تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

فاطمة: زوجي تمسك بي وبناتي طبيبات وأحفادي يزورونني

هي كاتمة أسرار السجينات، ومُدرسة الإتيكيت في سجن النساء، نجحت خلال 25 سنة في تعليم مئات السجينات كل الفنون اليدوية والمهارات، وتحوّلت إلى أم لهن جميعاً. وتعرف فاطمة أنه ما زالت أمامها سنوات طويلة قبل الحصول على حريتها، ولكنها رفضت أن تُضيع لحظة واحدة، دون أن تستفيد منها، وتكتفي بابتسامة مختلطة بدمعة حارة عندما تودع كل سجينة وهي تغادر السجن!كانت بلا جدال المعلمة الأولى في السجن، كثيراً ما كانت تتلقى زيارات من زميلاتها السجينات السابقات اللواتي يأتين خصيصاً لرؤيتها بعد الإفراج عنهن، رغم أن النزيلة التي تغادر السجن، نادراً ما ترغب حتى في المرور بالشارع الذي يقع فيه سجن النساء، فالحرية هي الحلم الأغلى، ولكن الأثر الذي تركته فاطمة السجينة الأشهر في سجن النساء كان أكبر بكثير من آثار السجن المؤلمة! «لها» حاورتها داخل سجن النساء في القاهرة.


- كم سجينة استفادت من خبراتك خلال السنوات الماضية؟

تضحك السجينة الشهيرة (63 سنة) تقول: «خلال 25 سنة سجناً علّمت أكثر من 500 سجينة مهناً ومهارات مختلفة. صنعت منهن عاملات ماهرات، وبعضهن قد يصلحن ليلعبن دور سيدات المجتمع، علّمتهن كيف يمشين، وكيف يعشن بشكل راقٍ متحضر، ونجحت في مواجهة عشوائية كانت غالبة على معظمهن. أعرف أن السجن هو قدري، وقد أموت داخله، فلم يبقَ من العمر سنوات أكثر من السنوات التي أمضيتها، ومازالت فترة عقوبتي ممتدة 15 سنة أخرى. ولم أتخيل لحظة أنني سأتحول إلى المعلمة الأولى في سجن النساء، والآن تستعين بي إدارة السجن لمحاولة ترويض أي سجينة تخرج عن الأعراف، وأي سجينة مكتئبة، والحوار هو أسهل الطرق بيني وبينهن».
تواصل: «واجهت نوعيات مختلفة من السجينات: قاتلات، لصات، تاجرات مخدرات، نصابات، ومسجلات خطر، لكنني في النهاية أصبحت كاتمة أسرار الجميع».


مشكلات وحلول

كل سجينة عندها مشكلة تتجه إلى فاطمة لتشكو إليها تجاهل أسرتها، أو قسوة الحياة أو ضيق العيش، أو جحود الأبناء، أو مكر الزوج. وفاطمة كان عندها حلول لجميع هذه المشكلات، فهي لها الفضل في تعليم مئات السجينات فنون الكروشيه، وتصنيع السجاد اليدوي، وبعضهن أصبحن يتقاضين أكثر من 1000 جنيه شهرياً أجراً لأعمال يقمن بها داخل السجن. وبعضهن اتجهن إلى مصانع كبرى للصناعات اليدوية بعد خروجهن من السجن حيث استفدن من المهارات التي تعلمنها وراء القضبان.

- هل في السجن «مظاليم»؟
قالت بسرعة: «لا، المقولة التي تقول «ياما في الحبس مظاليم» ثبت كذبها، لأننا نصارح بعضنا، خاصة مع حلول الليل، وأثناء جلوسنا معاً تحكي كل واحدة قصتها. ومن الصعب أن تنجح سجينة في خداعنا، خاصة أننا لسنا جهة تحقيق، وبعض السجينات حاولن أن يدعين البراءة لكن باقي السجينات كشفن كذبهن. وكثيراً ما أطلب من السجينة التي تذرف الدموع وتدعي البراءة أن تحاول التكفير عن فعلتها من خلال عمل مفيد داخل السجن».

- وماذا عن فن الإتيكيت؟
تضحك فاطمة وتقول: الحياة وراء القضبان مملة، رتيبة، الساعات بطيئة، ولابد أن نقطعها في عمل مفيد حتى لا نصاب بالجنون. وبعض السجينات أصابهن الاكتئاب خلال الشهور الأولى من صدور الحكم بحبسهن، لكنني وزميلاتي نجحنا في إعادة تأهيلهن. وكثيراً ما كنت أنقل إليهن تجاربي الناجحة، وأعلمهن فنون الحديث الراقي، والأزياء حتى يصبحن مثل سيدات المجتمع، ووجدت منهن استجابة شديدة لما أفعله.

