جدة تغرق من جديد في أربعاء أشد سواداً وكارثية
بعد كارثة جدة في 2009، حل أربعاء آخر أكثر سواداً على المدينة، وخيم الحزن على أغلب مناطقها خاصة الجنوبية والشرقية، فالمياه غطت أغلب مناطقها بدرجات مختلفة بعد هطول أمطار وصل منسوبها إلى 100 ملم. اقتحمت المياه البيوت، وغرق أصحابها كباراً وصغاراً، واحتجز آلاف الاشخاص في المدارس والجامعات والشركات والبنوك....
خمس ساعات من المطر المتواصل أدخلت جدة في حالة غرق عارمة. الماء يجري كالأنهار في جميع الاتجاهات، يخرب الشوارع ويملاْ الأنفاق ويغرق المركبات، فلا يبقى سبيل للنجاه إلا السباحة مع التيار والفرار الى أعلى نقطة ممكنة. حالة من الهلع الجماعي تصيب سكان جدة بأحيائها المختلفة، والرعب يسيطر على المكان. انقطاع في الكهرباء، وحرائق، ومبان تتهدم... آلاف السيارات تحطمت ووقع الكثير من الاصابات. وفي حين أن سيول 2009 غمرت المناطق العشوائية والمبنية في بطون الأودية، فإنها هذا العام وصلت الى الكثير من الشوارع الرئيسية والأساسية فأصابت المدينة بحال من الشلل. ورغم حالة الاستنفار الأمني والاغاثي الذي شهدته المدينة، فإنها لم تستوعب عدد الأشخاص المحتجزين وكمية المياه التي غمرت الشوارع. فبقي العديد من الناس بعيدين عن فرق الانقاذ، وفاقدين الأمل في وصول أي مساعدات، ولم يبق أمامهم إلا أن يصارعوا الماء عسى أن تكتب لهم حياة جديدة. «لها» التقت بعض الناجيات من الغرق والمحتجزات بسبب السيول والأمطار.
ساعات من الخوف والفزع عاشتها دينا المدرسة في احدى المدارس الخاصة التي تقع في شارع الأربعينن عندما بدأ الماء يدخل المدرسة من كل اتجاه حتى وصل الى أسفل الركب. ودب الرعب في نفوس المعلمات اللواتي كن يعملن على تصحيح أوراق الامتحانات واكتشفن أنهن محاصرات بالمياه من كل اتجاه، حتى انحبسن داخل المدرسة ولم يستطعن أن يفتحن الباب.
تقول دينا: «كنت خائفة جداً، وصعدنا الى الطبقة الثانية من المدرسة حتى نحتمي من الماء، وكنا ننتظر الانقاذ وأن يأتي الدفاع المدني ليخرجنا وبقينا محتجزات لأكثر من خمس ساعات... شعرت بأنني سأموت بين جدران المدرسة ولن أتمكن من الخروج نهائياً. الكل كان يبكي ويصيح، والحالة تزداد سوءا مع طول الانتظار».
بعدما فقدن الأمل من أن تصل اليهن أي فرق انقاذ، قررن أن يخرجن من المدرسة واستطعن أن يفعلن ذلك عبر البوابة الخلفية التي فتحت بصعوبة بالغة وبمساعدة من أشخاص مجاورين للمدرسة. وبعد فتح فتح الباب فوجئت المعلمات بكميات كبيرة من المياه تجري سيولاً وتغطي الشارع حتى منطقة الوسط. «أمسكت كل واحدة منا الأخرى حتى نقاوم قوة جرف المياة واستطعنا أن نعبر ثلاثة أمتار من الشارع في نصف ساعة، حتى وصلنا الى الجهة الأخرى من الشارع التي كانت كمية المياه فيها أقل وتمكنا من الركوب في سيارة كبيرة لأحد المارين في الشارع».
