هل يجوز استئصال أعضاء الجسم للوقاية من الأمراض الوراثية؟
أثار القرار الجريء للنجمة العالمية أنجلينا جولي، باستئصال ثدييها خشية الإصابة بالسرطان، جدلاً فقهياً بين علماء الدين الذين اختلفوا حول مشروعية هذا الإجراء إذا قامت به امرأة في ظروف أنجلينا، خاصة أن هناك الملايين يعانين من سرطان الثدي. ماذا قال العلماء حول جواز لجوء النساء إلى استئصال أجزاء أجسادهن إذا خشين الإصابة بالسرطان نتيجة الوراثة؟
برزت القضية عندما كشفت أنجلينا جولي خضوعها لعملية استئصال الثديين للوقاية من خطر الإصابة بالسرطان، وذلك في مقال بعنوان «خياري الطبي» نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، كتبت فيه أنها خضعت لعملية استئصال الثديين لأنها تحمل جيناً فيه خلل يزيد خطر الإصابة بسرطان المبيض والثدي.
وبعد الجراحة قالت: «احتمالات إصابتي بسرطان الثدي انخفضت من 87 في المئة إلى أقل من 5 في المئة، وأستطيع أن أقول لأولادي إنه ليس هناك ما يدعوهم للخوف من أن يفقدوني بسبب سرطان الثدي».
وكشفت أنها خضعت لهذا الإجراء لأن لديها خللاً فى الجينات يزيد بشكل كبير خطر إصابتها بسرطان الثدي والمبيض وأن والدتها، مارشلين برتراند، ماتت بسبب سرطان المبيض عن 56 عاماً، وتوفيت خالتها بسبب سرطان الثدي قبل وقت قريب عن 61 عاماً.
وأضافت: «أريد من النساء الأخريات أن يستفدن من تجربتي، وأشعر بأنني اتخذت قراراً مهماً لا يمكن أن يقضي على أنوثتي».
جائز بضوابط
في البداية أكدت الدكتورة عبلة الكحلاوي، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية، أن الوقاية الصحية في الإسلام تعد أمراً محموداً، خاصةً في الوقت الذي تنتشر فيه الأمراض الفتاكة بالإنسان، لهذا من الجائز شرعاً اتخاذ إجراءات أو احتياطات لحفظ صحته من الإصابة بالأمراض التي تهدد عقله وجسده، علماً أن الإسلام يقر مبدأ «الوقاية خير من العلاج»
وأشارت إلى أن الإسلام اهتم بمحافظة الإنسان على صحته وجعلها من الأمور المهمة، وعلى النقيض من ذلك جعل إهمال الإنسان في وقاية نفسه نوعاً من أنواع القتل لها، فقال تعالى: «... وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا» الآيتان 29-30 سورة النساء.
وعن الوقاية التي تؤدي إلى استئصال عضو أو جزء من الجسد خشية إصابته بالسرطان، قالت: «أصحاب الكلمة الفصل أو النهائية في تلك القضية وهذا القرار الصعب هم الأطباء الثقات، الذين لديهم من الكفاءة العلمية والورع الديني ما يمنع المتاجرة أو عدم الصدق في المعلومات، فهؤلاء يدخلون في أهل الذكر الذين أمرنا الله بسؤالهم عندما نجهل أمراً من الأمور، فقال تعالى: «... فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، آية 43 سورة النحل».
وأنهت الدكتورة عبلة كلامها بالتأكيد على أن الإسلام يحترم ما يتوصّل إليه العلم النافع، لكن تظل النتائج النهائية للأبحاث العلمية بيد الله وحده، أي أنه لا يشترط أن تؤدي المقدمات إلى النتائج نفسها في كل الحالات، لهذا يجب التأني الشديد قبل اتخاذ القرار الذي يختاره الأطباء بالاستئصال، لأن العلم النهائي بيد الله وحده القائل: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً» آية 85 سورة الإسراء. أي أن أمور الحياة تظل في علم الغيب، وما يقوله الأطباء مجرد توقع قد يحدث أو لا يحدث ولا يصل إلى درجة اليقين الذي لا شك فيه، لهذا فإن الحل هو في استشارة أكثر من طبيب ذي كفاءة علمية وتقوى، وقبل هذا تلجأ المرأة إلى الله بالدعاء والاستخارة ليهديها الصواب، لأنه القائل: «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ» آية 62 سورة النمل.
اللجوء إلى المجامع الفقهية
تتفق معها في الرأي الدكتورة سعاد صالح، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر، وتؤكد أن سلامة الفرد في نفسه وجسده من الأمور التي اهتم بها الإسلام، لهذا نهى الله تعالى عن كل ما يؤدي إلى هلاك النفس البشرية أو إلحاق الأذى بالإنسان في عقله أو جسده، وذلك بوقايته من مختلف الأمراض والأوبئة الفتاكة.
