بروتوكول يسرا ولحية قصي خولي في كواليس 'سرايا عابدين'
تهادت بنا سيارة الأُجرة على ذاك الطريق الزراعي المؤدي إلى استديو المُغربي في القاهرة، والذي بات يُعرَف بـ «السرايا»، في زيارة حصرية لمجلة «لها»، إلى القرن السابع عشر للميلاد، وبالتحديد إلى سرايا خامس حكّام مصر الخديوي إسماعيل. وصلنا إلى وجهتنا التي تحمل الكثير من التناقضات، أشخاصٌ تخالهم سقطوا من حقبة تاريخية غير يومنا هذا، تكامل في المظهر والأزياء يكسُره هاتف خلوي من هنا، وجهاز كمبيوتر محمول من هناك، وتعليمات «ما قبل المشهد»...
للوهلة الأولى، خلنا أننا سندخل «سرايا عابدين»، بديكوراتها المتميّزة، وفخامتها التي تناقلتها الأجيال، ولكن لا شيء سوى بضعة إكسسوارات وجدران خضراء! فرقة موسيقيَّة كاملة تحتل الجهة اليسرى من ذلك «الصالون»، وعدد من النجوم يتنظرون الدقائق الأخيرة من البروفات، بعضهم برفقة مدرّبي الرقص، وبعضهم يضعون اللمسات الأخيرة على الماكياج أو الملابس، ويتحضرون للسفر عبر الزمن إلى القرن السابع عشر، بكل تفاصيله البصرية والسلوكية. الفرقة الموسيقية بقيادة مايسترو تخاله جاء من قصور أوروبا في القرون الوسطى، وموسيقى الصالونات، وضرب الأحذية على الأرضية البرّاقة، كلها تأخذك إلى ذاك الزمن الجميل، بأرستقراطيته ورقيّه، لا شيء يمنعك من السفر مع النجوم عبر الزمن سوى تلك الجدران الخضراء! فكان لا بد من كسر هذا الحاجز البصري، لعيش اللحظة إلى أقصى الحدود. الجواب جاء سريعاً من المخرج عمرو عرفة، ومن الشاشة السحرية التي تحتضن المشهد الذي نراه أمام أعيننا في قلب «سرايا عابدين»... تختفي الجدران الخضراء، لتحلَّ مكانها جدران عابدين، بديكوراتها الفاخرة وترفها الذي يروي حكاية تلك الحقبة من تاريخ مصر.
دون أدنى شك، إن ما رأيناه في كواليس «عابدين» ليس سوى بداية لمرحلة جديدة في صناعة المحتوى الدرامي في العالم العربي، بمقاييس عالمية على كافة الصعد والمستويات. والحقيقة تُقال إن صناعة الدراما في عالمنا العربي، وبالرغم من التطوّر الكبير الذي تشهده، تستفيد من هذه النقلة التكنولوجية النوعية التي ترتقي بمعايير الصناعة إلى مستوى جديد، أكثر حرفية، وبعيد كل البعد عن المعايير التجارية البحتة التي تعتمد بشكل رئيسي على خفض كلفة الإنتاج، والذي بدوره يؤدي إلى تدنّي مستوى الإنتاج. وفي ظل الحاجة المتنامية إلى مزيد من الأعمال - خاصة خلال شهر رمضان المبارك - تجد معظم الأعمال المنتَجة طريقَها إلى الشاشة الفضيّة، بغض النظر عن المستويين الفنّي والدرامي اللذين تتمتّعان بهما. وبالتالي، تأتي أعمال قليلة مثل مسلسل «سرايا عابدين» لتؤسّس لهذه المرحلة الجديدة في صناعة المحتوى، عسى أن تصبح مثالاً يُحتذى لشركات الإنتاج والمحطات الفضائية.