بقيت دينا وسبع من زميلاتها داخل السيارة يحاولن أن يخرجن من المنطقة ليصلن إلى طريق المدينة، ليفاجأن بكمية هائلة من المياه، وكأنها بحيرة عميقة مليئة بالسيارات الغارقة والناس الذين يسبحون في كل مكان محاولين الخروج من هذه الكارثة... «عشت ساعات مرعبة، لم أكن أتوقع أن أصل الى المنزل. اجتزنا البحيرة بأعجوبة وأنا في حالة توتر وإرتباك حتى تمكنت من الوصول الى بيتي في التاسعة مساءً. كنت في حالة صدمة وكان جسمي يرتعش ولم أصدق أني نجوت»...
شبح الموت...
'لقد نجوت من الموت بعدما عشت ساعات خلت خلالها أن هذا آخر يوم في عمري'، كان هذا شعورصبا زارع، المدرّسة في كلية دار الحكمة، والتي نجت من من غرق محتم بعد دهم السيول لسيارتها وهي تحاول أن تعود الى منزلها... تقول: 'خرجت من الكلية بعد الظهر محاولة الوصول الى المنزل قبل أن تشتد الأمطار. اعتقدت أنني ساواجه تجمعات مياه وأمطار ولم أعرف أني سأغرق في السيل'.
بعد خروجها وأثناء توجهها الى طريق ولي العهد بدأت السيول تجرف السيارة وبدأ منسوب الماء يرتفع. حاولوا العودة الى الكلية ولكن تعذّر ذلك من شدة الزحام وكثرة الماء. احتمت في منطقة عالية نسبياً حتى رأت سيارة للدفاع المدني طلب من فيها من العالقين أن يتوجهوا شمالاً. 'لحقنا بالسيارات التي أمامنا حتى بدأت تختفي لأجد سيارتنا وسط سيل جارف، وبدأت المياه بدخول السيارة حتى وصلت الى المقاعد، فأخرجت نصف جسمي من الشباك وتوقفت السيارة عن العمل وأصبحت تسبح وتنجرف مع الماء. ثمة أشخاص حاولوا مساعدتنا، ولكني كنت مصابة بحالة من الفزع منعتني من التصرف بحكمة، فرفضت الخروج من السيارة واعتقدت أنها أكثر أماناً'.
لا تتذكر زارع اللحظات التي خرجت فيها من السيارة وكانت كأنها فاقدة للوعي، حتى وجدت نفسها داخل مياه تسير بشكل سريع وتصل الى أعلى البطن. « كان الأهالي موزعين في كل مكان ولم يكن هناك أي أثر لشرطة أو الدفاع المدني، وبدأت السير داخل هذه المياه حتى وصلنا الى مبنى كان يحتمي فيه العديد من أستاذات وطالبات جامعة الملك عبدالعزيز. انتظرت هناك ساعات حتى حل الظلام، وقررت أن أحاول الخروج والوصول الى بيتي في حي الخالدية».
خرجت زارع وسائقها والماء يغمرهما ويجرفهما في شارع الستين وهما يحاولان الوصول إلى شارع فلسطين حيث كانت سيارة والدها في انتظارها. كان الظلام شديدا والماء يغمرهما حتى الصدر.« كان الماء يجري كالنهر وأفواج من الناس تسبح وتصرخ في جميع الاتجاهات، كانت هناك حالة فزع جماعية، كل واحد يحاول النجاة والخلاص. مشينا ساعتين تقريباً في ظلام كامل، أحمل هاتفي الجوال عاليا حتى لا يبتل وأفقد الاتصال، حتى وصلت الى الجسر واستطعت أن أركب سيارتي وأصل الى المنزل. دخلت بيتي وشعرت بأني ولدت من جديد، وتعلمت أنه في حالات كهذه لا بد أن أبقى مكاني في مكان آمن ومرتفع ولا أجازف».
