بلاغ مثير من أب
البلاغ كان شديد الإثارة: الأب يسطره بدموعه ويقف إلى جواره العديد من الشهود الذين يؤكدون صحة روايته: «ابنتي خطفها ساحر (مشعوذ) وتزوجها تحت تأثير السحر (الشعوذة) وهي لم تبلغ سن الرشد». والى جانب الأب وقفت طالبات معهد الخدمة الاجتماعية من زميلات ابنته أميرة ليؤكدن أنها الحقيقة! وحاول الجميع الوصول الى مكان الساحر لكن المهمة لم تكن سهلة، فقد هرب الساحر بعدما اكتشف الجميع مكانه واختفى مع الطالبة في مكان آخر مجهول وتوالت المفاجآت التي تحكيها سطور القضية التي تحقق فيها النيابة الآن.
كاد ضابط مباحث أسوان يصرخ في وجه الأستاذ مرتضى الموظف في إحدى المدارس وتهمته بالمبالغة أو التأليف. فلم يتخيل الضابط لحظة أن ما جاء في مضمون بلاغ مرتضى حقيقة يدعمها العديد من الشهود، فقد طلب الأب من الضابط أن يسمعه إلى النهاية، وأن يستمع إلى الشهود الذين يؤكدون روايته... وتمضي الدقائق ويتحول استنكار الضابط إلى دهشة، وخجل من اتهام الأب بعدم الصدق. فيما الأب كان يموت ألف مرة وابنته التي لم تتجاوز السابعة عشرة في قبضة ساحر عجوز.
أهم الشهود هي زوجة الساحر نفسها التي قلبت موازين البلاغ رأساً على عقب حين أكدت أن مرتضى صادق في كل كلمة نطقها واتهمت زوجها الساحر بخطف الطالبة، والتأثير فيها بالسحر مثلما فعل مع عشرات الفتيات.
الكابوس
قبل شهرين كانت الأمور تسير في منزل الأستاذ مرتضى بشكل طبيعي. أسرته مثل آلاف الأسر المصرية البسيطة تلتف حول مائدة الغداء بعد عودة الأب من عمله، والأبناء من مدارسهم. يتبادل أفراد الأسرة الضحك، فالقلوب صافية والمشكلات كلها محلولة بفضل حكمة الأب وتفاهمه مع أبنائه.
تدعو الأم الله أن تعمّر هذه السعادة طويلاً، فالأبناء متفوقون في دراستهم، مهذبون متدينون. وأميرة كان لها هدف واحد هو التخرج في كليتها بتقدير ممتاز لتصبح الأولى على دفعتها كما وعدت أسرتها، وكانت الفتاة تعرف مصلحتها جيداً، لأنها تعود من كليتها لتذاكر دروسها فوراً بعد أن تساعد أمها في بعض الأعمال المنزلية، ولم تتخيل الأم أن ابنتها أميرة ستصبح في يوم من الأيام مجرد ذكرى.
الكابوس الذي عاشته أسرة مرتضى بدأ في أول أيام الأسبوع حين اتجهت أميرة إلى كليتها كعادتها بعد أن تناولت طعام الفطور، وطبعت قبلة حانية على جبين والديها، وطلبت منها أمها ألا تتأخر عن موعد الغداء. نظرت أميرة الى ساعتها وأكدت لأمها أنها تأخرت كثيراً عن محاضرتها.
غادرت الابنة الكبرى المنزل، وتابعتها أمها بدعواتها غير مدركة أن ابنتها ستذهب بقدميها إلى المجهول... عقارب الساعة أعلنت الثالثة بعد الظهر. عاد الأب من عمله وعاد الأبناء من مدارسهم وبقي مقعد أميرة على المائدة شاغراً.
ظهر القلق على الوجوه، وكان الأب أكثرالجميع قلقاً، قلبه كان يحدثه أن مكروهاً لحق بابنته، لكن الأم كانت أكثر هدوءاً من الأب، فطلبت منه ألا يقلق. توقعت الأم أن تكون ابنتها قد انشغلت في بعض الزيارات لزميلاتها، ولكن هاتف الابنة كان مغلقاً منذ ساعات وبلا سبب.
كسا الليل المكان، وتحول قلق الأسرة إلى هلع، وتحركوا جميعاً إلى خارج المنزل بحثاً عن أميرة. فاتجه والدها إلى منازل صديقاتها، سألهن عنها لكنهن أكدن أنهن لم يشاهدنها في ذلك اليوم. وازدادت دهشة الأب لأن ابنته ذهبت إلى كليتها منذ الصباح، وهذا ما أكده له حارس الكلية للأب.
أدرك مرتضى أن هناك ما تخفيه زميلات أميرة لكنه لم يكن يمتلك أن يجبرهن على قول الصدق... مرت الأيام وتحول اختفاء أميرة إلى «لغز أميرة»، ومأساة تهدد كيان المنزل الهادئ المستقر الذي كان مفعماً بالفرحة قبل ساعات من اختفاء أميرة التي تحولت إلى ذكرى.
هكذا، ارتأى الأب اختراع حيلة جديدة بهدف الوصول إلى الحقيقة واختراق جدار السرية الذي فرضته زميلات أميرة خاصة عندما شعر بأنهن يخفين سراً ويخشين البوح به لسبب ما.
قرر الأب أن يرتدي نقاباً ويدخل الكلية ويجلس قرب زميلات ابنته... كان يدرك مدى خطورة ما يفعله لكنه لم يكن بيده شيء آخر، فهو مستعد لفعل أي شيء للوصول الى ابنته.