المخرج عمرو عرفة: يسرا هي تاج العمل
في كواليس عابدين، كان لقاؤنا الأول مع ربَّان العمل، المخرج المصري القدير عمرو عرفة، الذي اعتبر أن ضخامة العمل فاقت كل التوقعات، وأكّد أهمية النص من حيث الحبكة الدرامية والقيمة التاريخية البصرية، معتبراً أن النص حمَّله مسؤولية كبيرة ليُخرجَ العمل بالضخامة التي خطّطت لها الكاتبة المؤلِّفة هبة مشاري حمادة. وقال عمرو عرفة: «الكاتبة هبة مشاري حمادة تُعتبَر نقطة الانطلاق الرئيسية لهذا العمل الضخم، وتستحق التحية والتقدير، وكذلك «مجموعة MBC» و«شركة O3 للإنتاج»، الذين وفّروا للعمل أفضل الإمكانات التقنية والبشرية التي تُسهم في إتمام العمل على أكمل وجه. أُقدّر العقلية الإنتاجية النيّرة التي تعامل فيها القيّمون على «سرايا عابدين»، لجهة احترام القيمة الإنتاجية للعمل، فلو لم تتوافر كل الإمكانات الضخمة التي طلبتها، لما تمكّنا من إخراج العمل بالصورة التي يراها المشاهد على «MBC1» و «MBC مصر» خلال رمضان. فقد تم توفير كل التقنيات والمعدّات اللازمة، كما تم التعاقد مع أفضل الفنيين والمدرِّبين لتكتمل جميع العناصر الفنيّة والعملية للعمل، ناهيك باستخدام أحدث تقنيات المؤثّرات والغرافيك العالمية، إذ تم استقدام فريق عمل من شركة Stargate العالمية، لتنفيذ الديكورات الرقَمية الضخمة، والتي يصعب بناؤها، خاصة قصر عابدين، وذلك بطريقة ثلاثية الأبعاد وبحرفية وواقعية كبيرة، بحيث يعجز المشاهد عن التفريق بينها وبين الديكورات الحقيقية غير الرقمية».
وعن التقنيات والمعدّات التي استخدمت في تصوير مسلسل «سرايا عابدين»، قال عرفة بأنها: «عادة ما تستخدم في صناعة السينما فقط. ولكن الفرق يكمن في عملية الإنتاج والمدّة. فالفيلم يستغرق من 6 إلى 8 أسابيع، أما بالنسبة إلى «سرايا عابدين» فالأمر مختلف، صورنا ثلث العمل في 16 أسبوعاً، في حين أن أي مسلسل آخر يستغرق الوقت نفسه لتنفيذه كله... وهذا مجهود كبير جداً، من حيث الوقت والكلفة الإنتاجية والالتزام. لكن، وكما قلت سابقاً، وفّرت لنا «مجموعة MBC» و«شركة O3 للإنتاج» كل الإمكانات المطلوبة، مهما بلغت، مما سهّل عملنا، وأضفى عليه متعة كبيرة جعلتنا نلتزم جميعاً بالعمل، ونسعى جاهدين لخروجه في أفضل شكل ممكن».
وأضاف: «يَمنح عدد النجوم الكبار هذا المسلسل زخماً إضافياً، خصوصاً أنهم ينتمون إلى جنسيات عربية مختلفة، وهذا بحد ذاته يُعَد بمثابة إغراء كبير لأي مخرج، فضلاً عن كونه منحني مزيداً من القدرة على التحكّم في الدفة الإخراجية، وبالتالي الخروج بالنتيجة التي أريدها». وحول الدور الذي تقوم به الفنانة القديرة يسرا تحديداً، يقول عرفة: «يسرا هي تاج العمل! والدور الذي تؤدّيه صعب جداً، ويُمكن أن يُعدّ مخاطرة لأي ممثلة، خصوصاً إذا كانت بحجم يسرا ومكانتها الفنية! فهي تلعب دور «الوالدة باشا» التركية الأصل. ومن المُنصِف القول أنني، وخلال تصوير مشاهد يسرا، كنتُ أجد أمام الكاميرا ملكة تركية الأصول بحق. وهذا تكريس لجهودها الكبيرة، إذ درست الشخصية دراسة مُعمّقة في إطار استعدادها الجيّد للدور».
الكاتبة هبة مشاري حمادة
ليس بعيداً عن المكان الذي يجلس فيه عمرو عرفة، تجلس الكاتبة الكويتية هبة مشاري حمادة، مؤلّفة العمل، وبشغف كبير تتابع ما يجري، لتُبدي بعض الملاحظات على الحوار، وتتخطى ذلك لتصل إلى بعض التفاصيل الصغيرة. سألناها عن هذا العمل التاريخي، فكانت إجابتها مفاجئة بالنسبة إلينا: «سرايا عابدين ليس عملاً تاريخياً، والنص الذي كتبته ليس نصاً تاريخياً توثيقياً، بل هو درامي بامتياز، ضمن قالب بصري شيّق وإطار تاريخي». ترى الكاتبة هبة مشاري حمادة، التي امضت نحو عامين كاملين في كتابة العمل، أن «ثمة الكثير من النصوص الدرامية التاريخية التي وقعت في فخ التوثيق»، على حد قولها، وهو ما لم تشأ الوقوع فيه لدى كتابتها للنص. وتوضح حمادة: «لقد كان التوجّه منذ البداية أن نستخدم التاريخ كحاضنة بصرية، مكانية وزمانية، بمعنى أن نستخدم جماليات التاريخ آنذاك لناحية فخامة الأمكنة والملابس والديكورات ورقي اللغة وغيرها من العناصر... وفي داخل تلك الحاضنة الزمانية والمكانية، تدور مجموعة من الأحداث الدرامية المُبتكَرة. لذا، لم نقع تحت وطأة التاريخ، إذ أن التوثيق عبارة عن عملية كتابية بحتة، قد لا تُثير شَغَف المُشاهد ودهشته كما تفعل الدراما».
