المخدرات الصغيرة: والدي دمّرني!
دموعها كانت تغلف كلماتها وهي تحاول أن تلقي باللائمة على والدها الذي دمّر حياتها. تعاطف معها رئيس النيابة لكنه أمر بحبسها، فالقانون لا عواطف فيه، والأوراق لا تعرف سوى الأدلّة. ضاع مستقبل هدى ابنة الثلاثة عشر عاماً، بعد أن كانت الأولى في فصلها الدارسي، وتبدّدت طموحاتها التي تجاوزت الحدود. والدها تاجر مخدرات شهير، وعبثاً حاولت أن تهرب من واقعها الذي أطل عليها بوجهه القبيح، فكان الأب هو الطريق الذي قاد ابنته إلى السجن!
وراء القضبان كانت هدى تبكي بحرقة وتقول: «سامحك الله يا والدي، أنت السبب في كل ما جرى لي. كنت أحلم بأن أصبح طبيبة، كنت الأولى في المدرسة الابتدائية التي أدرس فيها، لكنك قتلتني وأنا على قيد الحياة، أصبحت تاجرة مخدرات بفرمان منك، أنت الذي تستحق الإعدام، فأنت لست أباً!».
كانت دموع الفتاة تمزق القلوب، فالجميع يعلمون قصتها، وهي بالفعل ضحية لأب لا يعرف الرحمة، ولم يتخيل أن ابنته الوحيدة من الممكن أن تكون أفضل حالاً منه، وأن تعيش بعيداً عن حياة المخدرات التي غرق فيها... أدمن المخدرات ثم أصبح أكبر تاجر لها في المنطقة التي يسكنها. حاولت زوجته عبثاً أن تنقذ ابنتها من هذا المصير، خاصة أن الأم المغلوبة على أمرها لم تكن سعيدة بما يفعله زوجها، لكنها في الوقت نفسه لم تكن تملك أن تفعل شيئاً في مواجهة زوجها الذي يخشاه أعتى الرجال.
كانت الأم عاجزة وهي ترى زوجها يعنّف ابنته لانشغالها في المذاكرة، كان يطلب منها أن تستمع إليه حتى يعلمها كيف تصبح تاجرة مخدرات، خصوصاً أن لا أبناء ذكوراً له، ولا بد أن ترث ابنته هذه المهنة.
أسقط في يد هدى التي أدركت أنها لن تستطيع أن تهرب من واقعها، وكانت أمها معدومة الحيلة أمام زوجها القاسي الذي لا يهمه أي شيء في الدنيا سوى المال. دخل السجن عشرات المرات، طاردته الشرطة وأطلقت عليه النار، لكنه لا يخشى تلك الأجواء المرعبة...
استسلام
أمام تصميم الأب بدأت الابنة تستسلم لقدرها، واستجابت لوالدها الذي راح يصطحبها معه أثناء لقاءاته مع كبار تجار المخدرات الذين تعجبوا من وجود هذه الفتاة البريئة التي أراد والدها أن يدربها على حياة المخدرات وعالمها المثير، وبالفعل بدأت الفتاة الصغيرة تتفاعل مع هذا المناخ.
أخبرها والدها انها ستربح الملايين بعد فترة وجيزة من عملها في مهنة المخدرات، وبدأت هدى تفهم كل أسرار المهنة الخطيرة، مدركةً أن عليها أن تكون شديدة الحذر خوفاً من وصول الشرطة إليها، لأن الخطأ الواحد يساوي السجن سنوات طويلة، والنجاح يساوي أموالاً طائلة.
وبالفعل تمكنت هدى من إنجاز بعض صفقات المخدرات وحدها، بعد أن أرسلها والدها لتسلم شحنة من الهيروين ومعها بعض أفراد العصابة، وكلف أحد مساعديه إعطاء إبنته الفرصة كاملة حتى يستطيع الحكم على أدائها، لكنه الأب طلب منه أن يتدخل في الوقت المناسب لإنقاذها في حالة تعرضها للخطر.
ونجحت تاجرة المخدرات الصغيرة باقتدار في أول اختبار لها، وقرر الأب أن يمنحها آلاف جنيه مكافأة لها على نجاحها في أول عملية، وكانت سعادة الابنة بلا حدود بهذه الأموال، لكنها عادت إلى غرفتها واغلقت بابها على نفسها وراحت تفكر في مستقبلها... ذكاء الفتاة كان يمثل لها مشكلة، لأنها ليست مجرد فتاة عابثة تافهة تفرح بالمال، كانت هدى تفكر في مستقبلها المظلم، وفي السجن الذي قد يواجهها في حالة القبض عليها، رغم أن والدها كان يخبرها أنها من الممكن أن تظل بعيدة عن قبضة الشرطة طالما بقيت حريصة وحذرة.
