تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

الطفل المعنَّف راكان: أنا الوحيد الذي أتعرض للضرب والحرق دون أخواني

بين من يصف حالته بـ«النادرة» ومن يُشير إليها بأنها حالة عنف طبيعية، يبقى السر في حل هذا اللغز غامضاً. فالطفل راكان  الذي يبلغ من العمر تسع سنوات رقم جديد تسلمته دار الحماية قبل أيام في واحدة من أبشع حالات العنف الأسري التي شهدتها محافظة جدة. تعرض الطفل لحروق خطرة من الدرجة الثالثة في مناطق مختلفة من جسده، نتيجة حرقه بماء ساخن، وإجبار والده إياه على البقاء في دورة المياه لأكثر من 10 أيام، دون طعام سوى كِسرة خبز، والقليل من الماء، مع التفنن في حرقه، فتارة بالشاي وتارة بالماء الساخن، إلى جانب استخدام الأدوات الحادة لضربه وتعذيبه، بحسب ما وصف الجد. علامات استفهام كثيرة تدور حول القضية أثيرت أثناء العمل على التحقيق: لماذا يعامل الطفل بعنف ولا يقع ذلك على بقية الإخوة؟ لماذا تسكت الأم على تعذيب الأب لابنها؟ هل الطفل ابنهما؟ إلى من ستؤول تربية الطفل ورعايته بعد خروجه من المستشفى؟ «لها» زارت الطفل راكان في مستشفى الملك فهد في جدة، للوقوف على حالته. فكان هذا التحقيق.


راكان: ما زلت أحب والدي، لكنني لا أعرف سبب تعذيبه لي وتهديده برميي في الشارع

في البداية رفض التحدث معنا، ولكن لاحقاً بدأ يرد على أسئلتنا بعصبية، فاقتربت منه «الخالة شيماء» وهي إحدى الاختصاصيات الاجتماعيات من دار الحماية  المُكلفة بالبقاء معه ومرافقته في المستشفى، فنجحت في جعله يهدأ ويبتسم قبل أن يقول: «اسمي راكان متعب، عمري تسع سنوات، لا أذهب إلى المدرسة، فوالدي منعني من الذهاب إلى أي مكان، وهو يضربني ويحرقني بالماء الساخن منذ أن كنت في الثالثة. أنا الوحيد الذي أتعرض للضرب والحرق في المنزل دوناً عن أخواني».

اليد اليسرى لراكان تحمل آثار حروق قديمة وحديثة وعند سؤالنا له متى تعرضت لهذا الحرق ومن سبب لك ذلك، أجاب: «منذ ما يقارب الشهر تعرضت لحرق على يد والدي، إضافة إلى سكبه للماء الساخن على رأسي ويدي، وهناك حروق قديمة في يدي اليمنى نتيجة سكب والدي الشاي الحار على جسمي ويدي».

وأضاف: «ما زلت أحب والدي، لكنني لا أعرف سبب ضربه وحرقه لي، فعندما كنت أتعارك مع أخواني كان يُمسك بس ويحبسني في دورة المياه لأكثر من 10 أيام ويأتي لسكب الماء الساخن عليّ، ويترك لي الماء وقطعة خبز صغيرة، وعندما أشعر بالنعاس كنت أنام في دورة المياه. وكان يهددني بأنه سيرميني في الشارع».

راكان الذي لم يُسجل في المدرسة، ولم يُضفه والده إلى بطاقة العائلة، ولا يملك إثبات هوية، كشف أنه يتعرض للعنف من دون أن تُحرك والدته ساكناً.


عبد الله: لا أدري ما اللذة التي كان يشعر بها ابني في تعذيب هذا الطفل!

قال جد الطفل عبد الله مبارك إن راكان هو أكبر أخوانه، ومنذ ولادته كان هناك «بُعد بينه وبين والده، وكنت متابعاً أمره منذ البداية وطلبت من والده أكثر من مرة أن يسمح لي بأخذه وتربيته، لكنه كان يرفض. وكنت قد سمعت من زوجتي (طليقتي) بأن متعب يعذّب الطفل وعليك أن تجد الحل. كان يتهرب مني كثيراً ولا يتجاوب معي».

