تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

حدود الجرأة في الدراما الاجتماعية المعاصرة

«العمل الدرامي الأكثر جرأة»... العبارة السحرية التي تجذب إليها كل من المحطات والمعلنين والجمهور أيضاً هي عبارة تحمل بين طياتها الكثير من الإثارة والتشويق، كما تثير الكثير من علامات الاستفهام حول آلية التعامل معها في العمل الدرامي وكيف سيكون شكلها.
وفي كل الأحوال تبقى المغنطيس الأهم الذي يجذب إليه الناس على اختلاف فئاتهم، وكل منهم يأمل رؤية الجرأة التي يريدها في العمل والتي تراوح ما بين الجرأة التي تغوص إلى عمق الواقع وتكسر الجدران العالية للتابوهات المعتادة وتفضح الفساد ومجموعة من الممارسات السلبية في المجتمع، وبين جرأة تأخذ ذلك كله شعاراً لها ولكنها تغرق في وحل من الابتذال وتغرّد بعيداً عن واقع مجتمعها، همها الأول طرح ما يثير الغرائز ويُحدث صدمة لدى مشاهدته، ليس بسبب جرأته وإنما بسبب وقاحته... والأمثلة على كلا النوعين من «الجرأة» كثيرة.


في سعي صناع الدراما لتسويق «بضاعتهم» دأبوا في كل مرحلة على طرح مصطلحات وموضات جديدة كفيلة بجذب المتلقي، وما كان يُطرح في مواسم درامية ماضية قد لا يصلح للمواسم اللاحقة، فعلى سبيل المثال درج منذ عشر سنوات أو أكثر مصطلحات مثل «الرؤيا البصرية، اللغة السينمائية في التلفزيون، جمالية الصورة...» ولكن ما لبثت أن تراجعت هذه المصطلحات أمام أخرى من نوع «الضخامة الإنتاجية، البذخ الإنتاجي، العمل الأكثر كلفة...».
وهناك مصطلحات سادت الساحة لأكثر من مرحلة مثل «الإسقاط المعاصر للعمل التاريخي، مسلسل تاريخي برؤيا معاصرة...». وفي السنوات الأخيرة طغت على الساحة مصطلحات تلامس الرغبة في طرح مواضيع معاصرة «عمل قريب من الناس، سيرى المشاهد نفسه على الشاشة، إنه يطرح همومنا الآنية...».
وكان يتسابق على إطلاق هذه المصطلحات أصحاب العملية الإنتاجية والفنية الأساسيون، وبالطبع ليس شرطاً إن قيل عن مسلسل أنه الأكثر كلفة أو الأكثر قرباً من هموم الناس أن يكون كذلك حقاً، ولكن هي لغة تسويقية ترويجية تجذب صاحب المحطة التي ستشتري العمل وتحقق رؤية استباقية لشد الجمهور حتى قبل مشاهدته للعمل بغض النظر عن النتائج.

ولعل المصطلح الذي بات الموضة الأكثر شيوعاً في الأعوام الأخيرة هو «الجرأة» في ظل تعاظم سطوة المسلسل الدرامي الاجتماعي المعاصر خاصة ضمن عروض شهر رمضان المبارك ، والسؤال: هل الجرأة كانت غائبة في السنوات الماضية وظهرت فجأة؟ أم أن ظهور هذا المصطلح يرتبط بسيرورة انتاجية وآلة دعائية ترويجية بغية جني أرباح أكثر؟ أم أتت كنتيجة طبيعية لتطور الدراما وأصبحت خياراً إبداعياً ضرورياً يدفع بالفنان لإظهار المكامن المُخبأة وطرح ما سُكِتَ عنه سابقاً؟ وما حدود هذه الجرأة؟ ومتى تكون صادقة تطرح رؤى وتشحذ الأفكار؟ ومتى تتحول إلى مجرد بوق إنتاجي إعلاني ليس أكثر؟


جرأة تحترم المشاهد

هل يمكن التمييز بين شرطَي الجرأة... جرأة تسويقية وجرأة حقيقية تغوص لعمق الواقع؟ سؤال أجاب عنه المخرج سمير حسين قائلاً: «إننا ضمن مجتمع «أسروي» ونحرص على أن يكون العمل موجهاً للأسرة، فهناك مجموعة هائلة من القصص كالشذوذ والإيدز، وهي التي تعتمدها العديد من المسلسلات لأنها قضايا إشكالية وهدفها إثارة غريزة المتفرج. لكننا لا نصور الواقع كما هو وإنما نستلهمه وليس معنى ذلك أننا نجمّله ولكن هناك صيغة فنية تتلاءم مع تركيبة مجتمعنا بحيث لا تخدش الحياء ولا تسيء كما يحدث في الكثير من الأعمال.
ومما لا شك فيه أن هناك أعمالاً تقدم جرأة فجة تُخاطب غريزة المتفرج وتشكل ابتزازاً لقلة الوعي والمعرفة والثقافة لديه، لا بل هي تكرس هذه الحالة فيتم تقديم وجبات مليئة بالسمّ.
وهذا في النهاية لا أسميه جرأة، خاصة أنه حتى الشرط الفني لتلك الأعمال هش ومليء بالعيوب. بينما تكمن الجرأة الحقيقية في تناول الأفكار والقضايا الإشكالية بإطار صادق وبملامستها المشكلات الحقيقية في حياتنا.