لكن الحذر لا يمنع السقوط، فالأب كان يمثل لابنته نموذجاً لا يحتذى به لأنه لم ينقذه حذره من الشرطة التي تمكنت من القبض عليه متلبساً بتهريب المخدرات، وأحبطت محاولته إدخال شحنة من الهيروين إلى مصر.
أصاب هدى ووالدتها إحباط شديد، الأب دخل السجن، وقد يمكث فيه سنوات طويلة، وقررت هدى أن تعود إلى المدرسة وتمحو من ذاكرتها الأيام الماضية التي استسلمت فيها وقبلت أن تكون تاجرة مخدرات. وبالفعل انهمكت الفتاة في دراستها من جديد، وشعرت بأنها نفضت الكابوس عن كاهلها، لكنها كانت واهمة.
استدعاها والدها في محبسه، وفي موعد الزيارة اتجهت الفتاة إليه بخطوات مرتعشة، مستشعرة أن الحلم سينتهي من جديد، وأن والدها سيطالبها بالعودة إلى مهنة أجداده. وصدق حدس الفتاة، فقد بادرها الأب بقوله:
«يا ابنتي لا بد أن تواصلي مشواري مع المخدرات، نحن أصبحنا أسرى لها.
لكن يا أبي!
لا تقولي كلمة واحدة، فقط اسمعيني، فربما يكون هذا هو اللقاء الأخير بيننا، لأنني قد أواجه حكم الإعدام بتهمة جلب الهيروين، ولابد أن تواصلي المسيرة».
ساد الوجوم المكان، وراح الأب يوجه ابنته ويرشدها إلى الخطوات التي يجب أن تقوم بها حتى تواصل المسيرة. وبدا لها أن الطريق الذي رسمه لها والدها لا رجوع عنه، ولم تجد في النهاية سوى الانصياع له وهي تعلم جيداً أن فرحتها بالأموال التي تربحها في مهنة المخدرات من المنتظر أن تنتهي قريباً، وهذا بالفعل ما حدث لها.
كانت هدى شديدة الحرص في تحركاتها وفي اتصالاتها مع عملائها، وتستخدم هواتف عدة حتى يصعب تتبعها، وتستخدم ايضا الشيفرة في الحوار. وتمعن في الحرص بأن تخفي على اقرب المقربين لها في عصابتها مواعيد تسليم شحنات المخدرات. هكذا علمها والدها ألا تثق بأحد، حتى لا تدفع ثمناً غالياً لهذه الثقة.
الفخ
توالت العمليات الناجحة التي قامت بها هدى ببراعة مستخدمة ذكاءها، كانت تزور والدها في محبسه وتحكي له تفاصيل هذه العمليات، ويربت الأب على كتف ابنته، ويشيد بها ويقول: «الآن فقط أشعر بالفخر لأنني أنجبتك، رغم حزني على عدم إنجابي ذكوراً».
طلب منها أن تودع الأموال التي كسبتها في حسابه بأحد البنوك، وأن تحصل لنفسها ولأمها على بعض منها. وغادرت الفتاة المكان وهي تشعر بأن التمثيلية السخيفة التي كتب والدها سطورها توشك أن تنتهي.
وبالفعل كانت أجهزة الأمن تتتبع هدى بعد أن ذاع صيتها، ورغم حذرها الشديد نجحت مباحث مكافحة المخدرات في أن تدس مصدراً سرياً بين عصابتها، وبسرعة حاز ثقتها، وبدأ ينتظر ساعة الصفر التي ستقوم خلالها هدى بتسلم صفقة جديدة من الهيروين.
وسقطت إمبراطورة الهيروين الصغيرة متلبسة خلال تسلمها الشحنة. وحاولت الهرب لكن دون جدوى، فالشرطة كانت تحيط المكان من كل جانب، ولم تجد هدى مفراً من الاستسلام.
وأمام ضباط المباحث بكت بحرقة، وأطلقت نيران اتهاماتها على والدها، فهو السبب الأساسي للمصير الذي آلت إليه، وطالبت بمحاكمته بتهمة إضاعة مستقبلها، بعد أن كانت أكثر طالبات فصلها تفوقاً، وقالت: «لم أكن يوما أحب هذه المهنة أو مقتنعة بها، أو أحب المال الذي أكسبه منها، لكنني كنت مغلوبة على أمري أمام إصرار والدي الذي لم أكن أملك الاعتراض على أوامره... حاسبوه قبل أن تحاسبوني».
أنهت المتهمة الصغيرة اعترافاتها، وقررت النيابة حبسها وإحالتها على محكمة الأحداث بتهمة الاتجار بالمخدرات.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024