قصة غريبة
حكايتها أغرب من الخيال. ابتكرت وسيلة غير متوقعة حتى تُحافظ على شرفها، وتستطيع أن تعيش في عالم الشوارع الذي لا يعرف الرحمة، بعدما وجدت نفسها ضحية لأسرة مفككة. ولهذا اضطرت سوسن ابنة الثامنة عشرة أن تعيش خمس سنوات من عمرها وهي في ثوب الأولاد. والغريب أن الشك لم يتطرق إلى المحيطين بها. فعلت كل شيء يفعله الأولاد، دخنت السجائر، تحدثت بلغتهم ونبرات أصواتهم، ولكنها في النهاية ضاقت من هذا العالم، وقررت أن تعود إلى عالمها بعد خمس سنوات عاشتها سجينة ثوب «سامي» الفتى الشقي.
لم تتصور سوسن يوماً أنها ستلجأ إلى ما لجأت اليه قبل خمس سنوات عندما قررت أن تتخلى طواعية عن أنوثتها حتى تحمي نفسها. شرفها كان أهم عندها من أي شيء، فالموت أفضل كثيراً من أن تتخلى عن أغلى ما تمتلكه أي فتاة. عاشت سوسن خمس سنوات في تمثيلية كبرى، كانت أمام جميع أصدقائها وزملائها في دنيا الشوارع «سامي»، الولد الشقي المشاكس. ولكنها كانت تبكي بحرقة عندما تخلد إلى نفسها وتتذكر أنها أنثى، لها حقوقها وحياة تتمنى أن تعود إليها. تداعب سوسن صورها وهي في ملابس البنات قبل سنوات حينما كانت تعيش مع والديها، ولكن الآن الأمر تغير، لم يعد لها أحد، وعليها أن تخدم نفسها بنفسها لأنها اختارت عالم الشارع لتعمل في مهن غير ثابتة مثل بيع الورود، وتنظيم وقوف السيارات في المواقف العامة.
نجحت سوسن خلال رحلتها مع عالم الرجولة في أن تقنع الجميع بأنها ولد، لم يصدر عنها أي خطأ يكشف حيلتها، وكانت مفاجأة لكل المحيطين بها حينما قررت أن تترك شعرها ينمو من جديد، وخلعت القبعة التي كانت تعتمرها وعادت فتاة... انفجر العشرات من أصدقائها الشباب ضاحكين وهم يسخرون من أنفسهم، لأن الفتاة الشقية تمكنت من خداعهم طوال الوقت، لكنها قالت لهم:«أعذروني، لقد فعلت ذلك من أجل الحفاظ على شرفي».
الابنة الوحيدة!
كانت سوسن الابنة الوحيدة لأسرتها. الأب موظف كادح، يعمل ليلاً ونهاراً من أجل توفير مصاريف منزله، والأم موظفة تسعى لتوفير المزيد من الدخل حتى تعيش حياة أفضل.
لم تكن الأمور العائلية مستقرة بين الزوجين، بل شهدت سوسن منذ طفولتها مشاحنات مستمرة بين والديها، وتطاولاً، وسباباً، وعنفاً، تهديدات. حاولت أن تعزل نفسها عن هذه الظروف لكنها فشلت، ولم تستطع إكمال تعليمها، فتركت المدرسة. ضاع مستقبلها أمام أعين أمها ووالدها اللذين انشغلا بخلافاتهما وتركا ابنتهما في مهب الريح.
انتهت الحياة الزوجية النهاية المتوقعة، فالطلاق كان عنوان الفصل الأخير من المأساة. تاهت الفتاة ابنة الثالثة عشرة بين والديها، ولم تجد منهما أي اهتمام، فعاشت بضعة أشهر مع أمها لكن الأم قررت أن تتزوج ولم تتحمل سوسن أن تعيش مع زوج أمها القاسي.
حزمت حقائبها واتجهت إلى منزل والدها معتقدة أنه سيكون ملاذاً لها ويعوضها عن الأيام القاسية التي أمضتها مع زوج الأم. لكن هذا الباب كان أيضاً موصداً، فالأب تزوج، وعاش حياته الجديدة كما يريد. ضاقت الدنيا بها، لم تجد لنفسها أي مكان تذهب إليه، وأصبحت يتيمة رغم أن والديها على قيد الحياة. ظلت تسير في الشارع حتى أعياها السير، جلست على الرصيف وبدأت تفكر في مستقبلها والأيام المقبلة. بكت بحرقة، وفجأة وجدت نفسها أمام فتاة في سنها، سألتها عن حكايتها وفتحت سوسن قلبها وبدأت تسرد حكايتها المؤلمة.