وعن مدى نجاحها في تحقيق المعادلة في الموازاة بين التوثيقي والدرامي، تقول: «أردنا الوقوف في منطقةٍ وسطى، بحيث نروي ما هو تاريخي دون مغالطة، ولكن دون أن يجرفنا التاريخ بتفاصيله. فثمّة أحداث اجتماعية شائكة ضمن حبكات نَسَوية تقبع خلف الأبواب المُوصَدة، كالغِيرة والحب والشك والفراق واللقاء»... وهكذا توضح الكاتبة أهمية البنية الزمانية للعمل. أما بخصوص البنية المكانية فتقول: «هناك مستويان يمثّلان مصر في تلك الحقبة، وهما الجناح الملكي في الأعلى، و«البدروم» في الأسفل. فـ «البدروم» هو عبارة عن مخاض لقصص شعبوية بسيطة وبريئة صادرة عن أناس يخدمون في القصر، وأعدادهم كبيرة جداً. وما أن تصعد السلّم نحو الجناح الملكي، حتى يظهر الفارق الحقيقي بين الطبقات، وهو ليس بفارق شكلي فحسب، بل ثقافي واجتماعي كذلك». وتختم حمادة: «يتلقّى المُشاهِد اليوم العديد من الإنتاجات الغربية، السينمائية والدرامية والبرامجية. لذا، أردنا أن نرفع المستوى الإنتاجي الدرامي، ونقدّم للمُشاهد العربي عملاً يقترب في قيمته الإنتاجية من الإنتاجات العالمية. وأتمنّى أن نكون نجحنا في ذلك».
مدير المشروع وائل نجم يشارك في التمثيل
تراه في كل مكان، يتنقّل من شخص إلى آخر، داخل الكواليس، مراقباً انسياب العمل أثناء التصوير، يتابع أدق التفاصيل مع فريق العمل الإداري والإنتاجي، ويحرص على تأمين كل ما يلزم للعمل. هو الفنان والكاتب وائل نجم، مدير المشروع المنتدَب من «شركة O3»، ووسيلة دخولنا كواليس المسلسل. فلا أحد يدخل موقع التصوير المغلق إلا بإذن مسبق. سألنا وائل عن سبب التكتّم والسرية في التصوير، فأجاب: «ليس الأمر تكتماً ولا سرية، الهدف من الموقع المغلق أمام الزوار هو المحافظة على وتيرة العمل السريعة، وعدم السماح لأي شخص أو شيء بتأخيرنا أو التشويش علينا». وأضاف: «نحن نعمل بدقة كبيرة، والتحضير للمَشاهِد يحتاج لوقت وجهد كبيرين، لذلك نحاول ألاّ نُدخل إلى موقع التصوير أشخاصاً من خارج فريق العمل». لعل إجابة نجم فيها شيء من المنطق خاصة وأننا تابعنا عملية التصوير في كواليس العمل، ولاحظنا الدقة التي يعملون بها والصمت الذي يحلُّ على المكان مع بدء العدّ التنازلي لتصوير المشهد.
يتولّى نجم إدارة المشروع، بإشراف المدير العام لـ «شركة O3 للإنتاج» فادي إسماعيل، وبالتالي فإن الأول مسؤول عن التفاصيل المتعلقة بالعمل، كما يُقدّم دوراً كممثل في العمل، «ليس دوراً كبيراً، أُجسّد شخصية تُدعى «زينهم»، وهو طبّاخ صعيدي يعمل بقصر الخديوي اسماعيل ويقع في حب جارية من جواري القصر، الممثلة غادة عادل. لكن، للأسف في لحظة ما، تختفي هذه الجارية، وتبدأ رحلة البحث عنها في كل أرجاء القصر». ويتابع نجم: «المخرج عمرو عرفة والكاتبة هبة مشاري حمادة رشّحاني لأكثر من دور، لكنني في الحقيقة، أحببت هذا الدور، ووجدت نفسي فيه، وهو من أجمل الأدوار التي عُرِضت علي. كما أن عملي في إدارة الإنتاج لا يسمح لي بتوفير المزيد من الوقت للتمثيل، وقيامي بهذا الدور يدخل ضمن الوقت المتاح لي».