6 ساعات سباحة
رولا عاشور، أستاذة علم النفس في كلية دار الحكمة، أمضت أكثر من ست ساعات من السباحة لتخرج من طريق ولي العهد وتصل إلى منزلها في حي الحمرا. وتحدثت «لها» الى عاشور فور وصولها الى المنزل حيث كانت في حالة اجهاد وتعب شديدين، فقالت: «كنت أنهي بعض الأعمال في الكلية عندما لاحظت أن السماء ملبدة بالغيوم، فقررت أن أعود للمنزل مع بداية المطر عند الساعة 11 صباحاً، خرجت مسرعة محاولة الوصول قبل أن تشتد الأمطار، وبعد 15 دقيقة من خرورجي وعند وصولي لمركز محمود سعيد، بدأ رجال الشرطة في تغير مسار السيارات، فحاولنا أن نخرج من خلف المركز، وهنا بدأت الكارثة اذ شعرت بأن السيارة تغرق وحاولنا أن نرتفع بها فوق الرصيف لنبتعد عن الماء».
امضت عاشور ساعة كاملة من البكاء وهي تشاهد الماء يتدفق حولها من كل مكان ويعلو، فحاولت أن تلملم شتات نفسها وتتخذ القرار الصائب لتنجو بحياتها. 'قررت أن أخرج من هذا المكان، فتركت السيارة ومعي السائق يرشدني الى الطريق، وبدأنا نمشي قليلاً، ونسبح قليلاً، والمياه تحيط بنا وتصل الى أعلى الوسط محاولين الخروج لشارع الستين. وبقيت ست ساعات ما بين السباحة والمشي نخرج من شارع وندخل آخر والطين والحشرات والقاذورات تحيط بنا حتى وصلت الى منزلي، غير مصدقة أنني مازلت على قيد الحياة، واني تمكنت من تحمل مشقة السير في المياه الجارفة كل هذه المسافة الطويلة'.
12 ساعة في السيارة...
نوف العتيبي، الموظفة في احد البنوك الواقعة في شارع حائل، أمضت هي وأشقاؤها أكثر من 12 ساعة محتجزين داخل السيارة ينتظرون الانقاذ.
بدأت رحلتها مع يوم الأربعاء عندما توالى سقوط الأمطار بشدة صباحاً وشعرت بالخوف والرغبة في العودة إلى منزلها، فحضر شقيقها وتوجها إلى طريق الميناء لاحضار شقيقتهما. قالت: «لن تصدقي الفوضى التي كانت تملأ الشوارع دون نظام أو ترتيب. الماء يٌغرق المكان والسيارات تسير في كل اتجاه، والاشارات معطلة، وليس هناك أي أثر لأي من رجال الأمن أو الدفاع المدني. بعد ساعات تمكنا من الوصول الى مقر عمل شقيقتي في الميناء ومنسوب المياه يرتفع، فوجدنا سيارة للدفاع المدني ولكنهم لم يستطيعوا توجيهنا».
أخذت العتيبي وأشقاؤها يحاولون الوصول إلى منزلهم في حي الفيصلية، ويجربوا كل المخارج والمداخل حتى بقوا محتجزين في احد شوارع حي الشرفية، والمياه تغطي السيارات حتى أبوابها. استمروا يبحثون عن مكان آمن حتى استطاعوا أن يقفوا بالسيارة في منطقة مرتفعة بعض الشيء حتى الساعة الثالثة صباحاً. وحكت العتيبي عن هذه الساعات قائلة: «صحيح أن الدنيا كانت مظلمة، والفوضى تعم الشوارع، والمياه تحاصرنا من كل اتجاه، الا أنني لم أكن خائفة، وكنت على يقين أنني في وقت ما سأتمكن من العودة إلى منزلي. أمضينا الليلة في السيارة نشرب القليل من الماء حتى لا نحتاج إلى استعمال دورة المياه ولم نجد أي مكان نحتمي فيه إلا سيارتنا، فكل البيوت والفنادق المجاورة كانت مغلقة».
