تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

عميدة النواعم فوزية سلامة تتحدّى السرطان بأمل وتفاؤل وابتسامة

يمر الإنسان الذي يتلقّى خبر إصابته بمرض السرطان بصدمة،  تليها فترة من الحزن والأسى الشديدين. وردّة الفعل هذه طبيعية جداً. ومعها ليس للحزن مكان ولا حتى للإحباط وكذلك للكآبة مهما كانت الظروف، لا بل هي مشرقة بإبتسامتها الدائمة، ومتفائلة الى أبعد الحدود. واللأهم أنها  مؤمنة بقضاء الله.

فوزية سلامة الإعلامية والباحثة الاجتماعية والروائية،  تواجه السرطان بعزيمة قوية وإرادة صلبة، وبسلاح حب الحياة والنضال من أجل كسب التحدي. هذه المرأة العظيمة، الصديقة والأخت والأم،  تثبت أنّ العزيمة والصبر يلغيان مبدأ  الثنائيات المتضادة في الحياة، فالأمل سيحلّ مكان اليأس، والخير سينتصر على الشرّ، والضياء سيكسر الظلام، والفرح سيتغلّب على الحزن، أما الشفاء فسيكون مكان المرض.


- بدايةً نتمنى لك الصحة الجيدة والعمر المديد، ونودّ أن نعلم ماذا كانت ردة فعلك عندما علمتِ بأنك مصابة بسرطان البنكرياس؟

من الأقوال التي سمعت والتي تدفعني للابتسام دائما ما قاله لي زوجي يوماً، حين سمعني أقول: “لو ان ربنا سبحانه وتعالي شاء لي ان افقد ٢٠ كيلوغراماً من الوزن الزائد وعشرين عاماً من العمر المتقدم هل سيختلّ نظام الكون؟».

نظر إليّ وقال: يا فوزية احذري من احلامك.

هل كانت عنده الحاسّة السادسة يومها؟ لست ادري . ولكن ما حدث، وفي سياق انني والحمد لله من الناس الذين يستجيب الله لدعائهم، لاحظت ان وزني يتناقص بشكل منتظم وفسرت الامر على انني ناشطة في مجال مراقبة ما آكله وانني اخرج للمشي كلما سنحت لي الفرصة.

كنت سعيدة بتناقص وزني. ولكني لاحظت انني اعاني من بعض الالام في المعدة فذهبت إلى عيادة الطبيب الذي نصحني بتناول ادوية معينة للعلاج. ولم تتحسن الحالة فأصر زوجي على مرافقتي عند زيارة الطبيب. وهناك سمعت للمرة الأولى ان زوجي قلق على صحتي وخصوصاً على البنكرياس لأن فقدان الوزن لم يحدث بشكل يوحي بالاطمئنان.

الحقيقة هي انني لم اصدق ولم اهتم كثيرا لأنني رغم الالام في المعدة كنت اعيش حياتي بشكل طبيعي واعمل وازور اصدقائي واطهو الطعام، وإن كانت شهيتي فقدت الكثير من نشاطها.

وأصر زوجي على اجراء اشعة دقيقة لفحص البنكرياس. واجريت الاشعة يوم سفري إلى بيروت لتسجيل اربع حلقات من «كلام نواعم».
وبعد اربعة ايام عند رجوعي الى لندن اخبرني بأن موعداً قد حُدد لزيارة طبيب اختصاصيّ.

في عيادة الطبيب سألني: هل تريدين ان تسمعي الاخبار الجيدة اولاً ام السيئة اولاً؟ فقلت له هات ما عندك لأني لست خائفة من هذه او تلك. قلت تلك الكلمات وبداخلي يقين بأنني اعاني التهاباً ما وان بضعة اقراص من الدواء سوف تحل المشكلة. غير انني في لحظة تحولت من حالة وجود صلبة على ارض الواقع الى حالة وجود ميتامورفية وكأنني تحولت من كائن بشري الى كائن حشري حين قال لي الطبيب: الخبر السيئ هو انّ هناك ورما على البنكرياس. والخبر الجيد هو ان تلك الاورام في ٩٠ في المئة من الحالات لا يمكن استئصالها ولكن في حالتك ما زلنا قادرين على استئصال الورم. ولقد حددت لك موعدا لزيارة الجراح وموعدا لاجراء الجراحة.

