إدّعاءات كاذبة و'تمثيل' على الآخرين
أن يحاول الإنسان تحسين مستواه الإجتماعيّ أمر طبيعيّ ومقبول. لكن أن يحاول إدّعاء ما ليس عليه، فما هو إلاّ محاولة يائسة لرفض واقعه الذي قد لا يكون مُرضياً لغروره وصورته الذاتيّة!
إنّ «التفشيخ»، أي محاولة ظهور المرء بصورة مغايرة تماماً لما هو عليه، هو بالدرجة الأولى تمثيل على الآخرين، لا بل على الذات. ويبقى الدافع الأساسي هو الرغبة في الإندماج في المجتمع وتسلّق السلّم الإجتماعيّ بسرعة هائلة حتى يتربّع الإنسان مع ذوي النفوذ والرقيّ للولوج إلى النشاطات والحفلات وصالونات الشرف. بات الجميع يتداولون أنّ المال والنفوذ يحدّدان المكانة الإجتماعية، بعيداً عن الشخصيّة والثقافة والشهادة والأخلاق. لذلك يلجأ غالبيّة «الجهلة» إلى محاولة التنقيب عن الفرصة المناسبة للظهور، متعالين، مغرورين، نافشين ريشهم المزيّف كالطاووس، يختالون بين الناس ليتداولوا آخر الأخبار، لا بل ليصبحوا هم حديث المجتمع.
لكن في النهاية، ليس كلّ ما يلمع ذهباً... فالناس أذكى بكثير من الوقوع في فخّ المظاهر الخدّاعة، لأنّ الأصل لا يُشترى وغالباً ما يغلب الطبع التطبّع.
يتكلّم الدكتور كلوفيس كرم، أستاذ محاضر في الفلسفة والحضارات وعلوم الأديان وعلم الإجتماع، عن التباهي والإدّعاءات و«التفشيخ»، شارحاً أسبابها الإجتماعية وإنعكاساتها على العلاقات. كما تتناول الإختصاصية في علم الإجتماع ريتا أبو سمرا العقليّة الراسخة في نفوس الأشخاص عن المظاهر الخدّاعة. الحياة صعبة وتتطلّب التضحية والعمل الدؤوب والتنقيب عن لقمة العيش في أقاصي الأرض لتأمين أبسط متطلّب الحياة الكريمة. وقد يصل الأمر بالبعض إلى تكثيف ساعات العمل والقبول بشتى الوظائف لدفع الفواتير وتسديد الديون. ولكن في المقابل، تراهم أمام الناس بشكل مختلف تماماً، وكأنما يعانون إنفصاماً في الشخصيّة أو يبرعون في التمثيل إلى أقصى الحدود. فبينما يتذلّلون لتأمين راتب آخر الشهر في الصباح، يظهرون في المجتمع متبخترين بثياب باهظة وأكسسوارات تلفّهم من العنق والمعصمين وصولاً إلى أعلى الزندين، وسيّارة أحدث طراز، في محاولة يائسة لجذب الأنظار. وهذه العادة وباء يتفشّى في المجتمعات وقد يصيب الجميع على حين غرّة، ما لم يتحلّوا بالمنطق الكافي للتمييز ما بين الإنطباع الجيّد الذي يجب أن يتركه المرء من خلال تصرّفاته، وما بين التمثيل الفاشل والتباهي بما لا يملكه الشخص أصلاً.
إنّ الفقر الماديّ ليس وصمة عار أو مصدر خجل، وإنما هو حالة إقتصادية متردّية، يمكن العمل على إزالتها من خلال العمل فقط لا غير. فيجب ألا أن يخجل المرء بحالته، وإنما يمكنه المثابرة لتخطّيها بالتي هي أحسن.
التباهي مرض أم حاجة؟
يشرح الدكتور كرم أنّ «التباهي بالمعنى المتداول عموماً هو أنّ الشخص يعتبر أنه يستطيع أن يفعل أكثر ممّا يستطيعه فعلاً. وهذه العقليّة متأتّية من الفكر السامي أو العربيّ القديم، بحيث كان الناس في الشعر القديم في البادية يتكلّمون بالأشعار، منوّهين بما قد أنجزوه. وقد صحّت هذه الأقاويل أيّام عنتر وعبلة، وهي مصدر فخر وإعتزاز». لكن ما يحصل في أيّامنا هذه، هي أننا نعيش على الأوهام والمجد الباطل، بحيث نتباهى بأمور لم ننجزها بنفسنا، ونأخذ الفضل على ما لم نحقّقه، وهنا يبدأ الكذب والتمثيل وتكبر الكذبة حتى يبدأ الكاذب نفسه بتصديقها وعيش الأوهام ورفض الواقع البسيط وتفضيل العيش بين الغيوم والأقاصيص التي يخترعها وينسج حبكتها.