وأوضحت أنه إذا وافق الأطباء الثقات ذوو الكفاءة العلمية والسلوك والأخلاق السوية، على إجراء هذه الجراحة، فإنه يمكن استخارة الله لاختيار الصواب، لأنه سبحانه الوحيد المطلع على الغيب والقائل: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» آية 60 سورة غافر.
وأضافت أن هناك قواعد فقهية تكون مرشدة لمن لديها استعداد وراثي للإصابة بالسرطان بناءً على ما توصلت إليه الأبحاث العلمية، مثل قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» التي استند الفقهاء فيها إلى قوله تعالى: «... فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» آية 173 سورة البقرة.
وفي نهاية كلامها أكدت أن القضية «معقدة وفيها أكثر من جانب، لهذا يجب طرحها على المجامع الفقهية في الأزهر وغيره من المجامع العلمية في العالم الإسلامي، لدرسها من مختلف جوانبها الشرعية والطبية، وإصدار فتوى نهائية في هذه القضية الخطيرة التي نجتهد فيها، إلا أن آراءنا لا تزيد عن مجرد اجتهاد قابل للصواب والخطأ. وقد قال صلى الله عليه وسلم عن الاجتهاد «من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد».
مرجعية دينية
أما الدكتور عبد الرحمن العدوي، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر، فيرى أن الفتوى النهائية في هذه القضية المستحدثة التي لم يرد فيها نص شرعي قطعي يجب أن يكون للمجامع الفقهية التي تستمع إلى فقهاء الدين وكبار الأطباء والتوصل إلى فتوى تستند إلى قواعد الشرع التي يستند إليها العلماء، مثل قاعدة «الضرر الأكبر يزال بالضرر الأصغر أو ارتكاب أخف الضررين»، وكذلك قاعدة «المشقة تجلب التيسير»، وقاعدة «إذا ضاق الأمر اتسع» لأن الله سبحانه القائل: «.... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ....» آية 185 سورة البقرة. وقال أيضاً: «... وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...» آية 78 سورة الحج.
وأضاف: «المرأة المسلمة لديها مرجعية دينية يجب أن تلجأ إليها لمعرفة الحلال من الحرام، وهو ما يجعل مخاطرتها من الناحية الدينية أقل من غيرها، لأنها تستند إلى أحكام الدين وما توصل إليه الطب في الوقت نفسه».
يجب التداوي ولكن...
تشير الدكتورة مريم الدغستاني، رئيسة قسم الفقه في كلية الدراسات الإسلامية، إلى أن الإسلام دين الرحمة والتيسير بعباد الله ويرفض الاستسلام للأمراض، بل إنه أمر بالتداوي، والشفاء بيد الله وحده، لأنه سبحانه القائل: «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» آية 80 سورة الشعراء. وكذلك قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواءً، فتداووا، ولا تداووا بحرام».
وأشارت إلى أن الأمراض الوراثية تظل في مجال الاحتمالية في ما يتعلق بالانتقال من الأب أو الأم إلى الأولاد، بدليل أننا نجد بعض الأبناء تنتقل إليهم في حين لا تنتقل إلى آخرين، لهذا يجب عدم التسرع في اتخاذ قرار الاستئصال لمجرد الاحتمال أو الظن. أما إذا ظهرت بوادر الانتقال الحتمي من الآباء أو الأمهات لهذه الابنة أو هذا الابن بالتحديد، فإن في الدين من قواعد التيسير ما يسمح بجواز الاستئصال، استناداً إلى القاعدة الشرعية: «إذا تزاحمت المصالح أو المفاسد روعي أعلاها، بتحصيل أعلى المصالح ودرء أعلى المفاسد».
وأنهت الدغستاني كلامها بتأكيد ضرورة المحافظة على الصحة قدر الاستطاعة، لأنها نعمة، وعنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبونٌ فيهِما كثيرٌ مِن النَّاس الصحةُ والفراغ»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً: «سلوا اللهَ اليقين والمُعافاة فما أُوتي أحدٌ بعد اليقينِ خيراً مِنَ العَافِية»، لهذا يمكن اتخاذ الإجراءات الاحترازية أو ما يسمى الحجر الصحي الذي نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا به، فقال: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا فراراً منه»، وأمرنا كذلك بالابتعاد الكلّي عن صاحب المرض المعدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد». وقياساً عليه يمكن بعد استشارة الأطباء وعلماء الدين اتخاذ القرار للفرار من المرض الوراثي المؤكد باستئصال الجزء الذي يحدده الأطباء بأنه يمكن أن يصاب، وذلك تجنباً لتوسّع دائرة هذا المرض أو احتمال الإصابة به في الجسم.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024