بعد ثلاثة ايام فقط كنت بين يدي الجراح ودخلت غرفة العمليات الجراحية ماشية لأنني كنت ما زلت في حالة تسمح لي بذلك.

- عرفناك بابتسامتك المتلألئة دائماً ، وها أنت اليوم تشعين بالابتسامة نفسها رغم مرضك، فما الذي حدث معك بعد الجراحة؟
اعتقد انني لم افق من الذهول الا بعد ان اجريت لي الجراحة. واتذكر انني في قسم العناية المركزة التقيت طبيباً عربياً سألني: هل انت فلانة؟ فضحكت وقلت له كيف عرفتني وانا لا أعرف نفسي، خصوصاً أن كل تلك الانابيب متدلية من عروقي ومن انفي ومعصمي؟ وحين خلوت الى نفسي همس صوت بداخلي قائلا: ما تزعليش . المسألة انتهت ومفيش آلام مبرحة.

- الاصابة بهذا المرض لها وقعها على جميع افراد العائلة، فكيف كان وقعها على عائلتك بالتحديد؟
كان قلبي ينفطر على ابنتي الوحيدة ربما لأنها وحيدة وليس لها أخ أو أخت. وكنا حتى لحظة تشخيص المرض أماً وابنة. الأم تحمي وتنصح وتتفانى في الحب والبنت تتدلل وتطلب الحب كحق مكتسب. حين سمعت ابنتي بأنني مصابة بورم سرطاني شحذت كل طاقتها الانسانية. نجحت في اخفاء الدموع وحولت كل طاقتها الى البناء. درست كل ما يمكن درسه عن السرطان وطرق مكافحته وما هو الطعام الافضل للمريض وكيف انّ تشبث المريض بالحياة وموقفه الايجابي يساهمان في الشفاء. كانت تذهب الى عملها وتعود في المساء لزيارتي في المستشفى وبيدها ملابس نظيفة ومكوية وبعض الاطعمة التي تعرف انني احبها وبيدها باقة زهر. عرفت لمسة الحنان من يديها وكانت ترفض ان تساعدني الممرضة المكلفة رعايتي على الاغتسال فتقول لها: شكرا لك ولكني سوف اساعد امي على تبديل ملابسها وتمشيط شعرها.

- وماذا عن زوجك؟
زوجي  طبيب ومتعود على دعم مرضاه وعلى إلغاء المشاعر الشخصية من حساباته. ولكني كنت الاحظ إمارات الارهاق على وجهه. وكان اذا وصل الى غرفتي في المستشفى جلس على مقعد وغلبه النوم. وفي احد الايام قال لي لقد صليت ودعوت لك بالشفاء وقلت لله: يا رب اترك لي فوزية لأني في حاجة اليها.

- هل تغير نمط عيشك واختلفت نشاطاتك عما كانت عليه سابقاً؟
بعد خروجي من المستشفى تعودت على نمط حياة جديد. مازلت ملتزمة العمل لأنّ العمل هو اشتباك مع الحياة وتواصل مع الناس ودعم لاحساسي بأني ما زلت كما كنت قبل الاصابة. ولكن طرأت بعض التغييرات واهمها تنظيم تعاطي الادوية في مواعيدها. والابتعاد عن اي انفعالات والتماس الراحة عند اللزوم . وقد تغيرت اولوياتي في الحياة. لم اعد اهتم بالصغائر واصبحت كثيرة التفكير في تجاربي الماضية. واغتنمت كل فرصة ممكنة لتصحيح بعض الاخطاء التي ارتكبت في حياتي. واصبحت أجد متعة كبيرة جدا في مراقبة الكائنات الصغيرة من نافذة غرفتي. أسعد جدا برؤية الطيور تتقافز وأراقب الاشجار وهي تجدد نفسها استعداداً للربيع . وكثيرا ما اجد بداخلي رغبة في اعادة ترتيب خزانة او ملف اوراق.

