الكتابة خارج الوطن... إبداع أم معاناة؟
الكتابة هي فعل حياة، وفي مواجهة وطن ينزف يومياً ويموت تدريجاً، يتشبّث الكتّاب بأقلامهم ويرفعونها في وجه أسلحة مدمّرة من العيار الثقيل.
سلحة تقتل أبناءهم وآباءهم وذكرياتهم وأحلامهم... هذا هو حال الكتّاب السوريين الذين ظلّ بعضهم داخل سورية مُصرّين على تحدّي مأساة وطنهم بالكتابة، فيما اختار بعضهم الآخر أن يترك وطنه، مجبراً، ليعيش تحدياً من نوع آخر. إنّه تحدّي الكتابة خارج الوطن...
لينا هويان الحسن: روائية سورية تُقيم في لبنان
غربتي عن سورية وطدت علاقتي بالكتابة... والخيل
الأدباء الذين يعاصرون الحروب ويعيشون المآسي الشديدة الإيلام، هذا بالضبط ما يجعلهم يقدّرون الحياة، لأنها تخصهم بعداوتها دون سواهم.
وهذا ما يحدث مع الأديب السوري تحديداً رغم أنّ كل الدول العربية تعيش ظروفاً عاصفة. لكنّ الوضع السوري يعتبر الوضع الأكثر تأزماً ودماراً ودموية.
ابتعدت عن وطني مرغمة، غادرتُ دمشق، ولم أعد أحظى بزيارة قريتي أو أقاربي. اكتشفتُ كم كانت الحياة سهلة وسعيدة في السابق.
أذكر أني ذات مرة أردتُ كتابة الفصل الأخير من روايتي «سلطانات الرمل»، وظلت الخاتمة عصيّة على قلمي حتى زرت قريتي النائية في البادية وتجولت بين أروقة قصر «ابن وردان» الأثري.
ومخطوطة كتابي «رجال وقبائل» فكرتُ فيها خلال رحلة قمت بها إلى حلب وأمضيت أياماً ساحرة في أحيائها القديمة.
وأمام أحد الفنادق القديمة ذُكر لي أنه هناك اغتيل شيخ قبائل الحديديين «نواف الصالح» على إثر خلافه مع أمراء الموالي.
وكثير من النصوص التي نُشرت في مجموعتي الشعرية «نمور صريحة»، كتبتها خلال الاجازات الطويلة التي كنتُ أمضيها في الساحل السوري الساحر المتاخم للحدود التركية.
الشيء الأساسي والذي لا يسعني إنكاره الانعكاس الرهيب للظروف السورية على قلمي، فقد أنجزت خلال سنة واحدة في لبنان روايتين ومخطوطات عدة إضافة إلى كتابة المقالات الصحفية، أيضاً قرأتُ كل ما وقع بين يدي من كتب.
كنتُ في الشتاء الماضي في قرية لبنانية جبلية، وعندما حاصرتني الثلوج لعدة أيام قمت بإنجاز مخطوط لرواية أردت كتابتها منذ زمن. بطلتها فتاة سورية أمها روسية. وسميت البطلة «أولغا» لأنّ اللبنانيين أطلقوا على تلك العاصفة الثلجية اسم «اولغا».
ومنذ أشهر وأنا أستغلّ جمال الطبيعة حولي في مدينة «عاليه»، فأمارس رياضتي المفضلة «المشي»، وقد أضفت إليها «ركوب الخيل»، ولا أسمي نفسي فارسة أبداً لأني لن أكون فارسة محترفة.
فقط أحب رفقة الخيل لأنها تحفزني على الكتابة، لأنّ أعمالي كلّها مليئة بقصص فرسان البدو وأفراسهم، لهذا قررت الاقتراب من هذا الكائن الجميل بهدف إنجاز نص بدوي تتمحور حكايته حول فرس كانت شهيرة في البادية السورية. كل ما يحدث الآن اعتبره امتحانا أليما لقدراتي الأدبية ووحده الزمن سيقرر جدارتي أو العكس.
هيثم حسين: كاتب سوري يُقيم في اسطنبول
الوطن داخل كتابتي وأنا خارجه
برغم أنّ الإقامة الإجباريّة خارج الوطن منحتني حيّزاً أكبر من حيث حرية الكتابة، إلّا أنّ الكتابة في الوطن لها طعم آخر ونسبة التحدي فيها أكبر. توقن أنّ كلمتك تتجاوز «القيود».
