عندما تتحدّى المرأة الدور المكتوب لها
مهندس، طيّار، ربّان سفينة، ميكانيكيّ، قائد فرقة موسيقيّة، سائق تاكسي، مدرّب رياضة، شرطيّ... كلّها مهن يمارسها الرجل كجزء من روتينه اليوميّ من دون ان يرفّ له جفن، كونه متخصّصاً في هذا المجال، ومتمرّس في هذه الوظائف، وعنده المؤهلات الكافية التي تمكّنه من مزاولة المهنة التي لطالما أحبّ ونجح فيها.
وفي المقابل، نرى نساءً قديرات إقتحمن عالم المهن الذكورية ونافسنَ الرجل فيها، وحتى تفوّقنَ عليه في بعض الأحيان! إذ لم يعد التصنيف الإجتماعيّ الرجعيّ قائماً، وتراجعت حدّة النمطية السائدة التي تضع كلّ «جنس» في خانة معيّنة، إجتماعياً، ثقافياً، إقتصادياً ومهنياً.
ماذا يحصل عندما تتخطّى السيدة كلّ العوائق وتمارس مهنة «خارجة عن المألوف»؟ والواقع أن اعداد النساء اللواتي يبرعن في وظيفة كانت قبلاً حكراً على الرجل، في تزايد مستمرّ. وهذا لا يمنع النجاح والتألّق في العمل.
يميّز مجتمعنا الذكوري بين الرجل والمرأة على مختلف الصُعُد، ويرسم أدواراً مرتكزة على أحكام مسبقة أو نظرة تقليدية، على قياس كلّ فرد، آخذاً في الإعتبار التقاليد والأعراف... بيد أنّ هذا الأمر قد يكون عارياً عن الصحة أحياناً، عندما يتمّ الحكم على فرد معيّن حسب جنسه أو لونه أو إنتماءاته! إذ إنّ الوظيفة لا تتطلّب رجلاً أو إمرأة، وإنما شخصاً كفوءًا، يتمتّع بمختلف المؤهلات التي تمكّنه من النجاح بعمله، بغضّ النظر عن البنية الجسدية والتركيبة البيولوجية.
فمن قال إنّ المرأة لا تملك بنية قويّة ولا تتحمّل الضغط والعمل؟ يختلف الأمر من إنسان إلى آخر، وما على المرء سوى المحاولة وإثبات ذاته في معترك العمل.
يشرح الدكتور جو عجمي، الأستاذ المحاضر في الإعلام والإعلان والعلاقات العامة والقضايا المعاصرة، نظرة المجتمع إلى الأفراد الذين يمارسون مهنة مصنّفة على أنها للجنس الآخر، ويفسّر دور التربية والإعلام في النمطية والحكم المسبق.
ويتحدّث من جهته الدكتور يوسف يعقوب، الأستاذ المحاضر في الفلسفة وعلم النفس، عن التبعات النفسية والسطحية في التعامل مع قشور الأمور.
مجتمع ذكوري بإمتياز
يقول الدكتور يعقوب: «نحن نعيش في عالم ذكوري تسيطر عليه العقلية الشرقية بإمتياز، بحيث تبدأ التفرقة ما بين الولد والبنت منذ نعومة أظافرهما. فيُربّى الصبي ليكون قوياً، يتحمّل الألم والصعوبات، يلعب بطريقة هجوميّة مستعيناً بالأسلحة والدبابات والسيارات، ويمارس رياضات خشنة.
بينما تتعلّم الفتاة التهذيب والنعومة، وتتربّى لتكون خاضعة وأقلّ قوّة، وتهتمّ بجمالها وبألعابها وتذرف الدموع بسرعة وتمارس رياضات بسيطة.
وهذا الأمر يكبر مع المرء، ويحدّ الكثير من خياراته المستقبليّة التي تكون مُعدّة سلفاً له، حسب جنسه». فلا يجوز أن يتوجّه الشاب إلى خيارات تتطلّب العطف والحنو والمساعدة والفن، على غرار التمريض أو الرقص أو الرسم أو الطبخ، كما تبتعد الفتاة عن الوظائف التي تتطلّب خشونة في التعامل أو قسوة، مثل الميكانيك أو قيادة الباص وسواهما.
يضيف: «من هذا المنطلق، ننظر إلى بعضنا على أساس الجنس، ذكراً أو أنثى، متغاضين عن جوهر الإنسان الحقيقي، ومقدرته الفعليّة ومؤهلاته.
ومن شأن هذه السطحيّة في التعامل أن تنعكس مباشرة على مختلف القرارات التي نتّخذها». لكن في النهاية، لا يحدّ إختيار مهنة خارجة عن المألوف من قيمة الرجل ولا يسلب المرأة أنوثتها ورقّتها، بل إنّ الأدوار تبقى كما هي!
إختيار الوظيفة
رى عجمي أنّ «بعض المعايير الإجتماعيّة والإقتصاديّة تلعب دوراً بارزاً في إختيار مجال التخصّص الجامعي، وبالتالي نوعيّة المهنة المستقبليّة، بالإضافة إلى الإعتبارات الشخصية كتفضيل مجال على آخر، أو التفوّق في مادّة معيّنة».
على المرء أن يوازن في الإختيار، كونه سوف يمارس هذه الوظيفة لوقت طويل، ولا يجوز بالتالي هدر سنين من حياته لتغيير المهنة، كلّما عصفت رياح الصعوبة أو تبدّلت الأهواء والرغبات!