الفنانة يسرا
أوضحت يسرا أن دورها في العمل تطلّب منها استخدام لغات ولهجات عدّة، وليس فقط التركية، وأضافت: «إن تغيير اللكنة أمر في غاية الصعوبة، غير أنني عندما كنتُ أفرغُ من ارتداء ملابس الملكة «خشيار»، كنتُ أجد نفسي وقد تقمّصتُ شخصيتها تماماً، وذلك بموازاة تقمّصي لأدوات تلك الشخصية كاللكنة الملكية، ونبرة صوت الملكة، وطريقة نطقها». وتابعت يسرا: «بالطبع، تعلّمتُ بمساعدة مُصحِّح لغوي محترف كيفية تقديم اللكنة العربية بأسلوب النُطق التركي، إلى جانب اللغة التركية. كما خضعتُ لتدريبات كثيفة لإتقان طريقة مشي الملكة ووقفتها وحركاتها وسكناتها، فلكل إشارة مدلولاتها! هذا إلى جانب الدروس التي تلقّيتُها في «الإيتيكيت» (فن آداب المجتمع) والبروتوكول الملكيّيْن، من ناحية المأكل والمشرب والملابس..».
وحول شخصية الملكة «خشيار» أو «الوالدة باشا» من الناحية الدرامية، تقول يسرا: « أوضَحَتْ لي الكاتبة هبة مشاري حمادة أنها اعتمدت الخيال في نسج العلاقات الدرامية بين شخصيات العمل، وذلك من دون تجاهل الخطوط التاريخية الأساسية، وهنا تكمن دقة المعادلة. فالملكة «خشيار» تنظر إلى عنصرَي السلطة والسلطان كأمرين لا يمكن السماح بضياعهما. لذا، فهي مستعدّة لمحاربة كل من يهدّد سلطانها.. وذلك حتماً ينعكس على علاقاتها بكل من حولها».
قصي خولي: لو أن شخصية بدهاء الخديوي السياسي تعيش بيننا
من يعرف الفنان السوري الشاب قصي خولي، يكاد لا يتعرّف عليه ساعة لقائه في كواليس السرايا، ملابسه التي تعود لعدة قرون مضت، اللحية الطويلة السوداء، وطريقته في المشي بأسلوب ملكي فيه الكثير من الرقي يكاد يقارب الكبرياء. يُعرَف عن قصي خولي تحرّره الكبير وروحه الشابة وبساطته، ولكنه الآن «الخديوي»! وللخديوي صفات لا بد من أن يتقمّصها الممثل في كل لحظة من حياته المهنية. يقول قصي عن ذلك: «لكثرة ما قرأت عن الخديوي إسماعيل، وتابعت التفاصيل التي أورَدَتها في نصها الكاتبة هبة حمادة، مع الإضافات القيّمة والكثيرة التي وضعها المخرج عمرو عرفة وفريقه من المدرّبين المتخصّصين في كافة جوانب الحياة، وجدت نفسي أتقمص شخصية الخديوي الرائعة»، ويتابع ممازحاً: «كما أنني سأحتفظ باللحية حتى تصوير الجزء الثاني من العمل. في الحقيقة، أحببت شخصية الخديوي كثيراً، وهي شخصية مغريَّة لأي ممثل، ولكن بعدما تعمّقتُ في القراءة، ورأيت تفاصيل حياته وسياسته الخارجية ومنجزاته الكبيرة والكثيرة في مختلف جوانب الحياة العامة، أُغرمت بالدور وصرت متحمساً جداً لتقديمه بشكل يعطي هذه الشخصية المحورية حقها. وقد أعطاني المخرج عمرو عرفة كتباً تتناول حياة الخديوي إسماعيل، فتعلّقت بالشخصية أكثر، وأحببتها لدرجة أنني أتمنى لو أن مثل هذه الشخصيات المهمة تعيش بيننا اليوم، بدهاء الخديوي السياسي وثقافته ومحبّته لمصر والمصريين». واعتبر خولي أن نص الكاتبة هبة مشاري حمادة والتفاصيل التي وضعتها والشخصيات، جعلته يتعلّق بالشخصية أكثر وبتجسيدها أكثر وأكثر، مضيفاً: «نص هبة حمادة هو من أفضل ما قرأت في حياتي».
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024