فرنسوا برنار في 'بسيكوترابيا': سيناريوهات زخرفية باذخة في غرابتها!
إن لم تكن هلوسات – كما تبدو للوهلة الأولى – فإنها بالتأكيد تجاوز لوعي شديد الالتصاق بواقع شديد الصرامة. من هذه الزاوية الحادة جداً، يمكن أن نبدأ مشوارنا مع المصمم فرنسوا برنار، فهو يقدم لنا من خلال سينوغرافيا أخاذة إطاراً سحرياً لأنشطة مستحضرة من عالم الوهم والخيال، على حدود السوريالية يمارس هذا المصمم عمله مقترحاً سيناريوهات زخرفية مختلفة ومتنوعة لحراك ذهني داخلي، مطعّم بصور وأجواء قادرة على إثارة الأعجاب وحيازته.
الحساسية والذهن هما اللاعبان الأساسيان في عملية الابتكار والتشكيل، حيث تنمُّ التعابير - من خلال هذه الموجات الجديدة - عن حاجة إلى فك الأرتباط مع العالم العقلاني والذي يحد من قدرتهما على التعبير وكسر القيود التي تكبل مسار نشاطاتهما بقوانين ورموز و قواعد.
هو إستدعاء لقوى وطاقات مدهشة من عوالم وهمية، تساعد على تجديد الرؤى وتشجع الخيال على رسم ملامح زخرفية تكشف بعض معالم المستقبل، عالم جسدته مقترحات وصور لمشاهد زخرفية تتجاوز في صياغاتها الواقع والمعقول.
بعضها يلبس حلة الغرابة أو يستحضر في تصاميمه الكثير من الإشارات والرموز بأجواء سوريالية، أو روحانية مخدرة بسحر الطقوس الشامانية والتي يحاول المبدعون مقاربتها بأساليب شاعرية غامضة، تختلط فيها الغرابة بالدهشة، وتوظف من خلال طروحاتها المدهشة عالماً بصرياً متحرراً من كل القيود، يستدعيه فرنسوا برنار ببراعة مدهشة من خلال محاولاته شرح وتحليل تلك المتاهات والصور العشوائية الغزيرة التي يفرزها الدماغ في هذيانه الإبداعي، فيفرغ الأشياء من مضامينها المألوفة، ويشحنها بمضامين ورموز جديدة، فارهة، ومتوغلة في الذهول.
وإذا ما أردنا أن نذهب أبعد من ذلك، فنجدها تستجيب في ملامحها لما ينسجه الخيال في شطحة أحلامه... أشياء تستعرضها السينوغرافيا بوجوه وتشكيلات زخرفية جميلة وتعابير عالية الحساسية.
كل هذه التجارب التي يكشفها الديكور لهذا العام لفتت الإنتباه وعلى المستوى العالمي إلى نشاط الدماغ في حالة اللاوعي، ومساهمته في توليد هذه الأجواء التي تعبر عن حالة طيفية غير مألوفة والتي يحاول علم النفس تفسيرها وتصنيفها داخل إطار التجارب الفنية التي تقارب الهلوسة و تنضوي تحت علامة ال»بسيكوترابيا».
فهذه الهلوسات الإبداعية – إذا جاز القول - تتجاوز في مسارها كل الشروط والقواعد والقوانين الزخرفية المتداولة. حالة خاصة جداً لأنها تؤسس لابتكار موجات متشعبة ومتتالية داخل هذا التيار الزخرفي الجديد الذي تناهض تصوراته كل ما يرتبط بالواقع.
تتنوع النماذج والسيناريوهات والأعمال التي يفرزها هذا التيار، بين أجسام وتصاميم منحوتة يتلاعب بها الضوء والخطوط الغرافيكية المثيرة والتي تبرز الأشكال والأحجام بصور مثيرة، تمنح مناخات كل عمل من الأعمال بعداً وقيمة جمالية خاصة، تزيدها الألوان سحراً وتعبيراً.
بعض هذه الألوان يبدو طاغيا بوحي من أجواء البوب آرت من سبعينات القرن الماضي، اضافة الى تأثيرات مستمدة من مراحل وتيارات فنية مختلفة.
بينما تقودنا بعض التصاميم إلى الارتياب، مع صعوبة الدخول إلى ألغازها بغية تحليلها، خصوصا عندما تستدرج الوهم وتقدمه بديلا عن الواقع وكأنها تقوّض العالم الحقيقي وتتلاعب بقدرتنا على إدراكه.
وهنا يبرز التحليل التأملي كخطوة أولى لفهم تلك الإيحاءات التي تستولي على المشهد. فهي مثيرة للجدل حول المضامين التي تقترحها وما تثيره من تمثيلات مظهرية تحرك المشاعر وتخاطب الداخل وتتواصل مع الرؤية في الوقت نفسه.
الخيارات التي تفيض بها سيناريوهات فرنسوا والتي تكتنز الكثير من الغرابة والدهشة في صياغات لا تتكرر صورها، ستترك في أحاسيسنا حالة لا تشبه في تأثيرها أي حالة أخرى، تطل علينا من خلالها العناصر ملونة بالفرح والعاطفة والغربة، وتلك الأحلام الهائمة فوق أرضيات أفكارنا، تتناسق، تتصادم في جماليات ملتبسة متوهجة، تقود العين إليها كيفما تريد، أو تترنح وتغيب في متاهات من التحريفات لتحملنا الى أبعاد أخرى محاطة بهالة من غموض يتشكل من الدلالات والرموز السحرية المطروحة، عبر إنسيابات شكلية ولونية، تدفع بالمشاهد الى تبني وضعية تأملية مزدوجة أو مركّبة مما هو روحي ومادي... كأنها عملية انتاج للغة تعبيرية جديدة، تفضي إلى حالة من الاستلاب الذهني والتوهمات الطارئة.
عمل يطرح معادلات تؤسس من خلال هذه التصاميم لمفاهيم زخرفية جديدة، وتقود إلى قوانين مبتكرة، ترسم مساحة للتفكير المختلف. كأنها حالة بديلة لحالة أكثر رسوخاً وصلابة.
أشياء مولدة للأحلام أو مولودة منها، تتبناها مخيلة واعية، تُظهرها رموزاً أقرب الى الطقوس منها الى المرجعيات، تراوح بين الفن والوظيفة، لتدخلنا في حالة من انعدام الوزن، في عالم بالغ الخفة والهوائية.
تبدو أشياء مؤهلة او تحت التأهيل. كأنها صياغات عشوائية لمواد متغيرة في حركة دائمة بين أن تكون شيئاً آخر في اللحظة التي هي عليه. إنها أسيرة للخيال، بل لنقل إنها ملحقة به.
تبدو في بدائيتها وكأنها فيض ذهني عابر للتصورات، لذا فهي تضفي على المشهد الفني والزخرفي طابعاً مثيراً ومتفرداً ومحرّضاً في الآن نفسه.
واذا كان فرنسوا برنار قد ظهر ما يجول في عقله، لحظة الإبداع، فهو لم يتوانَ عن إلحاقها بطقوس وحكايات، تظهرها وكأنها أدوات مجهولة تلعب دورها في تأجيج المخيّلة وتنشيط الهواجس والأحلام.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024