ساعدتها فوزية في الحصول على عمل في محل زهور، وبدت السعادة على وجه سوسن وهي تعمل وتتقاضى أجراً: لكن المهمة لم تكن بالسهولة التي توقعتها، ولم تجد لها مكاناً تأوي إليها سوى غرفة متهالكة في حي شعبي، كانت أشبه بمن يعيش في الشارع. فضاقت سوسن بهذا الواقع. في أحد الأيام كانت على موعد مع مفاجأة شلت تفكيرها اذ شاهدت صديقتها فوزية وهي في حالة يُرثى لها، ملابسها ممزقة، الجروح تملأ جسدها، وبكلمات مقتضبة علمت سوسن أن صديقتها تعرضت للاغتصاب. أسقط في يد سوسن! قد يكون هذا المصير الذي تنتظره. فراحت تُفكر في حل تهرب به من مواجهة هذا المصير. وفي المساء هبطت على عقلها فكرة جهنمية، فاشترت شفرة حلاقة، وقصت شعرها واعتمرت قبعة وارتدت ملابس الأولاد، أطلقت على نفسها اسم سامي، وحسمت أمرها وقررت أن تطلق حياة البنات إلى الأبد.
حكاية خمس سنوات
عاشت سوسن في عالم الأولاد طوال خمس سنوات، وأخيراً قررت أن تتجه إلى إحدى جمعيات الرعاية الاجتماعية حينما بلغت الثامنة عشرة.
التقينا سوسن وبدأت تسرد ما حدث خلال السنوات الخمس الماضية، وقالت: «عشت خمس سنوات بين الأولاد، لم يشك فيّ أحد، كنت أقلدهم في معظم تصرفاتهم، لكنني لم أتعاط المخدرات مثل البعض بل دخنت السجائر فقط. وكنت أتشاجر وأضرب وتعلمت الدفاع عن النفس، والبحث عن حقوقي بكل السبل».
تُكمل: «اشتغلت في مهن عدة: بيع الزهور، مواقف السيارات وسوى ذلك من أعمال تحتاج إلى قوة ولا تصلح للبنات. ولم يشك أحد في أي لحظة أنني مخادعة. كنت أشعر بالحسرة حينما أشاهد الفتيات وهن يعانين في هذا العالم الذي لا يعرف الرحمة.
مرة واحدة فقط كادت أموري تنكشف حينما لم أغير نبرة صوتي، فنظر إليّ زميلي ماهر بشك. لكن من حسن حظي أن مشاجرة عنيفة نشبت في المنطقة التي كنا نجلس فيها، ونسي ما حدث والحمد لله إن المسألة مرت على خير.
كانت مهمة شديدة الصعوبة وأنا أمارس حياة الأولاد، وأتعلم طباعهم التي تختلف كلياً عن طباع البنات في كل شيء، وكذلك هواياتهم.
كنت أذهب أحياناً إلى منزل والدي، أراقبه من بعيد دون أن يشاهدني، ويتكرر الشيء نفسه مع أمي. أبكي وأنا أتذكر أنهما سبب ما حدث لي، وعلمت أن والدتي أنجبت، وكذلك زوجة والدي. فكل من والديّ أصبح له حياته الجديدة».
تختتم سوسن كلامها قائلةً: «أشعر بسعادة لأنني عدت إلى قواعدي، واسترددت صفتي الأساسية كأنثى، وأشعر بالغثيان حينما أسترجع الأيام التي مثلت فيها دور الولد، وقد يكون هذا هو أطول مسلسل في الدنيا لأنه استمر خمس سنوات كاملة، وقد مثلت فيه أطول دور لشخصية فتى... إلا أن للضرورة أحكاماً».
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024
شؤون الأسرة
اقتراحات تمييزية للتشويش على حق الأمهات اللبنانيات بإعطاء الجنسية لأطفالهن
شؤون الأسرة
عائلة حسام ورولا تنقل تفاصيل دقيقة عن الحياة في هولندا بكل صعوباتها وإيجابياتها
شؤون الأسرة