ولدى مقاربة حديثنا عن الجرأة لمسلسل «حائرات» الذي قدمه المخرج سمير حسين في الموسم الأخير وحصل على أعلى نسبة مشاهدة، وطرح قضايا اشكالية اعتُبرت خرقاً لخطوط حمراء (العنوسة والطلاق والهجران الزوجي والرغبة في الإنجاب والعنف الجنسي)... يقول عنه: كانت «عناوين سعينا إلى تفكيكها لنرى كم هي قابلة لأن تدخل إلى قلب المشاهد بكل احترام، فجاء طرحها في العمل بمنتهى الواقعية والجلال والاحترام لبنية مجتمعنا وأسرنا، فلم يكن هناك شتيمة واحدة في العمل الذي كان دافئاً وقدم شرائح متنوعة من مجتمعنا السوري، وقدمنا تلك العناوين برقي ليس بسبب الرقابة وإنما احتراماً لتركيبة مجتمعنا، فينبغي تقديم الواقع وأن نحرّض المشاهد على أننا يجب أن نعيد قيمنا الأخلاقية إلى الوضع الصحيح الذي تربينا عليه.
ولكن  في السنوات الماضية تم تقديم ما يستفز الغريزة، وبالتالي كان من المباح تقديم مثل هذه الأعمال، وهنا المشكلة، في أن تخدش حياء المشاهد».


بعيداً عن خدش الحياء
كثيرة هي الأعمال التي قدمت مواضيع خرقت من خلالها «تابوهات» كانت موجودة لسنوات، ففي «نساء من هذا الزمن» الذي قدمه المخرج أحمد ابراهيم أحمد مؤخراً هناك مجموعة من الطروحات التي تجنح نحو الجرأة المُفرطة.
وبالتالي كيف يمكن تقديم الجرأة في العمل؟ وهل يكفي تناوله حكاية عن الشذوذ على سبيل المثال لنقول أنه جريء؟... يجيب المخرج أحمد ابراهيم أحمد قائلاً:
«بالطبع لا. فالجرأة ليست في طرح حالة غريبة، إن كانت تتعلق بالجنس أو الدين أو السياسة، ولكن تكمن الجرأة في كيفية توظيف هذه الحالة لصالح الدراما، وكيف يمكن معالجة قضايا المجتمع وتقديم البديل أو الحلول لعلاج الواقع وتسليط الضوء على الأسباب التي أدت لهذه النتائج. هنا تكمن وظيفة القائمين على العمل في كيفية تقديم الأفكار دون خدش الحياء العام».


حدود وضوابط

«مما لا شك فيه أن الجرأة واحدة من أهم أدوات العمل الفني الناجح اليوم، ولكن لا بد أن يكون لها شروط وضوابط». هذا ما أكده المخرج الليث حجو أكثر من مرة «الجرأة مطلوبة طالما أنها لا تتجاوز حدود الضوابط الدينية والأخلاقية والسياسية، فهي جواز مرور حقيقي».

في حين حدد المخرج سيف الدين سبيعي عبر لقاء سابق له حدود الجرأة ومتطلباتها حين قال:

«إن كانت هناك معالجة جيدة ابتداءً بالنص وانتهاءً بآخر تفصيل في العمل فلا أعتقد أنه ينبغي أن يكون هناك سقف للجرأة المُقدمة لأننا نقدم فناً عبر التلفزيون رسالته التنبيه وتوعية المجتمع على المشكلات التي تحدث فيه. والجرأة ليست موضة وإنما حاجة، فهناك أمور بقي المجتمع سنوات ساكتاً عنها وليس من طريقة لمعالجتها إلا أن يراها الناس. وبرأيي أن المجتمعات لا تتطور إلا عندما تبدأ بمواجهة سلبياتها بقوة وتقف أمام المرآة دون أي أقنعة لترى على أي أرض تقف».

وضمن الإطار نفسه يتحدث الكاتب شادي دويعر، ويقول: أنا ضد تسويق العمل على أساس أن سقف جرأته مرتفع أو منخفض. هذه جمل تسويقية أكثر من كونها تعبّر عن حقيقة العمل. وبرأيي أن السقف عند أي فنان هو الأخلاق وتقديم ما لا يخدش الحياء العام، فالتلفزيون ليس سينما أو مسرحاً وهو مُقدم للعائلة وبالتالي أرفض تقديم مادة قد تؤذي عين طفل أو يفهم منها شيئاً خطأ».

