خبز وملح في St. Petersburg
سانت بيترسبرغ؟ طبعاً... فلم أزرها أبداً من قبل! هذا كان جوابي عندما علمت بالرحلة إلى إحدى المدن الأكثر عراقة في تاريخ أوروبا. مدينة شهدت عصر القياصرة ونابوليون وألكسندر، مدينة الفنّ وأهمّ الفانين حول العالم.
مدينة دمرّها الفيضان الأسوأ في روسيا عام 1824، عندما ارتفع النهر حوالي 17 قدماً، ولكن أعيد تأسيسها! الرحلة كانت عبر تركيا، ولم تستغرق الكثير من الوقت.
وصلنا إلى مطار Pulkovo الدولي، الذي تمٌ بناؤه من جديد منذ بضعة أعوام، والعمل عليه ما زال مستمراً... من المطار إلى فندق Grand Europe Hotel العريق، صدّقوا أو لا، سيّارة شرطة رافقتنا لتسهيل مرورنا إلى وسط المدينة!
عندما تمنى لنا الدليل السياحي الخاصّ بنا أن يكون الطقس مشمساً، أخبرنا أنّ روسيا تملك الوسائل التقنيّة الضروريّة للتأثير على الأحوال الجويّة، لمنع الأمطار أو إبعاد تساقط الثلج. كما أنّ الحكومة في روسيا تستخدم هذه الوسائل على الأقلّ ثلاث مرات في السنة خلال الأعياد الوطنيّة! ومن يريد إقامة حفلة أو مناسبة ما، من الممكن أن يدفع مبلغ ستة آلاف دولار في الساعة تقريباً ليضمن له ولمدعويه الشمس الساطعة في مكان الحفلة، بطريقة علميّة بحتة.
وصلنا إلى Grand Europe Hotel، الفندق العريق الذي افتتح عام 1875، زارته كبار الشخصيات الروسيّة والعالميّة، من ملوك مثل غوستاف الخامس ملك السويد، والموسيقار تشايكوفسكي والموسيقار إيغور سترافينسكي والمغني إلتون جون والعديد غيرهم.
وقد تغيّر اسم الفندق هذا العام، وأصبح Belmond Grand Hotel. هو قريب جدّاً من عدة معالم تاريخيّة ومن جادة التسوّق الشهيرة Nevsky Prospekt.
في الفندق استُقبلنا على الطريقة الفولكلوريّة الروسيّة، موسيقى والزيّ الخاصّ بالمدينة، وقوالب من الخبز والملح، وهي تقاليد الضيافة الروسيّة... فخلال عهد الأباطرة، كان التجار وأفراد الطبقة العليا يقدمون لهم خلال زيارتهم للمدن المتعدّدة قوالبَ من الخبز على أطباق مستديرة مع مناديل مطرّزة والملح في وعاء صغير، فالخبز رمز لضروريات الحياة، والحياة من دون ملح تخلو من الإثارة.
دخلت غرفتي وغيّرت ملابسي وجهّزت نفسي للجولة الأولى في المدينة، العشاء في Sadko، وهو عادة الخيار الأفضل للعشاء عندما تزورون مسرح Mariinski للأوبرا والباليه في سانت بيترسبرغ.
المطعم مزيّن بالثريات الكبيرة باللون الأحمر تتدلى منها الورود التي تزيّن أيضاً الطاولات والمحارم. والمعروف عنه أن النادلين فيه يكونون عادة تلامذة موسيقى يعملون في وقتهم الحرّ.
أما الوجبات التي يقدّمها فهي piroggi أنواع من الخبز المحشوّ باللحم أو الفطر، والطبق الروسيّ الشهير Beef Stroganof الذي يتناولونه مع البطاطا (ليس مع الأرز كما تعوّدنا عليه). في المطعم أيضاً أطباق وقّعها النجوم الذين أكلوا فيها، ومنهم Gerard Depardieu ...
الليلة الأولى هادئة خصصناها للراحة قبل جولتنا في المدينة اليوم التالي.
النهار لا يبدأ من دون وجبة الفطور في الفندق، مع كل ما تشتهونه من مأكولات من حول العالم، أنواع متعددة من الخبز والمعجنات والسلمون والكافيار (حتى في الصباح)، وأيضاً اللحوم وجميع انواع «العجّة»، والكريب، تناولتها مع صلصة الفراولة والكريم كاراميل وجوز الهند والجوز الطازج والموز! بعد هذه الوجبة، لن أتناول الغداء اليوم...
ركبنا الباص الأحمر السياحي، محطّته تبعد 5 دقائق سيراً على الأقدام من الفندق، فهو الخيار الأسهل والأسرع في المدن السياحية للتعرف على المعالم التاريخيّة والقصص المثيرة في كلّ بلد.
وقد دهشت بالمناظر الطبيعيّة الجميلة من خضرة وزهور تملأ المدينة (خاصّة الخزامى tulips، التي كانت المفضّلة لدى القيصر).
