هل يجوز غناء المحجبات؟
مع انتشار ظهور متسابقات محجبات في برامج اكتشاف المواهب الغنائية، خرجت فتاوى متناقضة ومختلفة في حكم غناء المحجبات. هناك من يؤيد غناء المحجبة بشروط، وهناك من يرفضه تماماً. ولأن اختلاف الفقهاء في الفتاوى يكون رحمة أحياناً، نعرض كل الآراء حول غناء المحجبات، والشروط التي تجعله أحياناً حلالاً وجائزاً، والأسباب التي تحوله أحياناً أخرى إلى أمر مرفوض شرعاً.
تؤكد الدكتورة عبلة الكحلاوي، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية في بورسعيد جامعة الأزهر، أنه لا يجوز تحريم شيء أباحه الرسول عليه الصلاة والسلام إذا كان منضبطاً بالضوابط الشرعية، فقد أمر مغنية بأن تغني لتسمع السيدة عائشة غناءها، وهناك العديد من الأحاديث التي تجيز غناء المرأة أمام النساء دون إسفاف أو ميوعة.
وأوضحت أنه لا يجوز شرعاً اعتبار كل غناء المرأة، سواء كانت محجبة أو غير محجبة، هو من الغناء المحرم الذي فيه خضوع في القول الذي قال الله فيه: «فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ» آية 32 سورة الأحزاب.
وأشارت إلى أن أفضل ما قيل في حكم الشرع في غناء النساء، سواء كن محجبات أو غير محجبات، أنه «كلام حسنه حلال، وقبيحه حرام»، والمهم في الغناء أن يكون منضبطاً بضوابط الشرع وألا يتنافى مع مكارم الأخلاق أو يؤدي إلى معصية، وإلا فإنه يجب إعمال قاعدة «كل ما أدى إلى الحرام فهو حرام»، وذلك حتى لا يؤخذ مبدأ الإباحة لفتح باب لشياطين الإنس والجن، وقد حذرنا الله تعالى من ذلك فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» آية 168 سورة البقرة.
وأنهت كلامها مؤيدة غناء المرأة المحجبة أغاني مديح للرسول أو الأغاني التي تتناول معاني إنسانية، ما دامت التزمت بالضوابط الشرعية لغناء المرأة، والتي تتمثل في عدم إثارة الشهوات وألا يصاحبها رقص أو شرب خمر، وعدم احتواء الأغنية على المحرمات التي يأتي في مقدمها الرقص وظهور المسكرات، وبالتالي يجب أن يكون غناء المرأة المحجبة ذا قيمة وغير مثير للشهوات.
الغناء المنضبط
توافقها في الرأي الدكتورة عفاف النجار، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية، فأشارت إلى أن غناء المرأة سواء محجبة أو حتى غير محجبة مباح في بعض المَواطن، كالعرس والأعياد أو المناسبات الدينية والوطنية، وأن يكون الكلام منضبطاً شرعاً وأخلاقاً، لأن الإسلام لا يصادم الفطرة السوية التي تحب الترفيه المباح أو المنضبط، أما المنفلت مثل غناء الغزل الفاضح فكيف يكون مباحاً شرعاً حتى لو كانت من تغنيه ترتدي الحجاب؟
موسيقى حديثة
توضح مفتية النساء الدكتورة سعاد صالح، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، أن غناء المحجبة ظاهرة أفرزها انتشار الحجاب بشدة في الدول العربية، أياً كانت أسباب هذا الانتشار، و«كثير منه للأسف على سبيل العادة وليس العبادة».
وأشارت إلى أنه إذا كان «غناء المحجبة غير مخالف للشرع والعرف والأخلاق فلا شيء فيه، وخاصةً إذا كان من قبيل القصائد والتواشيح الدينية والوطنية، فهي ليست حراماً، لأن الأصل في الأمور الإباحة ما لم تؤد إلى حرام فتكون حراماً».
وتحفظت عن اشتراط بعض الفقهاء أن يكون الغناء بالدف فقط، مؤكدةً أنه اذا احتاجت المغنية إلى بعض الآلات الموسيقية الحديثة غير الصاخبة فلا شيء فيها، لأن الأصل هو الغناء الديني أو الوطني أو الأشعار أو غيرها أو حتى العاطفي العام، وليس أغاني العشق، فكما يقال إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده.
ونفت أن يكون صوت المرأة في حد ذاته عورة، إلا في حالة واحدة فقط، أن يكون مثيراً للغرائز بالغناء كأن يكون فيه تدلل وميوعة.
ضوابط شرعية
يؤكد الدكتور عبد الله النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، جواز غناء المرأة بشرط ألا يكون صوتها أقرب إلى الميوعة والخضوع، وبالتالي فإن المغنية إذا كانت محجبة يجب أن تكون أكثر التزاماً من غيرها، سواء في الكلمات أو الألحان التي تغنيها أو في ما ترتديه أثناء الغناء.
وأضاف أن أهل العلم اتفقوا على جواز غناء المرأة بضوابط شرعية، منها ألا تكون الكلمات تثير الشهوات وتخالف صحيح الدين، وألا يصاحب الغناء محرمات شرعية كالرقص وشرب الخمر، وألا يكون هناك آلات تصوير تعرض من خلالها للرجال.