وبعد طول انتظار اتصل بهم أحد الأشخاص من الذين احتجزوا معهم وأخبرهم أنه قد وجد طريقة للخروج. دلهم على الطريق، وفي ساعات محدودة وصلوا إلى بداية طريق المدينة حيث وجدوا بقايا مدينة على حد قولها. «خفت المياة تجاه طريق المدينة المتجه شمالاً ولكن كانت السيارات محطمة، وآثار الحوادث في كل مكان، وبدأت السيول تتراجع تدريجياً كلما اتجهنا شمالا. وصلت الى منزلي وركعت ساجدة وشاكرة الله على سلامتي وسلامة أشقائي».
انتظار حتى الصباح...
ولنوف المحيسن، الموظفة في احدى الشركات التي تقع في البلد، قصة مشابهة ولكنها لم تتمكن من العودة إلى منزلها إلا صباح اليوم التالي. خرجت مع مجموعة من الموظفين من الشركة محاولين تخطي شارع الأندلس قبل أن تغمره السيول ومحاولين الوصول إلى الشمال حيث يسكن جميعهم. تقول: 'مررت بيوم صعب وطويل ومرهق، ومليء بالاحداث التي شغلت تفكيري، ولم تجعلني حتى أفكر إن كنت سأنجو من الغرق أم لا.
تركت الشركة بعد الظهر محاولة الوصول لبيتي، ولكن عندما وصلت الى نقطة التقاء شارعي الحمرا والأندلس لم أصدق ما رأيت. مياه تجري في كل اتجاه والسيارات تتصادم ولا يوجد أي أثر للشرطة أو رجال الأمن أو من ينظم السير. بقينا محتجزين في السيارة ساعات حتى قررنا أن نخرج ونقطع السيل مشياً لنتمكن من العبور الى الجهة الأخرى والخروج من هذه المنطقة'.
ساعات حرجة وصعبة عاشتها المحيسن وصديقاتها خاصة عندما سمعن أن السد الاحترازي في أم الخير دُمّر كلياً وأن السيول ستصل الى شارع فلسطين، وماهي إلا دقائق حتى تحول شارع الأندلس الى مجرى سيل لايمكن الوقوف أمامه، يجرف بالسيارات في كل اتجاه.
قررن عبور الشارع للوصول الى الجهة الأخرى للاحتماء في أي مبنى، لكن المطعم الذي توجهن اليه رفض أن يسمح لهن بالدخول. 'عشنا ساعات من التوتر الشديد نحاول أن نجد أي مكان نحتمي به، ولكننا لم نستطيع فالفنادق كلها محجوزة والبيوت المجاورة مغلقة، حتى أحد المطاعم المعروفة لم يسمح لنا بالدخول وأغلق أبوابه إلى أن اضطرته احدى صديقاتي أن يفتح الباب بعد رميه بحجر. عرفت هنا أننا سنبقى محتجزات، ولكن لا أعلم إلى متى! وأخيراً استضافتنا احدى السيدات من أهل المنطقة حتى الصباح'.
أكدت المحيسن أن التجربة كانت مرهقة ومزعجة وأنها شعرت بحزن شديد تجاه ما أصاب المدينة وحالة الفوضى التي عمت فيها والنقص الشديد في التوجيهات. 'كان يفترض بنا أن نبقى مكاننا، لكننا لم نكن نعلم ذلك، ولم نجد من يوجهنا... ولكن الحمد لله على كل حال'.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024
شؤون الأسرة
اقتراحات تمييزية للتشويش على حق الأمهات اللبنانيات بإعطاء الجنسية لأطفالهن
شؤون الأسرة
عائلة حسام ورولا تنقل تفاصيل دقيقة عن الحياة في هولندا بكل صعوباتها وإيجابياتها
شؤون الأسرة