تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

'الحبّ صنيعة النساء' لسارة مطر

الكتاب: «الحبّ صنيعة النساء»

الكاتبة: سارة مطر


العودة إلى الذات كان ثيمة عملها الأدبي الأوّل الذي جاء بعنوان بديع «قبيلة تُدعى سارة» (2008)، إلاّ أنّ الغوص في أعماق هذه الذات تكرّس في شكل أوضح في كتابها الجديد «الحبّ صنيعة النساء».


في هذا العمل الذي يندرج تحت مُسمّى «اليوميات»، تُكمل الكاتبة السعودية الشابة سارة مطر مشروعها الإبداعي في تدوين يومياتها. إلاّ أنّ تجربتها الثانية هذه تبدو أكثر نضجاً من الأولى، إن من ناحية القيمة الفنية أو حتى مستوى اللغة.

«الأنا» هي الأساس الذي منه تنطلق الكاتبة للحديث عن نفسها وعن الآخرين الذين شكلّوا جزءاً من حياتها أو ربما من ذاكرتها.
يوميات الكاتبة لا تقتصر على تدوين بعض الأحداث المهمة خوفاً من أن تُرمى في مُهملات الزمن، بل تحاول أن تكون تعبيراً عن أفكارها الحميمة، أو بالأحرى سجلاً لتجربتها الباطنية.
وتأخذ كلمة «التجربة» هنا معنى شاملاً لأنها تُغطّي مختلف وجوه الحياة: «الحبّ، الصداقة، العائلة، المواطنة، السفر، الكتابة...».

بطل يوميات سارة مطر هو حبيبها الذي تبدأ من عنده، وتنتهي إليه. يعرب الناصري هو الحبيب البعيد الذي تتوجه إليه الكاتبة بصيغة المُخاطب وكأنّه هو الشخص الذي من أجله تكتب هذه الأحداث وتُدوّنها: «حتى قبيل أسبوع من مجيئك إلى الرياض، لم أكن لأصدّق أنّك صرت أقرب مني، حتى من ظهر أخي الذي كنت أتسلّى بعدّ فقراته بينما أمي ترفعه إلى السماء، ثمّ تجذبه نحوها، وتدغدغ وجنتيه، وترقيه بآية الكرسي والمعوذات».

إلاّ أنّ موقع هذا الحبيب يتبدّل في النص بحسب النص نفسه، فهو يتحوّل أحياناً من «المُخاطب» إلى «الغائب»، ليُصبح القارئ نفسه مُخاطباً: «لم أتصوّر في حياتي أن يكون في حياتي رجل يُشبهه.
لم أحلم أن يسكن قلبي رجل غيّور مثله. حينما أحببته لم أتصوّر كيف ستكون حياتي من دونه. كنت أردّد طويلاً أنّه رجل يغار من نسمة الهواء إن مرّت صوبي، بل غيّور جداً ومزاجه متقلّب أيضاً، وأحياناً يتحوّل إلى رجل كطفل، ويفرض أشياء كثيرة عليّ» (ص101).

تكتب سارة مطر وكأنها تقوم بفعل استبطان، إنها تغوص في عالمها الداخلي لتستخرج من عتمته كلّ أسئلتها وأفكارها ومشاعرها وانطباعاتها.
هكذا تغدو الأحداث كلّها، وإن كانت بسيطة، مثيرة للاهتمام من فرط صدقها وعفويتها وحميميتها: «طلبت منه أن يمنحني فرصة أن أكون فيها وحيدة. وقد منحني إيّاها على مضض.
تمنيت أن أعيش دوري وأنا أبحث عنه، أن أعود إلى كوني الأوّل دون أن أعرف أنني سأصل إليه، وأنّ قدري سيكون محكوماً معه، قرّرت أن أخلي سبيله، أن أهبه الحرية، ويهبني الخلاص المؤقت. لم يكن يعرف ما يدفعني إلى ذلك. لم يكن يعرف ما أريده من فكّ حصاري الكبير له.
لكنّي وحدي كنت أعرف أنّ الكوكب الفضي يُنقّط ضوءه العسلي حينما يتحرّر، وحدي أردت أن أعرف كيف تكون قيمته الحقيقية في حياتي. وكنت أريد أن أكتشف الفرق الكبير بين أن أكون مجرّد سارة وبين أن أكون معه».

تنتقل سارة مطر في «الحبّ... صنيعة النساء» بخفة مدهشة من القضايا الكبرى (الحب والحريّة) إلى التفاصيل الصغيرة (حذاء ماركة لوبوتان وشوربة بمرق الدجاج)، من دون أن نلتمس أيّ تغيّر في لهجتها، حتى لتبدو موضوعات الحياة كلّها عبارة عن قضايا مهمة بالنسبة إلى الكاتبة.

يتجلّى أيضاً في هذه اليوميات الواقعة في 158 صفحة الحسّ النقدي لدى الكاتبة السعودية الشابة سارة مطر بحيث أنّها لا تُخفي انزعجها من بعض جوانب مجتمعها الذي يفرض الكثير من القيود: «أدركت لماذا يشعر الجميع في وطني بالملل والكآبة. والسبب أننا لا نملك حقّ الحرية...» (ص87).
إلاّ أنّ مطر لا تشعل حرباً ضدّ الذكورية كما يُمكن للقارئ أن يتصوّر من عنوان الكتاب «الحبّ... صنيعة النساء»، بل إنّها تُقارع الظلم والألم أيّاً كان مصدره لأنها تعترف بأنّ النساء لا يملكن وحدهن موهبة الألم، «وإنما الرجال أيضاً يعرفون مذاق العذابات المالحة».
وهي تتوجه إلى أحد هؤلاء الرجال قائلة في نصّ بعنوان «بكاء في المطعم الأرمني» قائلة: «عبد الرحمن لا أعرفك، لكني أحترمك جداً، أكثر مما تتخيّل». في كتابها الثاني تُعيد سارة مطر «اليوميات»، أحد الأجناس الأدبية شبه المختفية من الوسط الأدبي العربي، إلى الواجهة من خلال عمل طريف يتميّز بسلاسته وواقعيته وعفويته.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079