تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

هل الأب ملزم شرعاً بتجهيز ابنته للزواج؟

أثار اختلاف بعض الأحكام القضائية التي صدرت أخيراً حول مسؤولية الأب عن تجهيز ابنته جدلاً فقهياً بين علماء الإسلام الذين انقسموا إلى فريقين، أحدهما يؤيد وجوب تجهيزه لها شرعاً، في حين تحفظ آخرون عن الإجبار المطلق للأب بتجهيز ابنته، خاصة بعد بلوغها السن التي لا تلزمه الإنفاق عليها، ولكل منهما أدلته الشرعية التي يستند إليها، فماذا قالوا؟


بدأت القضية بحكم لمحكمة استئناف الأسرة في القاهرة، بإعفاء أحد الآباء شرعاً وقانوناً من تجهيز ابنته، مستندة بذلك إلى الشريعة الإسلامية، حيث أكد الإسلام إسناد تلك التكاليف على العريس من خلال مقدم الصداق أو المهر.
وأضافت المحكمة، فى حكمها الصادر برئاسة المستشار محمد عزت الشاذلي، أن الزوج ملزم بتحمل نفقات زواجه، وهو ما يدفعه لأهل العروس من مهر، على اعتبار أن ما يشتريه الزوج من منقولات وخلافه هو في النهاية لتجهيز مسكنه وفقاً للمذهب الحنفي الذي يتم على أساسه الزواج في مصر، كما أن القانون ليس فيه ما يجبر الأب على تجهيز ابنته، خاصة مع بلوغها السن القانونية.

ويرجع السبب في تناول المحكمة هذه القضية وإصدارها هذا الحكم في الدعوى، أن خلافات مستمرة نشأت بين الأب والأم انتهت بالطلاق، وترك الأب منزل الأسرة وتحملت الأم نفقات أبنائها، إلى أن تقدم أحد الأشخاص لخطبة ابنتها وتحمل الشقيق الأكبر جميع تكاليف زواج شقيقته، وبعدما علمت الابنة أن والدها ميسور الحال طالبته برد ما أنفقه شقيقها لكنه امتنع.
 لكن في قضية أخرى، أصدرت محكمة استئناف القاهرة لشئون الأسرة بالتجمع الخامس برئاسة المستشار محمد عرفة، حكما بإلزام «أب» بدفع مبلغ عشرين ألف جنيه لابنته مساعدة لها لإتمام زواجها.

وأشارت الابنة إلى أنها أنفقت هذه المبالغ في شراء مستلزمات وتجهيز زواجها، وقدمت لهيئة المحكمة الفواتير الدالة على ذلك، وطالبت القضاء بإلزام الأب بأن يؤدي لها المبالغ التي أنفقتها على جهازها ومستلزمات الزواج.
وقالت المحكمة إن إلزام الأب بالنفقة على ابنته إلزام أصيل مقرر شرعاً وقانوناً، وبما يكفي حاجتها ويليق بها وبمن هن في مستواها الاجتماعي والأدبي والمادي، خاصة أن تجهيز الابنة للزواج هو من أهم واجبات «الأب»، بل هو اليوم والمناسبة التي ينتظرها كل أب، ليرسم البسمة على وجه ابنته ويمد لها يد العون والمساعدة بكل ما أوتي من مال إلى أن يتم زفافها إلى زوجها، وبعد ذلك تسقط عنه نفقتها التي تنتقل إلى الزوج.


سبب الاختلاف

عن سبب هذا الاختلاف في الأحكام القضائية في قضايا متشابهة، قال الدكتور أحمد حسني، عميد كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر: «لا شك أن خلو قوانين الأحوال الشخصية من النصوص القاطعة في مسألة التزام الأب وإجباره على تجهيز ابنته في حالة زواجها، يعد قصوراً في التشريع، خاصة أن ذلك الالتزام بإعداد جهاز الابنة للزواج يختلف عن الالتزام بالنفقة، لأن النفقة المقصود بها ما يدفعه ولي الأمر أو الراعي لرعيته من غذاء ومسكن وملبس وعلاج وتعليم، ولما كان ذلك فإن الواجب تطبيقه في هذه المسألة الراجح في مذهب الإمام أبي حنيفة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته».

وأوضح حسني أن حكم تجهيز البنت عند زواجها يشترط ألا يتم من المهر المدفوع لها، لأن المهر ملك خالص للبنت تفعل به ما تشاء، كما لا يجوز في الوقت نفسه إجبار الأب على تجهيز البنت، وإذا تبرع الأب وجهز ابنته البالغة من ماله فإن الجهاز المتبرع به أصبح ملكاً خالصاً للبنت، لأن الجهاز في كل الأحوال ملك خالص للبنت، والأصل في الالتزام بتجهيز ابنته التبرع وليس الإجبار.
وأنهى حسني كلامه بأن العرف الجاري أن يتقاسم العروسان كلفة الجهاز، ويتم تحرير قائمة بمنقولات الزوجية للمرأة، وتصبح تلك المنقولات التي لدى الزوج على سبيل الأمانة للاستعمال فقط، وتستردها الزوجة متى طلبت ذلك في حالة الطلاق.