في رحلة الاغتراب فقدت بهجة ذاك التحدّي. وتحوّل الاغتراب المفترَض عن الكتابة إلى تصالح مع الذات، كما اكتسبت المفاهيم معانيها الحقيقيّة.
مع كلّ ارتحالٍ أحاول تهيئة الأجواء للانطلاق من جديد، وتكييف نفسي على مهادنة الأمكنة التي ألجأ إليها، أستعين بالذاكرة لتكون زوّادتي في رحلة النزوح المستمرّة، والوطن هو دوماً محرّك الذاكرة ومحورها.
في إسطنبول التي تعدّ جزراً من البشر والمدن معاً، يسكن الوطن كتابتي، لم أحاول بعد خوض عالم إسطنبول إبداعيّاً، برغم أنّها مدينة محرّضة تغوي بتميّزها وانفتاحها.
الكتابة الإبداعيّة مسكونة بعالم الوطن، منحني الابتعاد عن المكان تماهياً أكثر في تفاصيله، أجد الوطن داخل كتابتي وأنا خارجه.
صحيح أنّني فقدت في «سياحاتي الاضطراريّة» بين عدّة مدن حميميّة الاستقرار وشعور الأمان اللذين يعدّان من أهمّ ضرورات الإبداع، إلّا أنّني حاولت اكتساب شغف الكتابة على نيران الغربة وعلى موسيقى الأشواق التي لا تهدأ إلى لحظة العودة المنشودة.
مها حسن: روائية سورية مُقيمة في باريس
الكتابة هي وطن الكاتب
إن أحد الأسباب الأساسية لمغادرتي سورية (قبل الأحداث الأخيرة بسنوات) كانت البحث عن محيط آمن للكتابة، فقد اعتبرت كتابتي وأنا كياناً واحداً، وبسسب التهديدات التي وقعت عليّ ككاتبة وامرأة معاً، شعرت أنني بحاجة إلى الهرب بكتابتي، لحمايتها، وحمايتي، وجاءت فكرة السفر إلى فرنسا، كملاذ للكتابة.
لايمكنني ادّعاء الضحية في الغرب... الغرب فتح لي آفاقاً واسعة من التعبير، وقدّم لي الخبرات التي أثرت كتابتي، فرواية «حبل سري» مثلا، التي وصلت إلى اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية، كتبتُها في فرنسا، واستندتُ في تيماتها الأساسية على علاقتي بمفهوم المنفى وبخاصة منفى المرأة، وشاركت في ملتقيات دولية حول الكتابة في المنفى، وتوصلت إلى خلاصة أن وطن الكاتب هو كتابته.
علاقتي بسورية اليوم هي علاقة أخلاقية وإنسانية، ولا تتعلق بموقفي من الكتابة. أحترم مطالب الشعب السوري المشروعة في الحرية والعدالة والكرامة، ولكن هذا لا يعني أنني عانيت خارج سورية على مستوى الكتابة، بالعكس، تم قمع كتابتي في سورية.
لكنّ فرنسا حققت لي، وهي وطني الثاني، الأمان والحاضنة النفسية لأتمكن من ممارسة نزقي الأدبي، وحتى تجربتي المترفة إبداعياً.
أما فيما يتعلق بالاغتراب، فأعتقد أنه أمر ملازم للكاتب، فهو لا منتمٍ بطريقة أو بأخرى، ويحمل معه اغترابه أينما حلّ، لأن انتماءه الأكبر لكتابته وشخوصه وعوالمه الميتافيزيقية، المنفصلة ـ المتصلة، بإشكالية يصعب تلخيصها، عن الواقع.
عليّ أن أكون أكثر وضوحاً وابتعاداً عن الوصفات المفترضة سابقاً، لم أعانِ في الغرب، ككاتبة، أكثر مما عانيت في سورية، بل إن التجربة الغربية أضافت لي الكثير من الخبرات التي وظفتها في رواياتي، ووسّعت من الفراغ المكاني في الكتابة مثلاً، لتكون «حبلاً سرياً» مجدداً، وكذلك «طبول الحب»، وغيرها، قصص وأحداث تدور في باريس وحلب وأمستردام وغيرها....
سورية هي وطني الأول، بحكم البيولوجيا. وفرنسا وطني بحكم الاحتواء. إلاّ أنّ وطني الحقيقي والأزلي هو روايتي، وأي مكان في العالم، لا يحقق للكاتب أمن الكتابة، لا يستحق أن يوصف بالوطن.
