لينا جبران والدة هادي: موت ابني الوحيد صالحني مع الموت ولم أعد أخشاه
قد يجد البعض أحياناً، خصوصاً الأولاد، أن قلق الأمهات الزائد على أولادهن، مبالغ فيه وقد يعتبرونه مزعجاً ويحدّ من الحرية. فأي أم تنام قبل أن يعود ولدها سالماً إلى المنزل؟ يصعب أن يفهم أي كان مشاعر أمّ تخاف على أولادها من اي خطر قد يحدق بهم، سواء كان هذا القلق مبرراً أو لا تبرير له، وسواء كانوا أطفالاً أو راشدين. وأحياناً يحدثها حدسها بأن سوءاً سيحصل وينذرها قلبها بأن ثمة خطراً قد يصيب ولدها، وقد يصدق في أحيان كثيرة. هذه التجربة عاشتها السيدة لينا جبران التي فقدت ابنها الوحيد هادي في سن 18 سنة في حادث سير مروّع أودى بحياته.
خلال هذا الحادث، فقدت الأخ والابن والصديق. على أثر وفاة ابنها، وجدت لينا العلاج في جمعية «كن هادي» للتوعية على سلامة السير والقيادة والتي تسمح لها بتوعية الآخرين حتى لا يقعوا في الفخ فيقودوا سياراتهم بتأن أياً كانت المتعة التي يجدونها فيها، فبالسرعة قد يخسرون حياتهم أو جزءاً منها من خلال أي إعاقة قد تصيبهم. أنشأت لينا الجمعية أيضاً لأنها لا تتمنى لأي أم أن تعيش التجربة نفسها وتحس بما أحست به بفقدان ابنها. وفي الوقت نفسه، سمحت لها بالحفاظ على ذكرى هادي، فمن خلالها تتحدث عنه باستمرار وكأنه لا يزال موجوداً معها ويتذكره الكل من خلالها.
في ليلة 16-4-2006 ، التي صادف فيها عيد الفصح في ذاك العام، استمتع هادي بسهرة مع أهله في أحد المطاعم، حيث تتحدث والدته لينا كيف أنها رقصت معه وكانوا سعداء جداً في تلك الأمسية. بعدها عادت العائلة إلى المنزل فيما قرر هادي متابعة السهرة مع أصدقائه حتى ساعات الفجر الأولى. أما أمه، فقد اعتادت، كأي أم، أن تبقى ساهرة إلى أن يعود ابنها الوحيد بالسلامة إلى المنزل، خصوصاً أنها كانت تخاف عليه كثيراً. فقد اعتاد أن يرسل لها رسالة عبر الخلوي يطمئنها فيها الى عودته سالماً إلى المنزل، كونها كانت قد خصصت له غرفة في الطابق السفلي من المنزل ليستقبل فيها أصدقاءه بحرية عند رغبته في ذلك.
وفي تلك الليلة، أرسل هادي إلى والدته رسالة عبر الخلوي يطمئنها فيها ويؤكد أنه عاد بالسلامة إلى المنزل ليتركها تنام وترتاح، فيما تابع السهرة مع أصدقائه. نامت الأم مطمئنة وهي تجهل أن ابنها لا يزال خارج المنزل وأنها في تلك الليلة رأته ورقصت معه للمرة الأخيرة. فأثناء عودته إلى المنزل في الساعة السادسة صباحاً، وفيما كان يقود سيارة والد صديقه وصديقه جالس إلى جانبه وقد وضع كلاهما حزام الأمان بعد إصرار شديد من هادي، مرت دراجة نارية في عرض الطريق، فلم يتمكن هادي من السيطرة على السيارة التي يقودها للمرة الأولى، وبالتالي ليس معتاداً على قيادتها. ولكي لا يدهس الدراجة التي أمامه، انحرف إلى جانب الطريقة واصطدم بسرعة كبرى بأحد أعمدة محطة وقود موجودة هناك... فارق هادي الحياة على الفور على أثر نزف داخلي تعرّض له.
