تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

جدة تحت وطأة الكارثة

فجعت جدة عروس البحر الأحمر بزخات المطر في ٢٥ تشرين الثاني/نوفمبر الماضي تتحول الى سيل يجرف كل غالٍ من النفس، والجسد، وحتى الجماد حين استيقظت من نومها على عدد متزايد من الشهداء ما بين طفل، ورجل، وامرأة لتعلن عروس البحر الأحمر حدادها حتى لحظة كتابة هذا التحقيق. ما يقارب ١١٦ قتيلاً حتى الآن، و ٤٨ مفقودا، ومئات المتضررين وفق الحصيلة التقريبية لسيول جدة التي دخلت وسط المدينة مخلفة كل هذه الأضرار. والسبب متضارب ما بين لجنة وأخرى، إن كانت المسألة كارثة طبيعية شاءها القدر، أم أن سببها الإهمال في إكمال مشاريع شبكة الصرف، أم أنها مناطق عشوائية أعطت الجهات المختصة الترخيص ببنائها وهي تعلم تماما أنها مناطق مجرى السيول.

وفي النهاية تقف جدة تراقب كارثتها بعينيها ولسان حالها لا حول ولا قوة إلا بالله وأسكن الله الموتى فسيح الجنان. هذا من ناحية، لتضرب كفا على كف من ناحية أخرى أمام بحيرة المسك التي لم تنل من اسمها إلا السخرية عليها مع توقع انهيار سدها في أي لحظة ليكون الشمال منها قابعا في كارثة مرضية وبائية لا يعلم حجمها إلا الله. «لها» حاولت أن تجمع شتات الموضوع ما بين شهيد وغريق ومتضرر، وما بين فرق تطوعية هبت لنجدة أهالي مدينة جدة.

عناية الله أنقذتني من السيول الجارفة
أم محمد
فاجأها السيل لدى عودتها من زيارة والدها المريض الراقد في المستشفى العسكري. وكما جرت العادة تخرج أم محمد إلى زيارة والدها نهارا لتطمئن الى حاله، وتحادث الأطباء عن موعد خروجه، قبل ان تعود إلى منزلها الكائن في المنطقة المنكوبة.

وقد نجت بأعجوبة سمائية من موت لا فرار منه: «نجوت بأعجوبة بعدما جرفني السيل المفاجئ وأنا في طريق العودة إلى منزلي. فقد كنت في زيارة لوالدي في المستشفى العسكري الواقع على طريق مكة المكرمة السريع، وبعدما خرجت ووصلت إلى مشارف جدة وجدت أن السيارات على الخط لا تتحرك فاعتقدت أنها زحمة سير بسبب حادث ما وقع على الطريق، ولكن لم يكن في خاطري ما حدث أبداً».

أم محمد تعيش في المنطقة المنكوبة منذ مدة طويلة، وحصلت على ترخيص بناء بيتها الخاص بشكل نظامي: «الحديث عن العشوائية كلام لا صحة له، فقد حصل زوجي على كل التصاريح من الجهات المختصة عند بناء البيت، وهذه المنطقة قديمة جدا، بل ومن أقدم المعالم في جدة، وفيها كثافة سكانية عالية خصوصا أن جامعة الملك عبد العزيز موجودة فيها، ولكن ما حدث غريب جداً».

وعن الواقعة التي تعرضت لها أكملت حديثها واصفة كيف كانت مياه السيول تتلاعب بها وتتقاذف سيارتها من مكان إلى اخر... «كنت مع السائق حين قررت زيارة الوالد في المستشفى. وأحمد الله أنه لم يكن معي احد من أفراد أسرتي كما حدث مع بعض العائلات التي سمعت عنها عبر وسائل الإعلام. وما حدث كان أقرب الى الخيال، فلم يكن في بالي أبدا أن هناك سيولا. عادة ما تمطر في جدة ولم نواجه مثل هذه السيول في المنطقة، بل لم تتعد حفرة من الماء بين شارع وأخر، ولكن ما حصل كان فاجعة بكل معنى الكلمة».

أم محمد تذرف دموعا على ما حصل لها حين تذكرت خروجها من السيارة وتنقلها بين سيارة وأخرى حتى استطاع الدفاع المدني إنقاذها: «لا أزال أعيش هول الصدمة، وعندما أشاهد السماء ملبدة بالغيوم أشعر بخوف شديد لأني استرجع لحظاتي قبل إنقاذي... فاجأني السيل وجرفني بقوة على الطريق. كنت أشعر بالرعب داخل السيارة، ولا يوجد معي إلا الله. فما كان مني إلا أن رفعت العباءة التي أرتديها على خصري، مطالبة السائق بفتح الشبابيك لأستطيع الخروج من السيارة. كانت بجواري سيارة أخرى فخرجت من النافذة لألقي بحمل جسدي كله عليها، وبقيت جالسة على سطحها قرابة نصف ساعة والسيل يجرفني إلى المجهول، وحتى سائقي لا أعرف حتى اللحظة عنه أي شيء. ثم شاهدت سيارة الدفاع المدني ورحت استغيث وأصرخ لعل أحدا يسمعني. وبالفعل اقتربت مني قوارب الدفاع المدني لتنقذني في اللحظة التي كنت أرى فيها الموت يطوقني من كل حدب وصوب».

