تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

إماراتية تعود إلى حضن أمها بعد 37 عاماً

«وقد يجمع الله الشتيتين بعدما  يظنان كل الظن ألا تلاقيا» ... هكذا قال الشاعر العربي القديم، وهكذا كانت ايضا الصورة بعدما اجتمع شمل  شتيتين  في رأس الخيمة، هما أم مصرية وابنتها الإماراتية، بعد 37 عاماً من ألم الفراق ووجع الغياب، وذلك في مشهد أثار مشاعر جياشة، واستدرّ دموع الحاضرات لاحتفال خاص أعدته مواطنة إماراتية من رأس الخيمة، وفاجأت به صديقتها التي ظلت لسنوات طويلة لا تعلم شيئاً عن أمها. مسرح مشهد العناق بين الأم وابنتها كان منزل الأسرة الإماراتية، صاحبة المبادرة لجمعهما، في منطقة  الظيت  بمدينة رأس الخيمة، حيث حصل الفصل الأخير من القصة الإنسانية بحضور نحو 50 سيدة.


بطلتا تلك القصة الإنسانية الأقرب إلى ميلودراما السينما العربية والهندية هما منى التي فقدت والدتها وهي لم تتجاوز الأربعين يوما من عمرها، وتبلغ الآن 37 عاماً، والثانية هي أمها آمال توفيق، 52 عاماً... أما البطولة الحقيقية فهي لتلك المرأة الصديقة التي جمعت بين الاثنتين في ليلة لن تبرح ذاكرة أهل الإمارات لمدة طويلة.


أريد حناناً

قصة الحرمان المتبادل بين الأم وابنتها، التي استمرت 3 عقود ونصف عقد، بحثت خلالها منى طويلا عن أمومة ضائعة، قبل أن تتعرف على صديقتها أسماء التي تعهدت بالبحث عن والدة صديقتها، طلبا للأجر في إطار إنساني ووفاء لقيمة الصداقة، بعد أن قالت لها صديقتها، ذات يوم، كلمة علقت في ضميرها «أريد حناناً».

 الإماراتية  أسماء  أعدّت الحفلة الخاصة لصديقتها منى، ضمن احتفالها بيوم ميلاد ابنها صالح الذي كان سببا لعلاقتهما من خلال صداقته مع ابن منى. وحملت الحفلة المفاجأة المدوية لجميع الحاضرات، حين جمعتها بوالدتها التي جاءت بها أسماء من مصر، بعد بحث طويل ومضنٍ.

في الحفلة قالت أسماء للمدعوات أن  ثمة مفاجأة في انتظارهن، دون أن تحدد ماهيتها، فيما نزعت منى الباحثة عن والدتها غلاف هدية مقدمة من صديقتها، صاحبة الدعوة، لتجدها صورة قديمة لعروسين خلال زفافهما. وهنا خرجت الأم وسط مشاعر جياشة وزغاريد مدوية ودهشة الحضور، وبادرت إلى احتضان ابنتها في لقاء حميم طال انتظاره، في حين كانت ابنتا منى تشاركانها حميمية اللحظة، خلال عناقها الحار مع جدتهما العائدة. وفي لحظات قليلة أدركت منى أنها أخيرا أمام والدتها، لتغيب عن الوعي فورا من فرط الفرحة وهول المفاجأة.


محاولات حثيثة لجمع الشمل

أسماء صالح النعيمي، معلمة رياض أطفال في إمارة رأس الخيمة، متقاعدة حاليا، قالت بعدما تكللت جهودها في العثور على الأم وجمعها بابنتها: «تعرفت على منى بعدما ربطت ابني صالح (9 أعوام) علاقة صداقة مع أحد أبنائها. وتوطدت صداقتنا مع الأيام، حتى بتنا نمضي معظم أوقاتنا معا. وقد أخبرتني بحيثيات قصتها الغريبة في بحثها الملح عن أمها المصرية التي طلقها والدها بعدما أنجبتها بأيام قليلة، وأعادها حينها إلى وطنها».

تضيف: «ما زاد صعوبة مهمة البحث المضنية عن الأم لأن منى لا تعرف الكثير عن أمها، سوى الاسمين الأول والثاني، حسب الوارد في جواز سفرها، بينما كانت تردد دائما «أريد حناناً»، وهو ما كان يخلف صدى كبيرا وأثراً بالغاً في نفسي. وهذا ما دفعني إلى البحث الدؤوب عن والدة صديقتي، وهو ما استمر حوالي شهرين، قبل أن ينتهي تلك النهاية السعيدة. الخطوة الأولى كانت البحث عن معلومات أخرى عن الأم، المبعدة عن ابنتها قسراً، وحافظت خلال ذلك على سرية تحركاتي والمعلومات التي أتوصل إليها. واسترشدت بإحدى النساء من معارف الأب، لتحديد اسم المنطقة التي ترجع إليها الأم في مصر، وهي مدينة  فاقوس  في محافظة الشرقية. ومنذ ذلك الحين وأنا أسأل وأتحرّى من كل  مصري  ألتقيه في الإمارات، ليرشدني عن أي خيط يقودني إلى أم صديقتي، لا سيما من يعرفون بلدتها».


بائعة خضار عصامية

 بعد ذلك، وجدت  أسماء ضالتها من خلال تكليف شخص قادر من أبناء  مصر  المقيمين والعاملين على أرض الدولة، ليتولّى البحث عنها. ليس ذلك فقط، بل تكفلت بنفقات رحلة هذا الشخص إلى مصر وبلدة الأم فيها، وأي نفقات أخرى تستدعيها عملية البحث والتحري عن مكان وجود الأم، لكن مرة أخرى انتهى البحث إلى لا شيء، إذ لم ينجح في العثور عن أي أثر لها، ليكلف أخاه الذي كلف بدوره صديقه، لا سيما أن الأخير يعيش في مصر.