- ماما فوزية المرأة المناضلة المكافحة والصبورة، هل ستناضل وتكافح من اجل التخلص من هذا المرض؟
كلنا بين يدَي الله. واتمنى لنفسي الشفاء طبعا. واعتقد ان أقوى أسلحتي في هذه المعركة هو حبي للحياة وادراكي أن كل يوم جديد هو بالفعل هدية وفرصة ومتعة متجددة. انا احب الحياة ولا اخاف الموت. الحياة كتبت علينا كما كتب علينا الموت. وربنا يقول انّ لنا مستقراً في الدنيا ومتاعاً الى حين. فالمتعة في الدنيا هي حق الانسان عند ربه، وما دمت حية سوف اتمتع بأسرتي وبأمومتي وبسماع الموسيقى وقراءة الكتب والتواصل مع أصدقائي وخدمة مجتمعي. وحين توضع كلمة النهاية سأقول لربي يا رب أحسن استقبالي لأني حاولت ان اكون انسانة لا تؤذي الناس بالقول او بالفعل.

-  دخلت مرحلة العلاج الكيميائي، ما الذي تحملينه معك فور الدخول الى تلك الغرفة؟
العلاج الكيميائي هو اصعب مراحل العلاج لأنه سموم تهاجم الخلايا السرطانية لتقضي على ما تبقى منها. ولكنها في الوقت نفسه تهاجم الخلايا السليمة أيضاً، وعليه فان مناعة الجسد تتأثر، وتتقلص الطاقة ويشعر المريض بالوهن.

ولكنه جزء مهم من العلاج. وما افعله انا هو النظر الى بعيد. كل اسبوع اقول لنفسي فات اربعة وباقي اربعة عشر. يعني بعد اسابيع سأكون انتهيت من تعاطي السموم واتفرغ لاعادة بناء جسمي. حين اذهب الى المستشفى لجلسة علاج اخذ معي الاي باد وكتاباً والهاتف النقال واسمح لنفسي بالتفكير العميق وتجديد آمالي المؤجلة. وحين تنتهي جلسة العلاج اشعر وكأنني تحررت من الأسر.

- ما الذي أعطتك إياه هذه التجربة المريرة والقاسية؟
اصبحت قريبة من الله كثيرا. ادركت انني لم اخض تجربة المرض كعقاب وانما كجزء من رحلة التعلم. ادركت انني تمتعت بحياة طويلة خالية من كل مرض حتى اللحظة الراهنة. وطبعا هذه نعمة كبرى كنت اعرفها ولكني اعرفها الان بعمق شديد. كل انسان يسعى وراء النجاح ويتمنى بحبوحة العيش، ولكني وانا راقدة على سرير المرض في المستشفى كنت أقلّب في محطات التلفزيون فاذا بي ارى صورتي على الشاشة يوم خميس، حين تعاد حلقة “كلام نواعم”. اخذتني المفارقة والفرق الرهيب بين الصورة على الشاشة والانسانة الراقدة على سرير في المستشفى وادركت ان هذه المفارقة لم تحدث عشوائيا وانما هي رسالة موجهة الي بأن اعيد ترتيب اولوياتي في الحياة. وبعد ايام قرأت عن رجل متواضع ربح ١٢ مليون جنيه استرليني حين اشترى تذكرة رهان. فما كان منه الا ان وضع الارباح في البنك باستثناء مبلغ صغير اشترى به بيتاً متواضعاً وسيارة صغيرة لأنه لم ير داعيا لأن يغير نمط الحياة التي تعود عليها قبل ان يربح الملايين. وحين قرأت القصة سألت نفسي: ماذا تفضلين؟ الملايين ام الصحة؟ فقلت لنفسي؟ لا شيء يعادل الصحة وراحة الضمير، ولذلك ما زلت اشكر الله على نعمة النجاح ومحبة الناس ولكني استطعت ان اضعها في الخانة المناسبة بحيث لا تنسيني اهمية الادوار الحياتية الاخرى كالزوجية والامومة وصلة الرحم والتفكير في من هم اقلّ مني حظا في الدنيا.