لا تزال أم محمد تحمل اثارا على جسدها، خصوصا أن عملية إنقاذها كانت بالأيدي، ولم تكن عن طريق الحبال، إضافة إلى أنه وأثناء خروجها تعرضت لأكثر من كدمة. ولكن ما تؤكده أم محمد أن ما خلفته الحادثة في نفسها كان أبلغ وأعمق من الآثار الجسدية.

فقدت  ذويها وبقيت وحيدة في بيت عمها
تناقلت قصتها وسائل الإعلام السعودية لأنها من أبرز حكايات الموت التي نتجت من السيول. أصيلة الفتاة التي لم تتجاوز الثانية عشرة لا تزال تنادي والديها وباقي أفراد عائلتها علهم يردون، ولكن الموت لا يعيد أحداً فقد ذهب الجميع دفعة واحدة في سيول جدة.

حكايتها رواها العم سعد الذيابي الذي لم يعرف أيبكي أخا له باغته الموت على حين غفلة، أم يبكي حال أصيلة التي لا تنفك تسأل عن والديها وأخوتها؟ قال: «أصيلة وشقيقتها كانتا لدي في المنزل قبل وقوع المصيبة، وكانت والدتهما على بابي تطلبهما للذهاب معها إلى البيت. إلا أن الفتاتين رفضتا تماما العودة مع والدتهما إلى منزلهما، فما كان مني إلا أني تدخلت لبقاء الشقيقتين. إلا أن قدرة الله كانت الأقوى حين أصرت الأم على عودة واحدة منهما معها إلى المنزل، وكان شقيقي ينتظر في الخارج. وقد أصرت أصيلة على البقاء لدينا وذهبت شقيقتها مع والدتها».

وأضاف العم الذيابي: «شقيقي كان منتدبا في موسم الحج، وبعدما انقضى الموسم ورجع الحجيج إلى ديارهم عاد هو إلى بيته الواقع في حي الحرازات، ليكون منزله مقبرته هو وكامل أسرته، وليقضي الله أمرا كان مفعولا حين باغتتهم السيول وجرفت الأب، الأم، والأبناء الخمسة، فيما بقيت أصيلة وحيدة في بيتي».

ويذكر أن من عثر على جثثهم هم الأب والأم وطفلان، فيما لا يزال ثلاثة من الأبناء في عداد المفقودين.

خرج من بيته فاقدا كل أوراقه الثبوتية
حكايات تخرج من مكنونات صمتها، وفواجع تتوالى يوما بعد يوم، ومصيبة حلت على محافظة جدة، وجراح لا تندمل. وحتى الأحياء ليسوا بأفضل حالا من الأموات، فهناك من فقد كل الأوراق والبطاقات العائلية في الأربعاء الحزين.

محمد الشيخ فقد كل شيء، ولكن الله سلم. هكذا كانت كلماته قائلاً: «كل شيء ذهب، المال، والبيت، والإثباتات الشخصية، ولكن لا أقول إلا الحمد الله الذي نجانا أنا وأهل بيتي من الموت، فحينما أسمع ما حل ببعض العائلات يبقى لساني لاهجا بالحمد الله أني لم أفقد احدا من أبنائي».

هذا لا يعني أن المصيبة لم تكن كبيرة ذلك أن محمد اليوم يعيش في شقة مفروشة أعطته إياها الدولة بناء على المكرمة الملكية التي تحاول أن تواسي كل صاحب ألم: «المشكلة اني لا أعرف كيف أستخرج الأوراق من صكوك منزل، وشهادات مدارس، وأوراق مهمة. أعمل على ترميم بيتي وتنظيفه لأن البيت تحول إلى قطعة خاوية من الروح ومن الأثاث. في المنطقة كثرت السرقات وأخذ البيوت بوضع اليد، ويوميا أذهب إلى البيت لأصلح ما يمكن إصلاحه».

فرق تطوعية شعبية شكلها أهالي جدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الوقت الذي تتسارع فيه خطى الموت يوما بعد يوم، يتجه عدد من سكان محافظة جدة وبمجهودات شخصية للعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتضميد جراح المصابين بكل ما يمكن من مساعدات تجعل وطأة المصيبة أخف.

هكذا انطلقت لجان وحملات إغاثية مكونة من فرق شبابية، وأخرى رسمية كتبت سطور مساعداتها على أكثر المواقع شعبية (الفيس بوك) معلنة فتح الباب لكل لمن لديه شعور بالمسؤولية، أو لديه إحساس بحجم الكارثة للدخول في هذه الحملات التطوعية.

