لا يجوز إجهاض الزوجة بحجة أنها في فترة الرضاعة الشرعية!
«زوجتي حامل وهي في فترة الرضاعة لمولودنا الأول، فهل لي أن أجبرها على الإجهاض؟»
سؤال توجه به أحد الأزواج إلى دار الإفتاء المصرية، فكان رد الدكتور علي جمعة، مفتي مصر السابق، حاسماً لأي محاولة يمكن أن يبرر بها البعض إجبار زوجة على الإجهاض، بادعاء أنها لا تزال في فترة الرضاعة التي حددها الشرع. فما هي قصة الفتوى؟ وماذا يقول علماء الدين؟
بدأت القضية برسالة من أحد الأزواج إلى دار الإفتاء المصرية: «رزقت ببنت عمرها الآن ثمانية شهور، وحملت زوجتي بعدها مباشرة، والجنين الآن عمره شهران وعشرون يومًا تقريبًا، فهل لي الحق في منع زوجتي من الإنجاب مرة أخرى؟ وهل حملها قبل مرور عامين من الولادة الأولى مخالفة للشرع؟ وهل من حقي كزوج أن أطلب منها الإجهاض؟ وإن كان ذلك من حقي ورفضته، فهل لي أن أجبرها عليه؟ ومتى يكون لي الحق في مطالبتها بالإجهاض وعدم الحمل؟».
أجاب عليه مفتي مصر السابق الدكتور علي جمعة قائلاً: «ليس لك الحق في منع زوجتك من الإنجاب مرة أخرى إلا بموافقتها على ذلك، فإذا اتفقتما على ذلك جاز، وليس لك أن تقهرها على الإجهاض إذا هي حملت، حتى لو كانت موافقة على عدم الحمل، وليس في حملها قبل مُضِيّ سنتين من الولادة السابقة مخالفة للشرع، والمطالبة بالإجهاض أو عدم الحمل مردها إلى تقرير الأطباء الثقات بخطورة الحمل أو الجنين على حياة الأم».
ونصح الدكتور علي جمعة السائل قائلاً: «أنصحك بحسن الأدب في التعامل مع رزق الله تعالى، الذي يسوقه على شكل أولاد، فإنما هم زينة الحياة الدنيا بإفراح والديهم صغارًا وإعانتهم كبارًا والدعاء لهم أمواتًا والأخذ بأيديهم إلى الجنة في الآخرة، فكيف ترفض أولادًا رِزقك وَرِزْقُهم على الله تعالى، والرزق أعم من كونه ماليًّا، فمجيء الأولاد رزق لكل من حولهم».
مبرر مرفوض
تؤكد الدكتورة مهجة غالب، عميدة كلية الدراسات الإسلامية، أن الشرائع السماوية كلها ترفض الإجهاض بلا سبب قهري، بل إن قانون حمورابي وهو من أوائل التشريعات الوضعية قبل الميلاد، عاقب على الإجهاض الذي يقع على المرأة دون رضاها. أما اليهودية فقد فرقت في تحريم الإجهاض وإباحته بين مرحلتين من عمر الجنين، فنراها قد أباحته في الشهور الثلاثة الأولى من الحمل وحرمته بعد ذلك. أما في المسيحية فلم ترد نصوص أو أحكام صريحة تبيح الإجهاض أو تحرمه، إلا أن هناك شبه إجماع بين الكنائس العالمية عبر التاريخ على تحريم الإجهاض، ثم جاء الإسلام وحرّمه، بل جعله بمثابة اعتداء على روح حتى ولو لم تخرج إلى الحياة.
وأوضحت أنه لا يجوز شرعاً للزوج إجبار زوجته على الإجهاض بحجة أنها لم تكمل الرضاعة الشرعية التي حدد الشرع مدتها بعامين كاملين، لقوله تعالى: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» آية 233 سورة البقرة. وذلك لأن الله في هذه الآية أراد أن يقول لنا إن المدة المثالية للرضاعة الطبيعية المفيدة للطفل والأم هي عامان كاملان، ولهذا لا مانع من اتخاذ التدابير والوسائل الطبية الآمنة لتأخير الحمل بعد هذه المدة، أما إذا قصَّر الزوجان في ذلك فليس ذلك مبرراً لإجبار الزوج زوجته على الإجهاض، ما دام أن الحمل لا يمثل خطراً على حياتها، حتى لو لم تمر المدة المثالية للرضاعة المذكورة في القرآن الكريم.
حق يراد به باطل
وتصف الدكتورة مريم الداغستاني، رئيسة قسم الفقه في كلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، تفكير الزوج في إجبار زوجته على الإجهاض، بحجة أنها لم تكمل مدة الرضاعة الطبيعية المذكورة في القرآن، بأنه جريمة دينية يستحق مرتكبها العقوبة الرادعة، لأنه قول حق أريد به باطل وتبرير جريمة اعتداء على جنين حي بلا مبرر شرعي، بل إن الفقهاء عدّوه نوعاً من القتل الذي نهانا الله عنه لأي سبب كان، وخاصة في ما يتعلق بالرزق وخشية عدم القدرة على الإنفاق عليه، فقال الله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً» آية 31 سورة الإسراء. ومن يتأمل الآية سيجد أن الله ذكر رزق الأبناء قبل رزق الوالدين، تأكيداً لأنه لا يجوز شرعاً التشكيك في رزق الأطفال في كل مراحل حياتهم، حتى قبل أن يولدوا، لهذا وفر الإسلام لهم الحماية من الإجهاض ببث الطمأنينة في نفوس الوالدين أن رزق أولادكم القادمين تكفل الله به قبل رزقكم أنتم، وبالتالي ليس هناك مبرر للتفكير في الإجهاض أصلاً.