علاج القصور التشريعي

 وحث الدكتور محمد المنسي، أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، المشترع على التصدي لجوانب القصور التشريعي، بسن نصوص واضحة وصريحة لا تقبل الاختلاف، بإلزام الأب بتجهيز ابنته بما يليق بها وما يتناسب مع حالته المالية ومستواه الاجتماعي، وذلك بالتفاهم بينه وبينها وبين أسرة الزوج، مع العلم أن المهر ملك خالص للابنة ولا يجوز إجبارها على تجهيز نفسها منه، وفي حالة قيامها بتجهيز نفسها يعتبر ذلك ديناً في ذمة أبيها حسب حالته المادية يسراً أو عسراً، دون إغراقه في الديون.
وأوضح الدكتور المنسي أن جمهور الفقهاء يرون أن تجهيز الزوجة يكون على الزوج مع دفع المهر، لأنه مكلف شرعاً بإعداد مسكن الزوجية، وليس لها حق في هذا الجهاز. لكن المشكلة أن العرف جعله يستبدل المهر بتجهيز بيته وكتابة قائمة المنقولات باسم الزوجة، على أن تقوم أسرة الزوجة بتحمل جزء من التجهيز حسب الاتفاق بينهم بالتراضي.




هناك فرق

وفرقت الدكتورة فايزة خاطر، أستاذ الفقه بكلية الدراسات الإسلامية بالزقازيق، بين تجهيز الابنة الطائعة لوالدها التي تتخذ منه ولياً شرعياً لها، وتحرص على رضاه لأنها تؤمن بقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا زواج إلا بولي وشاهدي عدل»، وبين بعض البنات اللواتي يضربن بكل الشرائع والأعراف عرض الحائط، ويقعن في عقوق الوالدين، حتى أنها قد تتم خطبتها وإجراءات زواجها بدون علم والدها، ولا تحرص على إرضاء أبيها وأمها، فهل بنت بتلك الصفات تستحق أن تجبر المحكمة والدها على تجهيزها؟

وأشارت الدكتورة فايزة إلى أن الزوج ملزم بالمهر والأب ملزم بتجهيز ابنته، على أن تتم كتابة هذا الجهاز باسم الزوجة، فإن هذا التجهيز يجب أن يهتم أولاً بالأساسيات ثم الكماليات أو غير الضروريات، فإن عجز الأب عن توفير الكماليات فليس آثماً شرعاً، وخاصة أن هذه الكماليات أصبحت في عصرنا أكثر تكلفة من الأساسيات، والسفه في التجهيز أمر مخالف للشرع ومرفوض عند العقلاء والملتزمين بشرع الله، وعلينا أن نتأمل مظاهر التيسير الإسلامي في الزواج، بداية من دفع المهر فقال، صلى الله عليه وسلم: «أقلهن مهراً أكثرهن بركة»، وبالتالي فإنه طالما كانت الزيجة ميسرة في المهر والتجهيز، فلن تحدث مشكلات، أما الجشع فهو السبب في كثير من المشكلات التي تجعل الزواج أمراً عسيراً، وإذا تم فهو بلا بركة.


التوسط في التجهيز

وأوضحت الدكتورة مهجة غالب، عميدة كلية الدراسات الإسلامية، وجوب إنفاق الأب على ابنته منذ الولادة حتى الزواج، وليس سن البلوغ كما يظن البعض، حيث تجب عليه النفقة عليها بعد بلوغها حتى الزواج، لأن البنت قانوناً لا تسقط نفقتها من على عاتق أبيها إلا في حالة زواجها، حين تنتقل النفقة إلى عاتق الزوج، والدليل على ذلك أن البنت بعد زواجها إذا طلقت عادت نفقتها على أبيها مرة أخرى.

 وتضيف الدكتورة مهجة: «لا يجوز إغراق الأب في الديون من أجل تجهيز ابنته حتى تتشبه بمن هم أعلى منها في المستوى المادي، وإرضاء لطموحاتها التي قد تفوق مستوى أسرتها المادي، وإنما يجب أن تتناسب تكاليف الزواج مع المستوى المادي للأب دون إفراط أو تفريط، لأن المبدأ الشرعي قررته الآية الكريمة: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...» آية 286 سورة البقرة. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، وفي نفس الوقت لا يجب أن يكون الأب بخيلاً في تجهيز ابنته، لكن خير الأمور الوسط، لأننا أمة وصفها الله بذلك، حيث قال: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» آية 143 سورة البقرة».