الباص توّقف أمام أهمّ المتاحف والقصور والكاتدرائيات، كما عبر القناة... متحف Hermitage وقلعة بيتر وبول وكاتدرائية St Isaacs التي استغرق بناؤها 40 سنة، وكاتدرائية Savior on the Spilled Blood التي تحتوي على سبعة آلاف متر مربّع من الموزاييك، وساحة Palace Square الشهيرة حيث تمثال يقال أنّه يصوّر بطرس الأوّل مع الأفعى التي ترمز إلى نابوليون، والمكتبة التي تحتوي على 36 مليون كتاب، والقصر الشتويّ وقصر لراقصة الباليه البريما باليرينا ماتيلدا، عشيقة نيكولاس الثاني قبل أن يصبح القيصر.
بعد السياحة، مشيت في جادة Nevsky Prospekt لتأمل المحلات التجاريّة وبعض الحدائق والمباني الملوّنة، من أزرق توركوازيّ وزهريّ وأصفر وأخضر... كما تجولت في الأسواق لشراء التذكارات، مثل تماثيل صغيرة للباليرينا واحجار العنبر الشهيرة والماتريوشكا (الدمى الصغيرة المصنوعة من الخشب بأحجام مختلفة، صنعت لأول مرة عام 1892)، والبيض الملّون والمزخرف.
وفي سانت بيترسبرغ، من الضروري زيارة المتجر الأوّل للمأكولات، Elisseeff Emporium، حيث تذوّقنا الكافيار الباهظ الثمن على أنواعه، والحلوى الروسيّة.
أما في الليل، فأمضينا السهرة في The Gymnasium، مع مزيد من الكافيار والسلمون، وأفضل DJ في المدينة! والمفاجأة؟ رقصة البولكا الشهيرة رقصناها مع الروس بأزيائهم الفولكلوريّة.
في اليوم التالي، ومع أننا اتفقنا من جديد ألا نتناول وجبة الغداء، بعد تخمة الفطور، إلا أننا لم نتمكن من الهروب منها، بل استمتعنا بها في مطعم يطل على الشاطئ اسمه Porushka (وهي سمكة صغيرة خاصّة بالمدينة يمكن اصطيادها خلال شهرين فقط كل عام)، يقدّم أطيب المقبلات، أبرزها الباذنجان مع صلصة الجوز، وسلطة الشمندر مع العدس والمشاوي...
ثم انتقلنا إلى متحف Hermitage الشهير، حيث قمنا بجولة مع دليل سياحي، وهذا أمر ضروريّ أنصحكم به فقد سمح لنا أن نفهم خبايا القصر والروايات وأسرار لوحات Leonardo da Vinci و Rembrandt الذي جسّد حزنه ومصائبه العائليّة في لوحاته... هذه المرّة تعرّفنا على «ساعة الطاووس» الشهيرة المصنوعة من الذهب والبرونز والفضّة والأحجار الكريمة، وحدائق المتحف وجدران من المرايا التي كانت وقتها مكلفة جداً، والثريات منها واحدة زنتها ثلاثة أطنان مطليّة بالذهب، والموزاييك المصوّر على الأرض الذي استمر العمل عليه 4 أعوام لكل متر مربع!
كما زرنا المعرض الخاص فيه حيث عرضت بعض الأزياء في صالة الاستقبالات، والجدير بالذكر أن كل معرض خاصّ في المتحف يتطلّب تحضيره نحو خمس سنوات، لذلك ممنوع التقاط الصور فيه.
ولكن هل تعلمون أنّ Hermitage أكبر ثالث متحف في العالم، بعد متحف ال Louvre والفاتيكان؟ فهناك 3 ملايين قطعة في المتحف، وإذا توقفتم دقيقة فقط أمام كلّ قطعة، تحتاجون لمدة 8 أعوام لرؤيته كاملاً!
أما الليلة الأخيرة في سانت بيترسبرغ، فكانت لا تنسى! زيارة ودعوة خاصّة إلى قصر الرخام الشهير، حيث حضرنا عرضاً رائعاً لراقصات لباليه بأزيائهنّ الملوّنة، ثمّ مشينا على الجسرليلاً، وقمنا بنزهة على متن قارب، وشاهدنا الألعاب الناريّة قبل أن يفتح الجسر الذي يفصل بين جزءي المدينة، لغاية الخامسة صباحاً!
وفي اليوم التالي، كان الوداع مع قهوة قرب الكاتدرائية الشهيرة Savior on The Spilled Blood، حيث قتل القيصر ألكسندر الثاني، فبناها ابنه ألكساندر الثالث ليحيي ذكراه. وهي تتميز بالهندسة «الباروكيّة»، ومزخرفة بالأحجار الكريمة.
هل سأعود قريباً؟ طبعاً، لأنني أريد الاستمتاع أكثر بتاريخ هذه المدينة العريقة وفنّها... وقبل عودتي، سأقرأ تاريخها الكامل!
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024