في ذاك الوقت كان أفراد عائلة هادي ينامون في المنزل لا يعلمون بما تعرّض له. بعد ساعات استيقظت لينا والدة هادي من النوم وبدأت ترسل رسائل المعايدة إلى العائلة والاصدقاء وتحضر للغداء الذي يقام في منزلها للمناسبة. عندها تلقى والد هادي اتصالاً يخبره بأن ابنه قد تعرض لحادث سيارة، لكن بطبيعة الحال، لم تصدق والدة هادي الخبر لأن ابنها ينام في غرفته وكان قد أرسل لها رسالة يؤكد فيها وصوله إلى المنزل. حاول زوجها إقناعها دون جدوى، إلى أن دخلا معاً إلى الغرفة ليكتشفا أن هادي لم ينم في المنزل. بدأت عندها حالة الهلع تسود بينهما، خصوصاً بعد تلقيهما اتصالاً من المستشفى يخبرهما بأن حالة هادي خطيرة وأنه لا بد من الحضور فوراً إلى المستشفى.
عن تلك التجربة تتحدث لينا والدة هادي قائلة: «خلال لحظات بدت وكأنها سنوات، ارتدينا ملابسنا وتوجهنا إلى المستشفى حيث قابلنا الطبيب الذي بدا متجهم الوجه وسألناه عن غرفة هادي، وعلى أثر صمته سأله زوجي «مات؟» أخذنا عندها إلى غرفة حيث انفجرنا بالبكاء رافضين تصديق ما حصل. فكل تلك الأمور، بدت وكأنها حلم. كان الأمر صعب التصديق وكنا بحالة يرثى لها لصعوبة الواقع ومرارته. توجهت إلى البرّاد حيث وضعت الجثة، وطوال ذاك الوقت، كنت أنتظر أعجوبة تعيد هادي إلى الحياة. رأيته أمامي جثة هامدة وأصررت على لمسه لأتأكد ما إذا كان قد مات فعلاً . انتظرت أعجوبة تعيده إلي، لكن ذلك لم يحصل وعرفت أني فقدت ابني الوحيد. وكانت تلك اللحظات هي التي قلبت حياتنا راساً على عقب ومن بعدها لا يمكن أن يعود شيئاً كما كان، مهما فعلنا وحاولنا».
إنذارات تنبئ قلب الأم
يقال عادةً إن قلب الأم ينذرها بأن خطراً ما قد يهدد ولدها. وهذه من الأفكار الشائعة التي نسمعها بكثرة والتي لا يمكن أن يعرفها إلا من يواجه وضعاً مماثلاً. كما نسمع الكثير عن إحساس معيّن يسبق الموت أحياناً. عن هذه الأمور تحدثت لينا بتأثر أم فجعت بوفاة ابنها: «ثمة أمور غريبة حصلت معي قبل وفاة هادي وكأنها رسائل من الله تنذرني بأن سوءاً سيصيبنا. فأذكر أنه قبل يومين من الحادث ذهبت لأصلي طالبة من الله حماية ابني. وحلمت أيضاً في الليلة نفسها بأنه قيل لي إن والدتي توفيت وعندما ذهبت لأصلي حضرت أمي وحضنتني ففوجئت عندما قالت لي انها لا تزال على قيد الحياة. ومن فسّر حلمي قال لي ان والدتي ستكون بخير لكن سوءاً سيصيب عائلتي. وفي اليوم الذي توفي فيه هادي، وقبل أن أعرف بوفاته، فيما كنت أحضر مائدة الغداء لمناسبة العيد، كنت أزيّنها وكأنها حفلة زفاف وأبالغ في التزيين حتى أنهم سألوني ما سبب كل ذلك ونحن لن نستقبل إلا أهلي، فأكدت لهم شعوري بأن هذا العيد سيكون مختلفاً».
وتذكر لينا ايضاً أنه في اليوم الذي توفي فيه هادي كانت قد تشاجرت معه وغضبت منه وكان يحاول أن يرضيها طوال الوقت، حتى تدخل آخرون وقالوا لها ألا تعامله بهذه القساوة وبالفعل رضيت عنه ورقصت معه خلال السهرة الأخيرة لهما معاً.
وكأنه كان لدى هادي إحساس بأنه لن يرى أصدقاءه مجدداً. وتقول لينا أنه قبل أن يغادر السهرة التي كان فيها معهم، قبّل الكل وعانق الكل وطلب منهم بأن يذكروه دائماً وبأن يتحدثوا عنه باستمرار وكأن حدسه ينذره بأنه يودعهم للمرة الأخيرة.