ويضيف كرم: «لم يكن التباهي موجوداً بين الناس في المجتمعات، بحيث كانوا إجمالاً يسافرون إلى الخارج ولا يدّعون الغنى، بل يعملون بما توافر لتأمين حياة نزيهة لعائلاتهم. ولم يتوانوا عن قبول أيّ نوع من العمل بغية تأمين الكساء والعلم والطعام... وأمّا الان، فقد يسافر الإنسان إلى بلاد الإغتراب ليعمل نادلاً أو موظفاً في محطّة بنزين، فقط ليدّعي أمام الناس في وطنه أنه مالك المطعم أو شريك في المحطّة. ورغم ذلك، يأبى الظهور على حقيقته في مجتمعه، ويعامل الجميع بإزدراء وتعالٍ، كونه أفضل من الجميع ويملك ما لا يملكونه، ويصرف ما لا يحلمون به».
كذبة أم تصوّر؟
أن نحاول الكذب على الآخرين، وأن نحاول الكذب على أنفسنا، أمران مختلفان كلّ الإختلاف. قد ينخدع البعض للوهلة الأولى بالمظاهر الغشاشة التي نحاول فرضها لنُعلي مكانتنا في المجتمع، ونحاول عبثاً الإنخراط مع مَن يفوقنا شأناً، وهذا ما يُعرف بـ«التفشيخ»أي التباهي. لكن أن يصل بنا الحدّ إلى تصديق ما نؤلّفه من «ترّهات»! فقد يصدّق الناس أحياناً كذبتهم الخاصّة لأنّ المجتمع الذي يتقبّل فكرة التباهي ويعتبرها مقبولة قد يدفع بالشخص الذي يحاول «التفشيخ» إلى محاولة الإندماج الفعليّ مع ما قد اخترعه من أقاصيص. إلاّ أنّ التباهي يصبح عيباً بحقّ النقص عندما تفسح كلّ المجتمعات في المجال لذلك، فتتهاون مع مَن يدّعي إمتلاك
مكان عمله مثلاً، لينجرف الراوي مع ما نسجه من خياله ويبني قصوراً من رمال. عندها، تبدأ عقدة تلاحق صاحبها ليجد نفسه معلّقاً بما قد ألّفه من علياء ومجد باطل، ليُصدم بعد أن يعود إلى واقعه المتواضع الذي يماثل في أحسن الأحوال وصفه لوضع الخدم والعمّال الخياليين في وهمه.
طبيعة الأشخاص المدّعين
تشير أبو سمرا إلى أنّ «الرجال يتباهون عموماً بنسبة أعلى كونهم يجنون المال وهم «أرباب العائلة». بينما تتباهى النساء بمعنى أن يطلبنَ ما لا يحتجنه حقاً، في الوقت الذي كان بالإمكان توفير كلّ هذا المال. فغالباً ما نرى رجالاً مع سيجار يقودون سيّارات فارهة ويرتدون بذلات ذات ماركات عالمية، ويتأبّطون أذرع سيّدات يلفّهن الذهب ويرتدين معاطف الفرو وأحذية التماسيح، ويصفّفنَ شعرهنّ يومياً عند المزيّن. بينما رجالهم في الحقيقة يعيشون في دوّامة كاذبة ويستدينون من هذا وذاك ويرهنون مقتنياتهم ويبيعون أملاكهم لمحاولة تسديد الفواتير! ذلك أنه لا يقبل الناس أبداً أن يكونوا دون المستوى المطلوب، لا بل يتباهون كونهم الأفضل في المجتمع، فلا يفوّتون مناسبة إجتماعيّة إلاّ يظهرون فيها، ولا يتأخرون عن سهرة أو سفرة أو مشروع مكلف، مهما كان الثمن! فالصورة الإجتماعية بنظرهم أهمّ من الواقع ومن توفير المال وإدّخار القرش الأبيض لليوم الأسود».
يبقى السبب أننا شعوب تحبّ المظاهر بطبعه وتعشق الظهور للعلن وتعيش على المديح وتفضّل الإدعاء والخيال وتعتقد أنّ المظهر يغلب الجوهر. فمعظم الناس قد يرضون العيش بتواضع داخل بيوتهم، مع المحافظة على مظاهر الرخاء والعزّ أمام الغير، فيما قلائل يكتفون بالعيش على قدر إمكاناتهم داخل المنزل وخارجه. وقد نرى شريحة من الناس يفضّلون إدّعاء الفقر تحاشياً للحسد وصيبة العين.
بالتقسيط المريح!