البعد عن المحاكم

واتفقت معها في الرأي الدكتورة آمنة نصير، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية في الإسكندرية، حيث أوضحت أن التفاهم والحوار هو خير وسيلة لحل أي خلاف بين الأب وابنته، ولا يجب أن يصل الأمر إلى ساحات المحاكم، لأن هذا يؤدي إلى توتر العلاقة بينهما وقطيعة الرحم، ووقتها لن تجد المرأة داعماً ومسانداً لها إذا حدثت أي مشكلات مع زوجها.
ونصحت الدكتورة آمنة الآباء أن يقوموا بتجهيز بناتهم للزواج قدر استطاعتهم، وفقاً للمبدأ الشرعي الذي قررته الآية الكريمة في الحياة كلها، وليس في الطلاق فقط: «لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ َبعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا» آية 7 سورة الطلاق.

وفي الوقت نفسه يجب أن يتحلى الرجل الراغب في الزواج بالرأفة وعدم الطمع، وألا يحمل والد المرأة التي يريد الارتباط بها فوق طاقته، وكأنها صفقة تجارية، بل يجب عليه الالتزام بقوله تعالى: «وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» آية 32 سورة النــور.

 وأنهت الدكتورة آمنة كلامها باقتراح قيام الحكومات بإنشاء صناديق تساعد المتعثرين الراغبين في الزواج، بتحمل بعض نفقات التجهيز، مما يخفف من الأعباء الواقعة على المقبلين على الزواج من الجنسين، وهذه مسؤولية الدولة ويمكن تمويله من أموال الزكاة والصدقات والتبرعات، فإن لم تستطع الدولة هي الأخرى تأسيس مؤسسة تقوم بهذه المهمة، وجب على جميع القادرين من أفراد المجتمع المساعدة في تزويج من يعرفونه من أقاربهم أو جيرانهم دون خدش حيائهم، وإنما يجب أن يكون ذلك حسبة لوجه الله، مع التأكيد على أن القرآن الكريم والسنة النبوية يأمران بتيسير الزواج، حتى يستطيع المجتمع الإسلامي تزويج العزاب من الفتيان والفتيات، وعدم التخوّف من المستقبل الآتي، لأن الله كافلُ هذا الأمر إذا توكلتم على الله مخلصين، لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ حقٌّ على الله عَوْنُهم.. المُكاتب يريد الأداء، والمتزوج يريد العَفاف، والمجاهد في سبيل الله».


ضوابط شرعية

يؤكد الشيخ يوسف البدري، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، أنه لا يجب على المرأة أن تجهّز نفسها من مهرها ولا من غيره، وكذلك لا يجب على أبيها تجهيزها من ماله، بل يجوز لها شرعاً أن تُزفّ إلى دار زوجها بغير جهاز أصلاً أو بجهاز قليل، حتى وإن كان لا يليق بالمهر الذي دفعه الزوج، وليس لزوجها أن يطالبها ولا أن يُطالب أباها بجهاز، ولا أن يطالب أحدهما بتنقيص شيء من المهر الذي اتفقا عليه، لأنها بمجرد الزفاف إليه قد أدّت له جميع ما وجب عليها أداؤه في مقابل ما بذل من المهر، بالغاً ما بلغ، بل يجب على الزوج تجهيز بيته ويكون هذا الجهاز ملكاً له، أما لو جهّزت الزوجة نفسها من مهرها أو فعله أبوها فالجهاز الذي تُزَفّ به مِلْك خاص لها.
ويترتب على هذا ألا يكون لزوجها حقّ فيه، ويجوز أن ينتفع الزوج بجهاز زوجته الانتفاع الذي جرى به العرف، سواء أذنت له الزوجة في ذلك الانتفاع أم لم تأذن.

 وأنهى الشيخ البدري كلامه بنصيحة الأطراف الثلاثة في التجهيز للزواج، الأب والابنة والزوج، بالتفاهم في ما بينهم وعدم المبالغة في التجهيز، إلا إذا كانت الظروف المادية تسمح بذلك، وعدم تحميل أي منهم للآخر ما لا يطيق، فهذا يجعل الزواج أكثر بركة واستقراراً، بدلاً من اللجوء للمحاكم بين الابنة والأب ثم بين الأب والابنة والزوج، وإذا التزم الجميع بأحكام الشرع فلا مشاكل، لأنهم أدركوا أن الزواج ليس صفقة بل آية من آيات الله القائل: «وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» آية 21 سورة الروم.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079