 وخلال أسابيع كان الباحث الأخير يستثمر إجازته في البحث عن والدة منى المفقودة، ليحمله القدر إلى التقاء امرأة ثكلى، هي بائعة خضار، تعمل للإنفاق على بناتها، تجلس على أحد الأرصفة في المدينة الصغيرة التي تنتسب إليها الأم، وكانت تبث همها وأحزانها لأي شخص تلتقيه أو يتعاطف معها ويسألها عن أحوالها. وهنا سردت على الرجل المكلف البحث عنها قصتها الكاملة، وتضمنت أنها أم  لخمس بنات، لكنها لا تعرف شيئا عن ابنتها البكر التي تركتها وراءها في الإمارات منذ سنين طويلة، بسبب خلافات أسرية أدت الى انفصالها عن والدها، ومغادرتها الإمارات بعد طلاقها. وأكدت أتها تحلم بأن تلتقيها وتحتضنها قبل أن تفارق الدنيا، ولو لمرة واحدة في عمرها.

وأضافت الأم: «توفي والد ابنتي الثانية الذي اقترنت به في مصر، بعد عودتي من الإمارات، ثم تزوجت للمرة الثالثة، وأنجبت من الأخير ثلاث بنات».


دليل صورة الزفاف

وما أن بلغ الرجل حالة من اليقين بأنه وجد ضالته أخيرا، بعدما أصغى إلى آلام الأم المفجوعة، عبر مطابقة البيانات التي كانت بحوزته عن الأب بتلك التي تسردها، بادر إلى الاتصال بأسماء، وأتاح لها فرصة التحدث إلى المرأة عبر الهاتف، لتنتهي إلى نتيجة مفادها أنها وجدت والدة صديقتها، فيما تأكدت من شخصيتها بواسطة المعلومات التي أدلت بها المرأة والصور التي تملكها، فيما طلبت منها إرسال الصور على الفاكس، وبعثت لها بصورة لحفلة زفافها إلى والد منى، بينما توجهت  أسماء  إلى معارف الأب في رأس الخيمة، لتتأكد من صورته لأنها لا تعرفه شخصيا، وهو ما أكدته واحدة من معارف الأب.


العودة وجميل أسماء

وحسب صاحبة المبادرة، شكلت إجراءات عودة الأم أصعب مراحل عملية البحث عنها، نظرا الى فقدانها جواز سفرها منذ سنين، لتضطر أسماء إلى تكليف الشخص الذي وجدها باستخراج بدل فاقد، وحجزت لها ضمن أول رحلة جوية من مصر إلى الإمارات، فيما أجلت الاحتفال بيوم ميلاد ابنها، ليتزامن مع يوم عودة الأم، واكتملت بذلك فصول الفرحة بلم شمل صديقتها مع أمها للمرة الاولى منذ 37 عاماً.

وقالت الأم، ما أن التقطت أنفاسها، بعد لقائها الحميم مع ابنتها: «لن أنسى جميل أسماء ما حييت، أحسست فعلا بأن الخير موجود بلا مقابل. وتعود بذاكرتها إلى الوراء:  «كان عمري 17 عاما حين جئت إلى رأس الخيمة عام 1975، ووضعت طفلتي البكر  في الحادي والثلاثين من آذار/مارس 1976، طلقني زوجي بعدها بقليل، ولم يكن عمر طفلتي حينها يتعدّى الأربعين يوماً، رفض طليقي بعدها أن أبقى لأرعى طفلتي، مثلما رفض أن أصطحبها إلى مصر».

وبررت آمال توفيق عدم بحثها عن ابنتها خلال سنوات طويلة بقولها: «لم أسع إلى ذلك بسبب حالتي المادية الصعبة، وظروف المعيشة الصعبة، وعدم درايتي بالحياة. ولم أجد وسيلة أستعيد بها ابنتي، أو خيطا يربطني بها، إلى جانب ضياع جواز سفري لسنوات، وبعد ذلك زواجي وانشغالي بتربية بناتي، بعد وفاة زوجي، فيما كان حلمي الكبير أن أجدها يوما»، مؤكدة أنها عرفت ابنتها بمجرد أن دخلت منزل أسماء النعيمي، وميزت صوتها من بين الأصوات الأخرى، رغم أنها لا تحتفظ في ذاكرتها سوى بصياح الطفلة الرضيعة.


صاحبة المبادرة

لم تكتف  أسماء النعيمي  بحمل أعباء البحث عن والدة صديقتها، وتتبع كل أثر لها، واقتفاء أي معلومة تلوح أمامها، وجمع كل الخيوط، وتحليل آخر ما تتوصل إليه بإصرار وعزيمة، بل تحملت أيضا النفقات المادية لعملية البحث التي شملت تذاكر السفر للأشخاص الذين كلفتهم المهمة الصعبة، نفقات مواصلاتهم داخل مصر، استخراج الأوراق الثبوتية للأم بعد العثور عليها، استصدار جواز جديد لها، وقيمة الضمان المالي. وهي تعد الآن لرحلة اداء العمرة لصديقتها منى ووالدتها شكراً لله وعلى نفقتها الخاصة أيضاً.


الأم تطلق اسم المرأة التي جمعتها بابنتها على حفيدتها

قررت الأم آمال أن تطلق على حفيدتها الجديدة، المتوقع أن ترى النور في غضون أيام، اسم «أسماء»، اعترافاً منها بجميل المرأة التي جمعتها بابنتها بعد سنوات الألم والفقدان.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077