سمع مرتضى العديد من الأسرار واكتشف أن إحدى الفتيات في الجامعة تتاجر بالمخدرات. تابعها وتأكد من أنها تعرف بعض الأسرار عن حادث اختفاء ابنته، طلب أن يتحدث إليها خارج الكلية.
اندهشت الفتاة بشدة حين كشف مرتضى عن شخصيته. هددته بإبلاغ الشرطة لكنه هددها بدوره بفضح حكايتها مع تجارة المخدرات، وطلب منها أن تحكي له ما حدث لابنته. وصمتت الفتاة برهة وتلفتت حولها وكأنها تخشى المجهول، وهمست في أذن الأب وأخبرته بأنه قبل شهر بدأ يزور الكلية رجل عجوز تربطه صداقة بحارس المعهد. وقد أبدى العجوز إعجابه بأميرة وبدأ يتقرب منها، وسقطت أميرة في شباكه كالمسحورة، وتبين في ما بعد أن هذا العجوز هو أشهر ساحر في مدينة أسوان.
مكالمة مثيرة
عاد مرتضى إلى منزله والذهول لا يفارقه، لكن الأمل عاد إليه بعدما كاد اليأس يتسلل إلى قلبه، قرر السفر الى أسوان فوراً وصممت زوجته على اللحاق به ومعها بعض زميلات أميرة اللواتي تخلين عن خوفهن من الساحر الذي هدد الجميع بالانتقام إذا أفشوا سره.
وصلت «البعثة» إلى أسوان، لكن المهمة ظلت صعبة بل شبه مستحيلة، لأن البحث عن أميرة في محافظة شاسعة أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش. لكن مرتضى تلقى مكالمة على هاتفه المحمول من سيدة أخبرته بأنها زوجة ربيع الساحر العجوز الذي خطف أميرة. وفي كلمات موجزة أعطت الزوجة مرتضى عنوان الساحر.
لم يضع مرتضى وقته وأسرع مع زوجته وزميلات أميرة إلى منزل الساحر، طرق الباب وهاله ما رآه: الساحر العجوز كان يجلس على أريكة والى جانبه تجلس أميرة يبدو الذعر على وجهها وهي تلتصق به مثل الطفل الصغير الذي يلتصق بوالديه. لم يبدُ عليها أنها تعرف والديها، وحاول مرتضى أن ينتزع ابنته، لكن الساحر أخبره أنها زوجته. وبمساعدة بعض أعوانه تمكن من طرد زواره وأغلق الباب.
اتجه الأب على الفور إلى الشرطة وقدم بلاغاً لرئيس المباحث واستشهد بزميلات ابنته وزوجة الدجال التي أبدت استعدادها للحضور إلى قسم الشرطة وتقديم شهادتها، وأكدت للضابط هاتفياً أن زوجها العجوز يستخدم السحر السفلي في السيطرة على عقول الفتيات والتغرير بهن.
تحركت قوة من الشرطة إلى وكر الساحر العجوز ربيع، وكانت هناك مفاجأة قاسية في انتظار مرتضى وأسرة أميرة عندما وجدوا المنزل موصداً بالجنازير الحديدية من الخارج. وأكد جيران الساحر أنه غادر المكان مع أميرة قبل وصول الشرطة بفترة وجيزة، وانطلق إلى مكان مجهول.
ولم يدرالأب ماذا يفعل، وتحرك رئيس المباحث ونشر صور الدجال في كل مكان، وطالب بالقبض عليه فوراً واحيلت القضية على نيابة أسوان التي أمرت بضبط الساحر بسبب تغريره بفتاة قاصر.
ظل مرتضى وزوجته بعض الوقت في أسوان بحثاً عن أميرة، لكن مع مرور الأيام دون نتيجة أيقن أن ربيع هرب بأميرة إلى مكان مجهول، فعادت الأسرة إلى القاهرة دون فقد الأمل في التوصل الى مكان الابنة المخطوفة بالسحر الأسود.
رأي الدين
عن رأي الدين في قدرة السحر على سلب إرادة الإنسان يقول الدكتور عبد المعطي بيومي الأستاذ في جامعة الأزهر والعميد السابق لكلية أصول الدين: «السحر موجود وهناك تأثيرات كثيرة له لكنها لا تصل أبداً إلى إلغاء العقل وسلب الإرادة، خاصة إذا كان المقصود في عملية السحر إنساناً مؤمناً، فهنا لا يكون للسحر سلطان عليه. وكما قال الله تعالى: «وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ» (سورة البقرة آية ١٠٢)، لكن السحر يجد أرضية خصبة في الشخص البعيد عن الدين وتعاليمه. ومعظم من نسمع عنهم من السحرة الآن ليسوا سوى دجالين يحاولون التأثير نفسياً في ضحاياهم ويجدون لدى هؤلاء استعداداً لتصديقهم والتأثر بهم. وفي حالة هذه الفتاة لا بد أن تكون هي نفسها مستعدة للتأثر بهذا الدجال وما أغراها به لتترك أهلها وتتزوجه، وفي حكايتها درس للأهل مفاده أن يحافظوا على بناتهم أكثر ودرس للبنات أنفسهن ليتجنبن الاقتراب من السحرة والدجالين».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024
شؤون الأسرة
اقتراحات تمييزية للتشويش على حق الأمهات اللبنانيات بإعطاء الجنسية لأطفالهن
شؤون الأسرة
عائلة حسام ورولا تنقل تفاصيل دقيقة عن الحياة في هولندا بكل صعوباتها وإيجابياتها
شؤون الأسرة