- كلماتك قوية ومؤثرة وفيها أمل كبير، من اين تستمدين قوتك؟
الناس تعتبرني امرأة قوية ولكني لا ارى نفسي بالمنظار نفسه. ارى نفسي فتاة مصرية أتت الى العالم الغربي لتلقّي العلم وهي بلا تجارب ولا اسلحة ولا ثروة فخطت بخوف وحذر وتعلمت الكثير من التفاعل مع الناس. بكت كثيرا وضحكت كثيرا وصاحبها الحظ ورعاية الله واصبحت المحطات المهمة في حياتها بمثابة نقاط تحوّل. فقد ودّعت الحياة الاكاديمية غير آسفة حين دخلت مهنة الصحافة. وكانت تلك إحدى النقاط المهمة في حياتي. وكانت الامومة نقطة تحول اخرى لأن امومتي اصبحت هي المعنى الحقيقي لوجودي في الدنيا والمحرك الاقوى. اصبحت هي الغاية والوسيلة والامل القريب والبعيد.

وفي شبابي كنت اتمنى وادعو بالحاح ان يمنحني الله تجربة الحب الكبير. وبالفعل تزوجت عن حب كبير وانجبت ابنتي من زواجي الاول ولكني تدريجاً أدركت ان الحب الكبير قد يشعرك بالاكتمال والسعادة المسكرة ولكنه لا يبني زواجاً ناجحاً. وادركت ان كل انسان يدخل حياتنا لسبب لا يعرفه الا الله وان زوجي الاول دخل حياتي لكي يحقق لي امنية الحب وامنية الانجاب. فكانت هديته لي هي الاحساس بالاكتمال العاطفي لفترة والاحساس الممتد بأنني ام الى هذه اللحظة. هذا الزوج رحل عن الدنيا وما زلت ادعو له بالرحمة يومياً. ولكني حين قررت ان اتزوج للمرة الثانية وظفت العقل والتجربة في اختيار الزوج. والحمد لله وُفّقت وكانت تلك هي ايضا احدى نقاط التحول في حياتي.

- انت اليوم عميدة النواعم في برنامج «كلام نواعم»، هل ستعودين اليه في القريب العاجل؟
لو كتب لي الله الشفاء سأعود الى “كلام نواعم»، وهذه فرصة لكي اشكر «إم بي سي» على الدعم غير المسبوق الذي وفرته لي... كلما تذكرت زميلاتي وفريق الانتاج والاعداد اشتقت الى ان اكون جزءاً من هذا النشاط الجدير بالاحترام. لم التق شخصاً من خلال عملي في «كلام نواعم» يمكن ان يوصف الا بافضل الصفات. فريق على مستوى راقٍ من الابداع والتفاني والرغبة في تقديم الافضل.

- ما هي رسالتك الى كل من يعاني هذا المرض؟
السرطان مرض خبيث لأنه يعمل في الخفاء الى ان يصل بالمريض الى مرحلة يصعب فيها العلاج. ولكن لكل منا دور لا بد ان يقوم به في العناية بجسده. ما نتناوله من طعام وشراب يؤثر علينا. الضغط العصبي والارهاق يؤثران علينا. وعلينا الا ننسى ان الحياة هبة متجددة وان العناية بالصحة جزء من عبادة الله وشكره على النعمة.

رسالتي هي ان السرطان مرض كسائر الامراض، وان اليقين بأن الله يعرضنا للمرض لا كعقاب ولكن كتذكرة بضرورة الاحتماء من كل الامراض بحياة خالية من المؤثرات السلبية. الدعاء والتقرب الى الله واليقين الداخلي بأن الشفاء ممكن ومتاح، كلها ادوات لمكافحة الامراض.

- ما هي نصيحتك الى كل من يرى الحياة بمنظار التشاؤم؟
نصيحتي هي: احب الحياة تحبك الحياة.
ونصيحتي الاخيرة هي ان من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077