قضية خلافية
أوضحت الدكتورة مهجة غالب، عميدة كلية الدراسات الإسلامية للبنات جامعة الأزهر، أن قضية الغناء عامة وبصوت المرأة خاصة، حتى لو كانت محجبة، مختلف فيها، وقد حذر الإمام ابن حجر من الأخذ الدائم بالإباحة في القضايا المختلف فيها، فقد كان يقول: «إشاعة المختلف فيه منكر». وأضافت أنه «من المؤسف حدوث كثير من الخلط واللغط عند عوام الناس، لأنه إذا كان الأمر مختلفاً فيه فتتم زيادته بالتحليل الدائم، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا باجتناب الأمور التي فيها شبهة: «إن الحلال بيِّن وإن الحـرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعـلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فـقـد استبرأ لديـنه وعـرضه، ومن وقع في الشبهات وقـع في الحرام، كـالراعي يـرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجـسد مضغة إذا صلحـت صلح الجسد كله وإذا فـسـدت فـسـد الجسـد كـلـه، ألا وهي الـقـلب».
وأشارت إلى أنه «إذا كان مكروهاً التحليل الدائم في القضايا المختلف فيها فإنه على النقيض أيضاً، يكره التحريم فيها لأن هذا غير جائز شرعاً، فمثلاً نجد المتشددين يخلقون العموم بأن صوت المرأة عورة، وهذا لا يليق ولا يصح، لأن الآثار النبوية الشريفة أثبتت أن النساء تحدثن بين يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شؤون الحياة. أما من يقولون بالإباحة العامة لصوتها فهم أيضاً مخطئون، لأن النساء عندما تحدثن مع الرسول كان حديثهن في قضايا مهمة تخص أمور الدين والدنيا، لأن المرأة لها أن تتحدث وتسأل في قضايا الحياة والدين وليس الغناء أمام الرجال، حتى لو كانت ترتدي الحجاب. وقد روي عن الإمام مالك قوله: «إذا اشترى رجل جارية ووجدها مغنية فله أن يردها بالعيب الذي فيها»، وذلك لأن غناء المرأة من العيوب التي تفسد عقد البيع في المذهب المالكي».
وختمت غالب: «أرى أن الحكم في غناء المرأة المحجبة يتوقف على ما تغنيه وأمام مَن».
حرام
أكد الدكتور محمود مزروعة، العميد الأسبق لكلية أصول الدين جامعة الأزهر، أنه من حيث المبدأ فإن غناء المرأة أمام الرجال الأجانب عنها، حتى لو كانت ترتدي الحجاب، حرام لوجود أحاديث كثيرة تنهى عن الغناء بوجه عام وتنهى عن إسماع المرأةِ الرجالَ صوتَها بالغناء.
وأوضح أن الشرع لم يبح غناء المرأة إلا في حالة العرس إذا كانت تغني لنساء ليس معهن رجل، وليس في المكان وسيلة لنقل صوتها أو صورتها للرجال، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنه كانت لديها يتيمة فزوجتها لرجل من الأنصار، فسألها رسول الله: أألهيتم الفتاة إلى زوجها؟ قالت عائشة: نعم، قال الرسول: فما قلت، قالت عائشة: دعونا بالبركة، قال الرسول: فهلا بعثتم معها من يغني لها»، وكانت في المدينة امرأة حسنة الصوت اسمها زينب، فقالت لها عائشة: «أدركيها يا زينب وغني لها».
وأنهى مزروعة كلامه مؤكداً أن غناء المرأة بشكل عام، حتى لو كانت محجبة، حرام لأن صوتها بالغناء أمام الرجال حرام، وبالتالي لا يجوز للمرأة أن تغني إلا مع النساء فقط، بشرط ألا يكون ذلك مثيراً للغرائز، أما أمام الرجال فلا يجوز مطلقاً.
مخالفات للشرع
يعترض الدكتور محمد عبد المنعم البري، الأستاذ في كلية الدعوة جامعة الأزهر، على غناء المحجبات قائلاً: «الحجاب يجب أن يفرض عليهن سلوكيات معينة متوافقة مع الشرع، وليس بينها بلا شك الغناء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف».
وأشار إلى أن الحالة الوحيدة التي يجوز فيها غناء المحجبة أن تكون بين بنات جنسها، ولا يشتمل على استعمال آلات اللهو المحرمة، أما أن يسمعها الرجال الأجانب فهذا لا يجوز شرعاً وحرام، لأن المرأة لا يجوز أن تغني بصوتها لغير زوجها ومحارمها.
وأنهى البري كلامه مؤكداً أن من يتعللون بحادثة الجارية التي كانت تغني في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي عائشة، فقد قال أكثر أهل العلم: إنه لم يكن غناء، وإنما كان «حداء»، وهو ما يشبه إنشاد الشعر، كما أن المرأة لا يحل لها شرعاً أن ترفع صوتها في الصلاة أو حتى قراءة القرآن، فكيف لها أن تغني ويسمعها الناس؟
النية
تشير الدكتورة ملكة يوسف، أستاذة الشريعة في جامعة القاهرة، إلى حرمة تقديم المرأة أغاني عاطفية أمام الرجال أو في وسائل الإعلام حتى لو كانت محجبة، لأن جمهور الفقهاء يرى تحريم المعازف وغناء المرأة بحضرة الرجال، لأنها ستضطر لترقيق صوتها وتحسينه في الغناء مما يجعله مثيراً للفتنة ومثيراً للغرائز، ويعمل الإسلام على سد باب الفتنة لأن الوقاية خير من العلاج.
وتوضح يوسف أن غناء المرأة المحجبة أمام بنات جنسها أو عند زوجها وأبنائها جائز شرعاً، لعدم وجود ما يدعو إلى التحريم أو ما يؤدي إلى الحرام.
وأنهت كلامها مؤكدة أن غالبية المحجبات المغنيات هن ممن يرتدين الحجاب على سبيل «الموضة»، وليس عن اقتناع ديني أو التزام أخلاقي، «ولهذا لا يقاس عليهن، مع إيماني الشديد أن الفيصل في ارتداء كل مغنية الحجاب هو النية التي يحاسب الله عليها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل أمرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه»».
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024