رنا زيد: شاعرة فلسطينية- سورية تُقيم في بيروت
بيروت مدينة متمنعة وأعيش فيها غريبة
لطالما تطلعت إلى بيروت، كمدينة آسرة ومحرضة، غريبة وعجائبية، فيها سحر الكتابة والطباعة، والوجوه المثقفة... كنت من فترة إلى فترة أخرى، أقفز إليها، كاللصة، أسرق الفرح وأعود إلى دمشق.
اليوم أنا أعتبر أنّ أي مكانة أو أهمية لي ككاتبة، هي مكانة مقترنة مع دمشق، والتواجد فيها. إنها اللون الذي يتلوّن به أسلوبي، وهي المكان الذي يحفزني على الكتابة.
كنت أقرأ وأكتب، تحت وطأة الرصاص، والأصوات المرعبة، لم أكن أهرب من هذا الضجيج والعنف والذل، إلا بالكتابة. الآن أنا في بيروت، أمنيتي قديمة بأن أكون في بيروت، لكنني، غريبة مغتربة.
وبيروت مدينة متمنعة، بالرغم من أنها تفتح الأبواب برقة، تبقى متمنعة وعصية. فهي مدينة ناضجة، بينما دمشق مدينة نائية ووديعة... بيروت الجميلة، نافرة من المكتئبين مثلي، إنها مدينة للغنج والمرح، لكنها مدينة جديرة بالتأمل، ووحده بحرها «الملغز»، قادر على فهم تخبطي وترددي، إنه يحاورني في السرّاء والضرّاء، بحر للجميع، وإن كان مسوراً، البحر في بيروت مدخل مهم للإحساس بالنص والحرف والكلمة، وهو نهاية وبداية المدينة.
كلما امتنعت عني الكتابة، زاد امتناعي عن الدخول في تفاصيل بيروت، كي لا أعود بخيبات عن تفسير ذاتي، مجدداً، أنا القروية المنتمية إلى مدينة للبسطاء والدراويش، كما مدينة دمشق، مدينة للصمت المطبق، صمت يتبعه موت.
المشي في بيروت محدود، ليس كما دمشق، المشي محرض على الكتابة، لأنك حين تتعرف على الزوايا والأرصفة، تغتني بغرابة المكتشف، فيخرج المدلول النصي. المشي هو مسبب للشعر، وأنا غريبة، حركتي محدودة في بيروت. لكنّ بيروت كريمة، تعطي في كل مرة، كيلومترات جديدة، ثابتة لا متحركة، وصفحات معناها لا يموت.
إيلي عبدو: شاعر سوري يُقيم في بيروت
بيروت أفلستني شعرياً...
علاقتي بوطني تكاد تنعدم. هي علاقة، باتت جدلية متحوّلة. تحوّل الصراع إلى معارك عسكرية ، طائفية، وعرض بلادي على طاولة المساومات الدولية جعلاني أفقد الأمل وأبحث عن وطن بديل أستطيع فيه أن اكون شاعراً وليس مقاتلاً.
منذ وصلت إلى بيروت وأنا أحاول التدرّب على الإندماج في تفاصيل هذه المدينة الصعبة. لقد أتعبتني بيروت وأغرقتني في انشغالاتها اليومية، جئت إليها ومعي مخطوط ديواني « كابتسامة بطيئة مثلا» الذي صدر قبل عامين.
والآن لا أملك شيئاً. هذه المدينة على نقيض ما يشاع عنها، أفلستني شعرياً. الشعر نفسه بات موضع تساؤل بالنسبة إليّ.
ما جدواه في ظل هذا الموت الكثيف؟ هل عليّ أن أتمسك بموهبتي أم أبحث عن وسيلة إبداعية أخرى؟ الغربة وضعتني أمام مواجهات مفتوحة مع ذاتي على الصعيد الكتابي طبعاً، هل أكتب سياسة أو نقد أو أظل وفياً لموهبتي الشعرية؟
كم تبدو هذه الأسئلة متشابكة ومعقدة ولا تحمل أي إجابات، هذه هي الغربة بالنسبة إلي، إنّها أسئلة بلا أجوبة... على عكس الوطن الذي لا يكفّ عن تقديم الأجوبة.
من جهة أخرى ، الغربة عندي أفضل من الوطن الغارق بالدماء. وعندما تكون أوطاننا سيئة ، لا بد أن نؤمن بالغربة ، ونثق بها ، ولا نكتفي ببلد واحد نرحل إليه، بل بلدان عدة بحيث نذهب أبعد ما يمكن عن أوطاننا لنشفى منها ونتحرر من عبء الأجوبة الصارمة.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024