ومن يقلب صفحات «الفيس بوك» لا بد أن يحظى بأكثر من حملة لمساعدة أهلي مدينة جدة المنكوبة. ولعل من أول المتطوعين خالد دهلوي الذي يعمل مع لجنة تتكون من ستة أفراد عملوا على تأسيس المجموعة المكونة من عشرات الشباب والفتيات. يقول: «منذ اليوم الأول لكارثة جدة قررت مساعدة المناطق المنكوبة لأهب بعد توقف المطر إلى المنطقة والوقوف على حجم الأضرار التي لا يمكن أن تصورها عدسة مصور مهما كانت براعته. وشكلنا فريقا يضم ستة أفراد مؤسسين هم فاتن بندقجي، رشا حفظي، الدكتورة نائلة عطار، لؤي مشيخ، وخالد دهلوي، فيما يصل عدد المتطوعين إلى أكثر من ٢٠٠٠ شاب وفتاة».

ويوضح دهلوي أن فرق المساعدة اتخذت من الغرفة التجارية مقرا لها خصوصا بعد أن كبر حجم العمل. ويضيف: «في اليوم الأول خرجنا في سيارتين تحملان ثمانية أشخاص نحاول الوقوف على حجم الضرر. ولأن عدد الحملات في تزايد قررنا العمل كجهة واحدة تحت راية الدكتور مازن بترجي رئيس الغرفة التجارية، وهذه الخطوة سهلت لنا عملية التنسيق بيننا وبين الجهات الحكومية خصوصا الدفاع المدني الذي فصل لنا المواقع المنكوبة وكيفية التوغل فيها».

وبحسب ما ذكره  الدهلوي فإن المساعدات التي يتم جمعها مساعدات عينية تنوعت ما بين الأطعمة، الأثاث المنزلي، الملابس، الأدوات المدرسية، الفرش والأغطية، الأواني المنزلية، الوجبات الخفيفة والتي يتم توزيعها على أطفال هذه المناطق خصوصا أن بعض  أهالي المنطقة أبى الخروج من منزله خشية تعرضه للسرقة.

وقسم المتضررين ثلاثة أقسام قائلاً: «هناك من الأهالي من فضل البقاء في منزله، ومنهم من عملت الدولة على اسكانه في شقق مفروشة، ومنهم من خرج ليقطن عند أحد ذويه أو أصدقائه. والفئة الأخيرة هي من لا يمكن التواصل مع افرادها بسبب عدم معرفتنا بأماكنهم، أما ما يخص الفئتين الأولى والثانية فنحن على تواصل معهم يوميا، لنوصل لهم ما يمكن أن يسد احتياجاتهم حتى تنقشع الأزمة بعون الله».

حملة «مواطنة» تعمل بإستراتيجية واضحة مقسمة إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى لتوزيع الوجبات الخفيفة على المناطق المنكوبة خصوصا للعائلات التي لديها عدد من الأطفال، المرحلة الثانية شفط وتنظيف المناطق المتضررة حتى لا تنتشر الأمراض الوبائية بسبب ما خلفته الأمطار من مستنقعات مائية وطينية خصوصا في ظل وجود بعض الجثث حتى اللحظة. وثالثا إعادة ترميم المنازل والشوارع المتضررة.

وثمة هيئات عدة تعمل من أهمها اللجنة الشعبية لإغاثة أهالي جدة، و لجنة أهلي جدة «تكافل» التي أطلقت حملة توزيع ٢٠ ألف سلة غذائية وتدشين خط ساخن لجمع التبرعات العينية للمتضررين من السيول.

وذكر نائب رئيس الغرفة التجارية المهندس مازن بترجي أن هناك تنسيقا بين غرفة جدة و ٩ من الجمعيات الخيرية هي جمعية البر، جمعية اكتفاء، جمعية حماية، الجمعية الفيصلية، الندوة العالمية لشباب العالم الإسلامي، جمعية الأمير ماجد، الجمعية النسائية الأولى، جمعية البيئة، ومراكز الأحياء.

خادم الحرمين الشريفين يوجه بصرف مليون ريال لكل أسرة لديها شهيد في سيول جدة
وجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لوزارة المالية بصرف مليون ريال لأسرة كل شهيد قضى غرقا في السيول التي اجتاحت جدة، إضافة إلى توجيهه بتشكيل لجنة للتحقيق وتقصي الحقائق في مسببات الفاجعة التي أسفرت عن أكثر من ١٠٠ شهيد. ويخول الأمر الملكي اللجنة حق استدعاء اي كان لطلب إفادته أو مساءلته. وقد أمر أيضا بإيواء جميع المتضررين من مواطنين ومقيميين  من باب أن الجميع أمانة في عنقه وفي ذمته.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079