حصل الأب على وظيفة في مجال العقارات، وكان الغرض من إيجاد الوظيفة استدراجه بحسب ما ذكر الجد قائلا: «أمامي لم يكن يستطيع الاقتراب من ابنه أو ضربه، وكانت فكرة إيجادي وظيفة له وسيلة لأخذ راكان منه، لكنه كان يرفض... ولا أدري ما اللذة التي كان يشعر بها ابني في تعذيب هذا الطفل. لا اعتقد أن ابني مريض أو يعاني أي خلل نفسي، فمن يذهب إلى عمله صباحاً ويحادث الناس ويختلط بهم ، ليس مريضاً بل يتمتع بكامل قواه العقلية، حتى انه ليس عصبياً، ولا أدري سبب تعامله مع هذا الطفل بعنف دون أخوانه، وأتمنى أن يقنعني بالأسباب لكي أقف في صفه. لا أدري ما السر في قلبه».

صمت الجد ونظر إلى الطفل، وربّت على رأسه، ثم قال: «كل من يشاهد راكان يشعر بالحزن الشديد، لماذا هو فقط من يتعرض لهذا التعذيب والحرمان؟ هناك سر لا يعلمه سوى الأب. كنت أسأل راكان دائماً عندما تكبر ماذا تريد أن تصبح، فكان يُجيبني بأنه لا يريد أن يصبح شيئاً، لكنه يتمنى أن يكون لديه ساطور لقتل والده ووالدته».

قبل أن يلجأ الجد إلى دار الحماية، حاول التقرب من ولده مرة أخرى وأعاد طلب احتضان راكان، إلا أن الأب رفض رفضاً قاطعاً: «عانيت لأصل إلى منزل ابني، فكل ما عرفت له طريقاً أو عنواناً أو حتى وسيلة اتصال، غيّر مكان إقامته ورقم هاتفه، واختفى عن الأنظار. إلى أن وصلت إليه أخيراً، وتحدّثت مع إمام مسجد قرب منزله وأخبرته بأني أرغب في التحدث مع ابني دون اللجوء إلى أي جهة خارجية رغبة مني في احتضان الطفل، إلا أن ولدي رفض وساطة الإمام، فذهبت إلى لجنة العنف الأسري في دار الحماية التابعة للشؤون الاجتماعية، وقدمت شكوى، وأخبرتهم بأن هناك طفلاً يتعرض لتعذيب على يد والده، الطفل هو حفيدي، والوالد هو ابني».

وجهته لجنة الحماية وعرفته على الآلية الواجب إتباعها، وبمجرد كتابة الشكوى تمت الاستجابة. «وبعد يومين، اتّصلت بي الشرطة، وعندما وصلت لجنة الحماية الاجتماعية الى باب منزل ابني، لم يتجاوب إلا بعد فترة طويلة وتهديد بكسر الباب».

 وأشار الجد الى أنه سأل ولده مرات عديدة عن سبب سكب الشاي الحار على جسد طفله راكان، ليجيبه الابن بأن راكان سحب الملابس الداخلية لأخته الصغيرة، ليرد الجد معلقاً: «وإن كان هذا الأمر صحيحاً، ما الذي يجعل طفلاً في التاسعة يُدرك معنى ما يفعله لطفلة في الرابعة؟ حتى أن والدته سبق وأن أخبرت زوجتي الحالية بأن راكان تحرش بها وهو في سن ثلاث سنوات! ومن الطبيعي أن لا تُصدق تلك الروايات. وأجزم بأن الأب والأم يريدان أن يقتلا الطفل دماغياً، فولدي تحدث وتفاخر أمام بعض الأشخاص بأنه يريد أن يبيع كليتي راكان».

استطاعت لجنة الحماية الاجتماعية بالتعاون مع الشرطة، الدخول إلى المنزل، وأخذ الطفل وتوقيف الأب الذي لم يُبدِ أي مقاومة. وأوضحت المصادر الأمنية أن والد الطفل خضع للتحقيق أمام الشرطة ووزارة الشؤون الاجتماعية، لمعرفة الدوافع وراء التعذيب الذي تعرض له راكان في الأشهر الماضية.

الغامدي: عند التحقيق مع الأم كانت تدافع عن الزوج لا عن الطفل

من جهته، أوضح مدير وحدة الحماية في الشؤون الاجتماعية في جدة صالح سرحان الغامدي أن وحدة الحماية تلقت البلاغ من جد الطفل «وكان شديد الحرص على أن تتم الإخبارية بسرية تامة. وتم تبليغ شرطة جدة، وفي اليوم الثاني تم إبلاغ محافظة جدة، وحصل تواصل بين الشرطة والمحافظة. وقبضنا على الأب، وسحبنا الطفل من والدته».