يتابع: «إنّ الخيار منوط برغبة الفرد بالإضافة إلى توافر سوق العمل. ويتمّ ذلك عبر التعاون والإرشاد. ورغم ذلك، لا نزال نشهد نسبة كبيرة من الذين يُقدمون على العمل في وظائف لا تمتّ بصلة إلى تخصّصهم في الأصل».
ويلفت إلى أن «من يقرّر نوعيّة الوظيفة هو بشكل عام الثقافة التي ينتمي إليها المرء والبيئة الحاضنة، أي المجتمع، بالإضافة إلى العامل الجسدي والمؤهلات. ففي الكثير من الأحيان نربط بين مهنة معيّنة وجنس محدّد. إنما هناك دائماً خروج عن القاعدة وهذا ليس بشواذ».
أحكام مسبقة
يقول الدكتور يعقوب: «القرار الذي يتخذه المرء في ما خصّ المهنة هو أمر سوف يتعايش معه هو، فعليه أن يتحلّى بالإستعداد النفسي والعاطفي وأن يتقبّل النقد ويتأقلم مع حياته والجوّ العام من دون أن يترك الآراء المتضاربة تؤثر سلباً عليه».
ويزيد عجمي: «عندما يكسر المرء قاعدة في المجتمع، أو يتوجّه إلى خيار يكسر حواجز النمطيّة Stereotyping المفروضة علينا من الإعلام والتربية والثقافة ككلّ، سيواجه ردّات فعل معاكسة وإنتقادات.
فمن الصعب أن يتقبّل المجتمع قيام إمرأة بعمل يتطلّب القوّة الجسدية أو إتخاذ القرارات الحاسمة، ذلك أنه قد صنّفها منذ القدم في خانة أخرى».
يقول يعقوب: «إنّ الأحكام المسبقة Prejudice سببها التزمّت الذي يتربّى عليه الإنسان، فيكون مبرمجاً Conditioned للقيام بأمور محدّدة، وللإعتقاد بأشياء معيّنة. ومن الصعب جداً ان يغيّر نظرته، ما لم ينفتح على العالم ويتطوّر ويواكب التغيرات».
إستفزاز واضح!
في بعض المجتمعات، وعند بعض الناس، قد يكون إختيار المرأة لمهنة «ذكورية» إستفزازاً واضحاً لمحيطها.
كما قد ينتقد البعض إقدام الرجل على ممارسة وظيفية «نسائية» تقلّل من ذكوريّته وقيمته! يقول عجمي: «قد يتسّبب اختيار الوظيفة بصدمة سلبية للمحيطين الذين يعمدون إلى تكسير أحلام الفرد ويحطّمون معنوياته، ظناً منهم أنه أقدم على قرار خاطئ لا بدّ من الرجوع عنه».
بشكل عام، لا يهتمّ المجتمع ككلّ بهذه التفاصيل الصغيرة، وإنما بعض الأفراد هم من يُثيرون الموضوع ويتسبّبون ببلبلة.
حرّية في الإختيار
يؤكّد يعقوب أنّ «مؤهّلات الشخص وقدرته على المثابرة والنجاح هي ما يُحدّد وجوب الخيار الصحيح. فبغضّ النظر عن كون الفرد رجلاً او سيّدة، من حقّ الجميع ممارسة المهنة التي يحبّون ويبرعون فيها.
وفي هذه الأيام، باتت التقاليد الرجعيّة إلى زوال، مع الإنفتاح الحاصل والدعم المعنويّ الذي قد يقدّمه أفراد العائلة، والشريك على وجه الخصوص. إنّ نوعيّة الوظيفة التي يمارسها المرء خارج منزله لا تقلب الأدوار داخل البيت، بل إنّ التكافؤ الحاصل والتوافق هما عماد البيت الناجح».
ويرى عجمي أنّ «قوّة الشخصية والنجاح في العمل يفرضان نفسيهما لا محالة، لتتمكّن السيدة من إثبات ذاتها والترفّع إلى المناصب العالية، في وظيفة كانت قبلاً حكراً على الرجل».
نساء في مهن رجال...
بعيداً عن التجميل والإهتمام بالأولاد والتدريس في المدارس والمعاهد والتمريض، تتّجه النساء الآن إلى عصر التكنولوجيا والمعلوماتية والهندسة والطبّ، إضافة إلى دخول مجال الطيران وقيادة الباصات، والإشراف على طاقم عمل كبير مؤلّف من رجال ونساء معاً، وإمتهان الرياضات القاسية.
فبات عمل النساء في مختلف المجالات الموسيقية والفنية والطبية والأمنيّة والتجميلية والعلمية والرياضيّة من دون تفرقة.
يختم عجمي: « إنّ الإتكال على الـ Body Image والتقيّد بالدور المرسوم سلفاً للنساء بات من الماضي، إذ أصبحت المرأة تتحدّى الرجل في عقر داره وتنافسه، ولا شيء يمنعها من التفوّق عليه حتى في بعض الأحيان.
كثيرات هنّ الآن نساء ناجحات، أفراد مجتمع، بارعات في عملهنّ، متخصّصات، متمرّسات، مخضرمات في مهن كانت محرّمة عليهنّ مثل الهندسة المعمارية والعمل في الورش، وتولّي قيادة وسائل النقل المختلفة كالطائرة والتاكسي، والإهتمام بالأمن والمصلحة العامة مثل الشرطيات وموظفات الأمن، والقيام بالأبحاث والإختراعات العلمية والتكنولوجية...».
ويدعو يعقوب إلى «التعامل مع الغير على أساس جوهره، متناسين القشور والعوائق الخارجيّة، وواثقين بالمقدرة والكفاءة».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024