«ليزيد الطين بلّة»، كان ينقص الناس المدّعين فرصة ذهبيّة لا يفوّتونها، ألا وهي إمكانيّة تتيح لهم التباهي براحة ورفاهيّة. فقد تسنّت لهم أخيراً فرصة التقسيط، بحيث يتسنّى لهم اقتناء ما تشتهيه العين ولا يغطّيه الجيب. فقد حلّ «التقسيط المريح» في ربوع إقتصادنا ليُمسي ملتزماً بحياتنا اليومية. يؤكّد الدكتور كرم أنه «من غير الممكن أن يبدأ عروسان حياتهما معاً من دون اللجوء إلى التقسيط في أيامنا هذه، بسبب غلاء المعيشة وإزدياد الطلبات. فبينما يكون هذا الحلّ ملاذاً لمن هم حقاً في حاجة إليه للإنطلاق في حياة سعيدة ولوضع حجر الأساس، ينتهز البعض الآخر هذا الطريق كإمكانية ساذجة لشراء المزيد والتباهي أمام الناس، من دون أن يحسبوا خطّ الرجعة ويفكّروا في السندات الشهرية المتوجّبة عليهم!» ويبقى أنّ التقسيط ليس مجانياً. فالفائدة ليست بنسبة مئويّة فقط، بل لها عواقب وخيمة قد تصل إلى حدّ الحرمان من أساسيات الحياة.
عبرة لمَن اعتبر
قد يرى البعض في الإدعاء والتباهي إتخاذ أكثر من منزل أو سيّارة أو إنفاق مال لا يملكونه حقاً، أو حتى «مدّ الرجلين أبعد من البساط» وتخطّي الإمكانات المادية المتواضعة، لكن هذا يؤدّي إلى خسارات فادحة في العمل والمنزل وحتى على نطاق العلاقات والصداقات.
تقول أبو سمرا: «نحن نهتمّ بتطوّر الإنسان وتماشيه مع متطلّبات الحياة، بيد أننا لم نتوصّل بعد إلى دراسات معمّقة عن تأثير الحياة اليومية والعادات والتقاليد على نفسية المرء ومجرى حياته. إذ لم تحدث بعد مساءلة بين الحياة العادية والحياة المثالية. فالكلّ يريد أن يصبح كذا وكذا، وهذا أمر مثاليّ، لكننا لا نلتفت الى حياتنا العادية التي هي الأهمّ. ومهمّة علم الإجتماع هي إبقاء الناس ثابتين على الأرض. ومتى حصل ذلك، فسوف يفكّرون أكثر قبل الإقدام على مشاريع جديدة».
لا بدّ من أن يسقط القناع يوماً ما ليُفضح الممثل الفاشل ونتكشف كذبته. فمَن أنكر أصله لا أصل له ومَن إدّعى طبيعة مخالفة لطبيعته هو فاشل لا محالة.
إنّ مقولة «إصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب» لا تصحّ على الدوام، لذلك يجب أن يكون المصروف متوازناً مع المدخول، لا أن يفوقه.
يبقى الفقر الحقيقيّ هو نقص الثقافة والأخلاق وحسن التصرّف، لأنّ الفقر الماديّ قد يعوّض عنه، وأمّا الإفتقار إلى الرقيّ فأموال العالم لن تحجبه.
هناك مَن قال أنّه يلزم الفقير 20 سنة ليبين غناه، والغنيّ 20 سنة ليبين فقره، والمقصود بذلك أنّ من لا يستحقّ المال، ولو حصل عليه، سوف يظلّ فقيراً بنفسيّته، ومن خسر ماله لم يخسر رأسماله الحقيقيّ النابع من ذاته.
فلنحذر من المتطفّلين والمدّعين الذين يعيشون على دمار الغير، ولنحاول الإكتفاء بالقدر المكتوب لنا، مع العمل الدؤوب لإستحقاق مكانتنا عن جدارة.
يختم الدكتور كرم «إنّ إبتكار أكاذيب وإدعاء الغنى لن يوصلا صاحبهما إلى مكان، إذ إنّ المحيطين به قادرون على كشف أوراقه بكلّ سهولة من أوّل زلّة. ونرى ذلك بوضوح عند بعض الذين يغتنون فجأة، ويكونون من طينة سيئة، فتكون علامات المجد الباطل ظاهرة عليهم وواضحة وضوح الشمس، مع أنهم يملكون الإمكانات المادية، لكنهم يفتقرون إلى حسن التصرّف. فالإكثار من المجوهرات أو التحف أو السيارات والثياب ليس بمعيار للغنى ولا يحدّد المكانة الإجتماعية، وهذا أمر يجب أن يكون واضحاً للجميع».
القناعة كنز لا يفنى، ومَن رضي بما لديه تقدّم في الحياة وحقق المزيد من النجاحات والإزدهار.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024
شؤون الأسرة
اقتراحات تمييزية للتشويش على حق الأمهات اللبنانيات بإعطاء الجنسية لأطفالهن
شؤون الأسرة
عائلة حسام ورولا تنقل تفاصيل دقيقة عن الحياة في هولندا بكل صعوباتها وإيجابياتها
شؤون الأسرة