تحدث راكان مع الاختصاصية النفسية والاجتماعية في وحدة الحماية، من ثم نقل إلى مستشفى الملك فهد لتلقي العلاج. «تلقى خدمة ممتازة في المستشفى، وعملت الحماية الاجتماعية على فرز ست اختصاصيات اجتماعيات لمرافقة الطفل الذي رفض أن يكون هناك أحد من عائلته مرافقاً له في المستشفى. وبعد الانتهاء من إجراءات قضيته والتحقيق مع والديه، سيودع إما في الشؤون الاجتماعية، وإما لدى جده، وهذا ما قد تُقرره الشؤون الاجتماعية».

وأشار الغامدي إلى أن هناك أسباباً خفية وراء ضرب الطفل وصمت والدته التي عند التحقيق معها كانت تدافع عن الزوج لا عن الطفل!


الناشري: فريق طبي يُشرف على حالة الطفل...

من جانبه، أوضح رئيس الخدمة الاجتماعية في مستشفى الملك فهد في جدة طلال الناشري أن المستشفى تسلّم حالة الطفل على الفور بواسطة فريق طبي مختص. وأضاف: «لم يصدر بعد التقرير النفسي لحالة الطفل راكان، لكنه اليوم في تحسن مستمر، وهو أفضل بكثير من الحالة التي دخل فيها المستشفى. فهو يتحدث مع الاختصاصيات بشكل جيد، وننتظر أن تتحسن نفسيته لنبدأ بالعلاج التجميلي معه إن شاء الله».

 

الحربي: إن كانا والديه بحق فراكان قصة نادرة في ملف العنف الأسري ضد الأطفال

من جانبها، ذكرت الاختصاصية الاجتماعية في مستشفى الملك فهد في جدة هناء الحربي أن التعذيب المستمر الذي وقع على راكان أدخله في مراحل نفسية سيئة من ضمنها الاكتئاب: «في أغلب حالات العنف التي تصل إلينا، يتم طلب استشارة نفسية واختبارات نفسية. راكان كتب أحرفاً نقلاً عن كتاب للأذكار بخط رائع مع انه لم يدخل المدرسة. وهو يشعر بالأمان بوجود الاختصاصيات الاجتماعيات من دار الحماية  الاجتماعية اللواتي يوفرن له سبُل الرعاية ووسائل الاهتمام على أكمل وجه. راكان لا يطلب شيئاً فهو طفل حساس ومكسور من داخله، حتى عندما نجلس معه ونتحدث نخرج بعبارات قليلة منه بالقوة. فمنذ بداية دخوله وهو صامت لا يتحدث مع أي شخص، واعتقد أنه يرفض التحدث مع أي كان بسبب بحثه عن الأمان في وجوه كل من حوله، وهو الأمر الذي افتقده في منزل الأسرة. والجيد أنه بدأ يتجاوب معنا في المستشفى وبدأ الابتسام للوجوه من حوله والتحدث معنا مبدياً حرصه على ألا نغيب عنه».

وقالت الحربي إنها ومنذ اليوم الأول لدخول الطفل المُعنف راكان للمستشفى واجهت الجد الذي لا يُلام على تبليغه عما يحدث من عنف لحفيده، «لكنهُ يُلام على تأخره كل هذه السنوات. لم يأتِ الجد بكلام يقنعني، فتارة يتحدث عن وجود شُبهات حول نسب الطفل، وتارة يقول إنه ولده، وأخرى يتحدث عن محاولاته السابقة للتحدّث مع ابنه ليتمكن من الوصول إلى حل سلمي معه دون اللجوء إلى أي جهة قضائية، وغيرها من الأقاويل التي تختلف يوماً عن الآخر، ليبقى سبب تعذيب الطفل مفاجأة قد تكشفها التحقيقات في النهاية».

وحول تصنيف حالة راكان أشارت إلى أنه إذا كان الشخصان اللذان نشأ معهما والديه بالفعل، تكون قضيته نادرة، «لأني بصدق للمرة الأولى أشاهد عنفاً بهذه الطريقة على طفل من والده ووالدته. وهو أمر محزن للغاية ويُثير الكثير من التساؤلات: لماذا راكان فقط  يتعرض لهذا الضرب والحرق دون أخوانه وأخواته؟ كيف استطاع الأب أن يُرغم طفله على البقاء في دورة المياه لأيام تزيد عن العشرة لسبب لا أحد يعلمه؟ أين قلب الأم التي لم تكنّ تُحرك ساكناً؟ أين أنتِ من تعذيب طفل 9 سنوات متتالية دون أي شفقة أو رحمة؟».