مشاعر أم بعد وفاة ولدها
من الطبيعي أن حياة العائلة ككل انقلبت رأساً على عقب وأن كل شيء تبدّل بعد وفاة هادي، وبالفعل تؤكد لينا أن لا شيء يمكن أن يعود كالسابق . فتقول عما تغيّر فيها شخصياً: «بعد وفاة هادي، لم يعد شيء يهزّني ولم أعد أتأثر بالأمور المؤلمة التي تحصل كالسابق. وكأن لا شيء يؤذيني في الصميم بعد ما شعرته لفقدان ابني. حتى أن معنى الحياة تغيّر بالنسبة إلي، فبعد موت ابني تصالحت مع فكرة الموت الذي كنت أخشاه كثيراً في السابق».
ذكريات مع هادي
وعن شخصية هادي تقول: «كان هادي متميّزاً بقربه من القلب والكاريزما التي يتمتع بها وتجعل الصغار والكبار يحبونه. طيب القلب لا يحب الشر ولا الحزن. كما أنه كان يحب الاصدقاء كثيراً ولا يحب البقاء وحده أبداً وكأنه كان يعرف أنه سيغادرنا باكراً. ففي كل الأوقات، كان يحرص على جمع الأصدقاء فلا يخلو منزلنا من أصدقاء هادي الذين كانوا أخوة له وينامون عندنا حتى، مما دفعني إلى تخصيص مكان لهم في المنزل. كان هادي يحب الناس ويكره الحزن ويرفض أن يرى أمامه أحداً حزيناً، فالفرح موجود دائماً بوجوده. وعندما يراني غاضبة أو حزينة، يقول لي بسرعة إن الحياة لا تستأهل أن نحزن فيها. كان حنوناً جداً.
لا تفارقني ضحكته الجميلة فكانت السعادة تغمره دائماً. كما أذكر الطريقة التي كان يدلعني بها، فهادي ليس ابني فحسب بل هو أخي وصديقي ورفيقي وابني، فقد أنجبته وأنا في سن 20 سنة. لذلك كانت علاقتنا أشبه بعلاقة صديقين أكثر منها علاقة أم وابنها. كان يحب الحياة وتليق به. ولشدة حبه للحياة أجد أنه فعل الكثير مقارنةً بعمره الصغير عند وفاته .أحب هادي السيارات الجميلة وعشقها، والمفارقة هنا أن السيارة نفسها قضت عليه».
كان هادي يعشق السهر أيضاً والسباحة والKick Boxing. وكان قد تخرّج من المدرسة قبل 6 أشهر من الحادث، إلا ان فرحة أهله فيه لم تكتمل. وعن أجمل ما في هادي، بحسب والدته، ضحكته التي لم تفارق وجهه يوماً وأسنانه الجميلة التي كان يحرص عليها كثيراً لشدة جمالها.
بعد وفاة هادي...
أما بعد وفاة هادي، فتؤكد والدته أن الكل كان يجتمع للتحدث عنه باستمرار وعن مزاحه ونكاته وعن فرحه، ولا تزل العائلة تفعل، فيما تظهر بعض الأسى أمام ابتعاد أصدقائه الذين كانوا كالأخوة له والذين كانت تعتبرهم كأولادها، فيما خذلوها مع مرور الأيام، فلم يعودوا يسألون أو يحضرون للزيارة. وحتى صديق هادي الذي كان معه في السيارة لم يعد يسأل، فأبدت عتباً في هذا الإطار وأظهرت خيبة أمل من أشخاص توقعت منهم البقاء بجانب العائلة. وتعترف بأنها في البداية لم تتقبّل الامر، لكنها ادركت لاحقاً أن الحياة يجب أن تستمر وأن رفاق هادي هم شباب ويريدون أن يتابعوا حياتهم.
وتتحدث عن الاجواء التي سادت بعد وفاة هادي مشيرةً إلى أن الجو لم يكن مثقلاً بالحزن والبكاء، فتقول: «طوال الوقت كان هادي موجوداً بيننا ولا يفارقنا بأخباره وسعادته وضحكته، فلا نتوقف عن التحدث عنه. حرصنا على إبقاء هذه الأجواء، خصوصاً أن لي ابنتين ولم أكن أريد أن تتأثرا بأجواء الحزن والكآبة، بل أردت أن نواصل حياتنا وأن نبقي ذكرى هادي معنا. ونحن أصلاً في العائلة لا نحب أجواء البكاء والحزن. وأعتقد أن إيماننا الكبير بالله ساعدنا بشكل كبير على تقبّل هذه المصيبة وتخطيها. فلم أتساءل يوماً لماذا أخذ الله هادي أو ما شابه، بل قلت لنفسي إن الله أعطاني إياه وهو أخذه. انطلاقاً من ذلك، حاولنا الحفاظ، قدر الإمكان، على أجواء بعيدة عن الاكتئاب، تماماً كما يحب هادي الذي يعشق أجواء الفرح والضحك».