- ولماذا أطلقوا عليكِ كاتمة الأسرار؟
كل سجينة كانت تجد سعادة حينما تقص عليّ ما يجيش في صدرها وتستمع إلى نصائحي، والحمد لله كنت أحفظ أسرارهن، رغم أنها تحتوي على مفاجآت قد تحمل اعترافات مثيرة!

- وماذا عن أسرارك الشخصية؟
تطلق فاطمة تنهيدة طويلة وهي تسترجع ذكريات مؤلمة كادت تنساها، أو تتناساها مع مرور السنين، لأنها تحوّلت من حال إلى حال، وتقول: لا تنظر إلى حالي داخل جدران السجن. قبل سنوات كنت سيدة مجتمع راقٍ، ارتدي أفخر الملابس، استقل سيارات فارهة، عندي الكثير من السكرتارية، وامتلك شركة كبيرة، واسمي معروف في مجال البيزنس، ولم أتخيل أن يضيع كل هذا في لحظة. صدقوني لست مجرمة ولا استحق السجن، قد أكون أخطأت لكنني لم أتعمد هذا الخطأ.
تُكمل: كنت أتعامل مع الشركات والمصانع الحكومية في شراء الأجهزة الإلكترونية وطوال سنوات كنت مثالاً للالتزام، أسدد جميع ديوني لهذه الشركات، وحققت حجم أعمال مناسباً في السوق المصرية، وتعاملت مع العشرات من تجار الجملة والتجزئة.


الصفقة الكبرى!

تواصل كاتمة أسرار السجينات حكايتها قائلةً: «أصابني الطمع. جريت وراء المكسب السريع، قررت المطالبة بالمزيد من الأجهزة وتراكمت المديونية لدى المصانع الحكومية، وحررت شيكات باسمي، وظننت أنني سأربح الملايين من خلال عملية واحدة، واطلقت عليها اسم الصفقة الكبرى، ولكن للأسف تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!»
تصمت فاطمة لحظة وكأنها تسترجع ذكريات أليمة وتواصل: «خسرت كل شيء في لحظة. انهارت السوق، هرب أكثر من تاجر دون أن يُسدد لي ثمن البضاعة، وظللت أطاردهم بالأحكام القضائية والشيكات، لكن المصانع والشركات الحكومية لم ترحمني، فتراكمت ضدي الأحكام بالحبس لسنوات، واتهمتني النيابة بالاستيلاء على المال العام، وإصدار شيكات دون رصيد. وصدرت في حقي عدة أحكام بالحبس لسنوات طويلة، وفشلت في سداد مديونيتي لهذه الشركات، ووصلت إلى 40 مليون جنيه وهو مبلغ خيالي قبل 25 سنة.
كنت أعرف أن بيع الشقة التي نمتلكها في المهندسين وسيارتي ومقر شركتي لن ينقذني من السجن فاستسلمت للأمر الواقع!»

- وماذا عن أسرتك؟
زوجي موظف كبير يُراعي ظروفي جيداً، ورفض أن يطلقني أو يرتبط بسيدة أخرى، وهو يواظب على زيارتي حتى الآن. بناتي تخرجن من كلية الطب، وارتبطن برجال أعمال ناجحين، ولم يؤثر حبسي على هذه الزيجات، بل إن أزواج بناتي يواظبون على زيارتي بشكل منتظم.
أجد سعادة حينما التقي أحفادي أثناء زيارات أسرتي، وتدمع عيناي وأنا أتمنى أن تنتهي أيام السجن سريعاً حتى أعود الى حياتي الطبيعية!

- يقولون إنك تتحدثين بالفرنسية داخل السجن؟
نعم، وما المانع من ذلك؟ فأنا لا أتصنع هذه الأشياء لكنني أتعامل بطبيعتي.

- هل فرضتِ تعليمات داخل السجن؟
نعم، فهناك نظام أشبه بالحكم الذاتي، فمن تخطئ من السجينات نعاقبها جميعاًَ، نخاصمها، ونتجنبها لمدة ثلاثة أيام فتجد نفسها وحيدة وتسارع الى الاعتذار، وتتجنب ارتكاب بهذا الخطأ مرة أخرى. ومن الأشياء الجيدة التي نجحت في تعميمها داخل السجن الإقلاع عن التدخين أثناء العمل، وقد واجهت عقبات، ولكنني نجحت في النهاية في إقناع الجميع بالاستجابة لنصائحي.
أنهت فاطمة حوارها وتركناها وهي تجلس مع السجينات تعطي إليهن النصائح وتطرح عليهن خبراتها العميقة.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078