العمري: حروق في مناطق مختلفة في جسمه، وآثار لضربات بالمفك والسكين

قال استشاري ورئيس قسم جراحة التجميل في مستشفى الملك فهد الدكتور حسين العمري أن الطفل تعرض لتعذيب على أيدي الأهل، وحروق في مناطق مختلفة  في جسمه، في ظهره ووجهه، إضافة إلى  آثار واضحة لضربات بالمفك والسكين، وبالآلات الحادة في مناطق كثيرة من جسده. ويعاني الطفل حروقاً بالغة في منطقة الظهر والأيدي والأرجل، وهي من الدرجة الثالثة. هناك حروق قديمة وأخرى حديثة، وهناك مناطق مختلفة من جسده، ويعتقد أن والده كان يُطفئ السجائر في ظهره.

وأضاف العمري: «من الضروري أن يُعرض الطفل على اختصاصي نفسي قبل البدء بالعلاج التجميلي، لأن الحالة النفسية تكون أكثر إضراراً من الإصابة الجسدية».


التميمي: سيتم استخراج هوية وتسجيله في المدرسة

أوضح مساعد  رئيس الخدمة الاجتماعية في مستشفى الملك فهد في جدة وليد التميمي الذي استقبل حالة الطفل المعنف راكان بعد أن وصلت عن طريق الطوارئ، قائلاً: «شاهدت الطفل برفقة الشؤون الاجتماعية، وتم الاستفسار عن وضعه وحالته. وكما جرت العادة يتُوقع أن نشاهد الطفل باكياً أو متألماً، لكنني رأيت راكان رغم جروحه وكدماته وجسمه المشوه، مبتسماً، واعتقد أن الفضل يعود بعد الله الى الاختصاصيات الاجتماعيات من الشؤون اللواتي قمن بعملهن على أكمل وجه، واستطعنا توفير الحماية والأمان للطفل في وقت قصير جداً».

 ووصف التميمي حالة الطفل عند دخوله إلى المستشفى قائلاً: «شعرت بأنه لا يريد العودة الى المنزل، فهو كالغريق الذي يتعلق بأي قشه للحماية والابتعاد عما قد يزيد من الأذى والألم. واجهتنا في البداية مشكلة وجود أسرّة لتنويم الطفل، وتم التحدث مع المدير المناوب، وبجهوده المشكورة تم توفير السرير، لتواجهنا مشكلة إيجاد المرافق وهي مشكلة كبيرة لأن الحالة هي لطفل يبلغ من العمر تسع سنوات ومعنَّف ويحتاج إلى مرافقه، حاولنا الاتصال على الجد، فأخبرني بأنه مرتبط مع زوجته في مستشفى آخر، وأخبرته بأنني في انتظاره. تأخر الجد عن الحضور، لذلك ارتأت الشؤون الاجتماعية مرافقة هذا الطفل من خلال توفير اختصاصيات اجتماعيات للتناوب على الاهتمام بالطفل».

وأضاف التميمي: «الغرض الأول من استقبال الحالة علاجي، ومن ثم اجتماعي وهو توفير الأمان لهذا الطفل المعنَّف الذي يفتقد الأمان من داخل مكان يجب أن يوفر له، وهي الخطوة الأولى التي عملنا عليها. أما الخطوة الثالثة فهي عمل الجهات  التنفيذية كالشرطة والأمارة والتحقيق والادعاء العام والإعلام لمساعدة الطفل وإنقاذ المجتمع من تكرار حالات العنف على الأطفال».

وأكد أن حالة الطفل راكان لا تصنَّف من الحالات النادرة لأن غيرها من الحالات قد «تحدث لكنها لا ترتقي إلى مستوى الظاهرة أو المشكلة في المجتمع السعودي، وهذا من وجهة نظر شخصية، إلا أن هناك أسباباً ودوافع لا نعلمها قد تُغير مجرى التحقيق والنتائج. وقد وصلت معلومات غير موثقة أخلاقياً، ولا نستطيع الجزم بأن ما قيل صحيح أم لا. فحالة الطفل ما زالت تُدرس بين الشؤون الاجتماعية والخدمة الاجتماعية في المستشفى، واستحضار كل الأطراف، سواء الأم أو الأب أو الجد، لأنهم مصدر المعلومات الحقيقة في هذه القصة».

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079