وتعجبت الدكتورة مريم من «الأنانية القاتلة في تفكير الأب الذي يريد قتل جنين بريء ليس له ذنب، ولا يصدر هذا التفكير إلا عن جهل بالدين وقسوة وأنانية في الطباع، وقد نهى الإسلام عن ذلك».
وسائل الحماية
وتطالب الدكتورة آمنة نصير، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية، الزوجة بعدم طاعة الزوج مهما كلفها ذلك، حتى لو وصل الأمر إلى التهديد بالطلاق، لأنها لم ترتكب إثماً شرعاً بالحمل قبل إتمام عامين على رضيعها، ولم يطلب منها الزوج عمل ذلك، ولم يتخذ من الإجراءات الطبية الاحترازية التي تؤخر الحمل، ثم بعد ذلك يريد أن يحمل الزوجة إثم جريمة الإجهاض.
وعن كيفية تصرف الزوجة إذا أصر الزوج على إجهاضها وهددها بالطلاق، تقول الدكتورة آمنة: «خطوات العلاج تتمثل في محاولة نصحه بالحسنى وبيان الخطأ في التفكير الذي لديه، ويكون كلامها باللين والإقناع وليس الفظاظة التي تجلب العناد، وليكن أمامها النصيحة الإلهية للرسول صلى الله عليه وسلم وأمته: « فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» آية 159 سورة آل عمران».
وأضافت الدكتورة آمنة: «إذا فشلت في الإقناع فلتذهب إلى أقاربه وأقاربها الذين يؤثرون فيه ويستمع إليهم، وخاصة من لديهم وعي ديني، حتى يقنعوه بحكم الشرع، وهذا التصرف أمرنا الله به إذا نشب خلاف بين الزوجين وكان هناك ظلم من الزوج لزوجته، فقال تعالى: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا» آية 128 سورة النساء. ومن حقها اللجوء إلى القضاء لحمايتها من رغبات الأنانية من الزوج إذا فشلت كل محاولات الإصلاح والإقناع».
تبرير الجريمة
ويدعو الدكتور محمد داود، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة قناة السويس، الأزواج الذين تحمل نساؤهم أثناء فترة الرضاعة، أي قبل عامين من الإنجاب السابق، أن يرضوا برزق الله ويحاولوا توفير الجو النفسي المناسب لزوجاتهم، حتى يكملن رحلة الإنجاب بسلام، وخاصة أن الناحية النفسية مهمة جداً، بدلاً من التكدير والتضييق عليهن أو تهديدهن بالطلاق، لأن هذا نوع من التمرد والرفض لقضاء الله، القائل في الحديث القدسي في ما رواه الرسول صلى الله عليه وسلم: «من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليطلب رباً سواي». ولا شك أن النفس أمَّارة بالسوء، كما وصفها القرآن: «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» آية 53 سورة يوسف.
ووجه داود سؤالاً للزوج، ومن شابهه كأنهم يملكون مقادير الكون: «هل ضمنت عمرك حتى تصادر على عمر جنين لم يأت الى الدنيا بعد؟ هل تعرف ما تحمله الأقدار الإلهية لك؟ فلماذا الاستعجال وافتراض السيِّئ والتصرف كأننا نملك الموت والحياة ونصرف الحياة كما نريد؟ مع أن الله نهانا عن ذلك وحذرنا أن نظن أنفسنا نصرف أمور حياتنا الحالية والمستقبلية كما نريد، فنكون ممن قال فيهم الله تعالى: «حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» آية 24 سورة يونس.
وأنهى الدكتور داود كلامه، داعياً الأزواج إلى عدم التفكير أصلاً في الإجهاض، طالما كانت الزوجة تطيق الحمل ولا يمثل خطراً على حياتها بناء على التقارير الطبية من الأطباء الثقات، وإذا خالفوا ذلك كانوا في عداد القتلة من منظور الشرع، وعليهم أن يتعالوا على ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء التي تبرر لهم جريمة الإجهاض بأن الزوجة حملت قبل أن تتم عامي الرضاعة كما قال القرآن، كأنه حريص على تطبيق ما جاء به القرآن. ولهذا ننصح هذا الزوج وأمثاله باتباع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه». وأن يحتكموا إلى شرع الله الذي لم يُحرِّم الإنجاب أثناء فترة الرضاعة، وإلا كان إيمانه مشكوكاً فيه، وصدق فيه قول ربنا: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» آية 65 سورة النساء.
تفكير جاهلي
أما الدكتور منير جمعة، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فيطالب الزوجة بالدفاع عن حق جنينها في الحياة، سواء كان ذكراً أو كانت أنثى ويريد زوجها إجهاضها، لأن لديه مثلاً عدداً من الإناث ويريد ذكراً، مثلما كان يفعل الأزواج في الجاهلية، وحذرنا منه القرآن في قوله تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ» الآيتان 58- 59 سورة النحل. ولا شك أن ما يفكر فيه الزوج هو نوع من تفكير الجاهلية، التي نهانا الله عنها، حتى أنه تعجب ويوبخ من يريد الاحتكام إلى أفكار الجاهلية، فقال تعالى: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» آية 50 سورة المائدة.
وحض جمعة الزوج على «التحلّي بالحكمة والعقلانية، وأن يفرح بما سيرزقه الله، لأن الأولاد نعمة، فكم من الملايين الذين حرموا من النعمة ويريدون طفلاً، وليتذكر نعمة الله عليه أن أعطاه زينة الحياة الدنيا التي قال الله تعالى عنها: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً» آية 46 سورة الكهف.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024