رفع المحظورات
كيف ترى الفنانة مرح جبر موضوع الجرأة في العمل الدرامي؟ وما حدوده؟... تقول:
«هناك كاتب يكتب كيف يجب أن تكون الحياة بينما هناك كاتب آخر يقدم الحياة ولا يتدخل، بينما هناك كاتب آخر يتدخل ويحدد الشخصيات ولا يجعل لديها حرية الحركة بما تريده وتحلم به وتطمح له.
وبالنسبة إلي فإنني أذهب مع الشخصيات إلى طموحاتها وأحلامها لأنها ليست كلها متشابهة، وأرى أن السقف الممنوع والمحظور تم رفعه اليوم فأصبح هناك أشياء بتنا نحكي عنها، فالعلاقات بين الشباب والبنات كانت تظهر بإطار نوع أو نوعين لكن الدائرة الآن اتسعت لتشمل حالات أخرى.
وضمن هذا الإطار أرى أنه من واجب الفنان إلقاء الضوء على مشكلات المجتمع وبخاصة تلك المشكلات التي بدأت تتكاثر بشكل أو بآخر. وعموماً ما يهمني في الدور أن أقدمه من لحم ودم».


دون تجميل أو ابتذال

قدمت الفنانة هبة نور العديد من الادوار التي اتصفت بالجرأة في الفترة الأخيرة إن كان في السينما أو التلفزيون، كما في فيلم «صديقي الأخير» للمخرج جود سعيد وكان دورها «جريئاً بمشاهد الحب وتجلت الجرأة في الموضوع، فأنا أحب أن تكون حدود الجرأة ضمن طرح المواضيع بشفافية من دون تجميل، ودون ابتذال».

أما في التلفزيون فأدت في مسلسل «صرخة روح»  الذي يتناول موضوع الخيانة الزوجية دور البطولة في إحدى خماسياته «خيانة خرساء» وطرحت حالة من حالات الخيانة التي يمكن أن تحدث في المجتمع... ودافعت عنها بأنها لم تبرر الخيانة أو تدافع عنها.
تقول: «تنبع جرأة العمل من النص فالموضوع الذي يتم تناوله بحد ذاته جريء، والشخصية التي أديتها هناك ما يبرر فعلها لأنها كانت على علاقة مع رجل ضحك عليها ومن ثم تزوجت من رجل لم ترتح معه وفي النهاية تلقى نهاية سيئة، وبالتالي العمل لا يبرر أو يدافع عن الخيانة وإنما يسعى إلى توعية الناس».

حول الرقابة الاجتماعية وكيفية تعاملها مع الجرأة، تقول: «المجتمع لا يتقبل كل ما يقدم له، فالبيئة والتنشئة كل منهما يلعب دوره في هذا الأمر، وإن كنت أرى أنه ينبغي تقبل ما يتم تقديمه في العمل الدرامي لأنه يهدف في النتيجة إلى توعية الناس». أما عن حدود الجرأة لديها فتؤكد أنه ينبغي أن تبقى ضمن إطار طرح المواضيع بشفافية من دون تجميل أو ابتذال.


استسهال في الكتابة

حول خصوصية تناول المواضيع الاجتماعية الجريئة على الشاشة الصغيرة، وكيف يمكن التمييز بين الجرأة التي تغوص إلى عمق الواقع والجرأة المفتعلة التي تهدف للكسب المادي فقط، تقول الفنانة أريج خضور:

«طُرحت في العامين الأخيرين نصوصاً تحدثت عن الخيانة ومشكلات الشباب وتعاطي المخدّرات. وأنا مع تناول هذه المواضيع، ولكن ما أريده منها أن تعطيني حلاً ولا تدعني أتعاطف مع الخائنة، ففي أحد المسلسلات بكينا على الخائنة من شدة تعاطفنا معها! وبالتالي بات هناك تسويق لهذه الأفكار دون أن توضح للمشاهد أنها أمور غير سليمة، فمعالجة هذه المواضيع أمر مهم ولكن من المهم أيضاً طريقة طرحها، فكان ينبغي أن تُقدم بأسلوب فني مختلف.
وأنا أشبّه هذه الحالة بالسينما الإيرانية التي قدمت مواضيع جريئة جداً رغم وضعها. فلماذا لا نستفيد منها؟ هناك فرق شاسع في أسلوب تقديم الفكرة ما بين الطريقة الجارحة والطريقة الفنية الراقية».

وحول إن كان الحل برأيها وضع شارة «+16» لدى عرض بعض المسلسلات التي يطلق عليها صفة «جريئة» تقول: «أنا مع الفكرة، ولكني ضد استخدامها لأننا لن نستفيد منها، فهي ثقافة جديدة ليست لنا، ولن تستطيع منع هذا الجيل من المشاهدة خاصة أننا تربينا على فكرة أن فترة عرض المسلسل هي وقت للأسرة، وبات المسلسل عند الطفل أحياناً أهم من برامج الأطفال ذاتها.
ولكن ينبغي كأهل أن نقوم بالرقابة على هذه الأعمال لأن هناك أموراً تحتاج إلى توعية، ولو أسست لها بشكل صحيح لن تخشى منها في ما بعد إن شاهدها ابنك، ولكن المصيبة أن هناك أفكاراً مؤذية واستسهالاً في الكتابة بطريقة مخيفة ومزعجة في بعض الأعمال»...

 

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079