«كن هادي» لحماية آخرين ولذكرى هادي
بعد وفاة هادي، وبحسب والدته، وتحديداً خلال فترة تقبل العزاء لوفاته، كان أحد أصدقائه المقربين رافضاً فكرة خسارة هادي الذي كان أخاً له. «لم يتمكن من استيعاب فكرة أن هادي قد غادرنا نهائياً وأننا لن نراه مجدداً وأنه خسر حياته سدىً. بهذا الشكل ظهرت فكرة إنشاء جمعية «كن هادي» حفاظاً على ذكرى هادي من جهة ولحماية آخرين من التجربة نفسها. وبدأت أوقع الأوراق المرتبطة بإنشاء الجمعية في فترة تقبل العزاء وكنت حينها لا أعي ما يحصل معي. وبعد 40 يوماً، كان رفاق هادي قد حضّروا فيلماً مصوراً شاهدته عن هادي يتضمن مشاهد من حياته من طفولته إلى أن كبر. وقد انطلقت الجمعية في 11-10-2006 من خلال حملة انتشرت فيها صوره وكان يحدث الآخرين، وكانت هذه المرة الأولى التي تقام فيها حملة بهذا الشكل. ونعمل جاهدين من خلال الجمعية على توعية الشباب على أهمية سلامة السير».
أما عن دور الجمعية في مساعدتها لتخطي المأساة التي عاشتها بفقدان ابنها، فتقول لينا: «الجمعية كانت بالنسبة إلي العلاج لانها حافظت على ذكرى ابني وسمحت لي بالتحدث عنه باستمرار، فبهذه الطريقة أحرص على ألا ينساه الناس ويبقى موجوداً في ذاكرة الكل. كما أني عندما أنقذ أحداً من خلال التوعية التي أقوم بها في الجمعية، لا يكون دم ابني قد ذهب سدىً وأجنّب أماً أخرى عيش هذه التجربة المأسوية. ولا شك أن الأرقام التي تظهر تراجع نسبة حوادث السير منذ انطلاق الجمعية حتى اليوم تعطينا الكثير من الاندفاع لنواصل المسيرة ونحقق المزيد».
وعن نشاطات الجمعية المكثفة تقول: «نقوم بحملات إعلانية واسعة النطاق ونركز على اللوحات الإعلانية التي تنتشر بكثرة في لبنان والحملات عبر مختلف وسائل الإعلام. كما نلقي محاضرات توعية أسبوعية في المدارس والشركات ونتعاون مع الوزارات المختصة. وضعنا ايضاً عاكسات ضوئية على الطرق وأهّلنا طرقاً معينة ووضعنا ممرات آمنة أمام بعض المدارس. أيضاً تم بث أفلام مصورة على شاشات التلفزيون في سبيل التوعية . إضافةً إلى الحملات التي نقوم بها في المناسبات كما في يوم الأم حيث نحضر بطاقات معايدة فيها رسالة توعية معينة مرتبطة بسلامة السير والقيادة، وفي يوم الحب أيضاً. ونقيم سهرات معينة تعرف بسهرة التاكسي Taxi night التي يحضر إليها الكل بالتاكسي بدلاً من قيادة السيارة ونكون نحن قد طلبنا التاكسي لهم. ونشجع كثيراً على انتشار هذه الفكرة ليطمئن بال الأمهات عندما يخرج أولادهن ويعودون بالتاكسي بدلاً من قيادة السيارة شخصياً والتعرض للخطر. علماً اننا نضع خطة عمل سنوية ونعمل عليها بالتعاون مع الجهات المعنية. نكثف نشاطاتنا بهذا الشكل، لأن هذا الموضوع يحتاج إلى الكثير من التوعية والعمل لنحقق الأهداف المرجوة لنحد من حوادث السير قدر الإمكان».
www.kunhadi.org
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024
شؤون الأسرة
اقتراحات تمييزية للتشويش على حق الأمهات اللبنانيات بإعطاء الجنسية لأطفالهن
شؤون الأسرة
عائلة حسام ورولا تنقل تفاصيل دقيقة عن الحياة في هولندا بكل صعوباتها وإيجابياتها
شؤون الأسرة