تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

للمرة الأولى في ساحات القضاء

هذه المرأة تنتظر حلول السادس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر الجاري على أحر من الجمر، ففي هذا اليوم سيعلن مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة رأيه بتأييد حكم الإعدام، الذي أصدرته محكمة الجنايات بحق السفاح الذي اغتال حياة طفليها زياد وشهد. حكم الإعدام الذي أعدته محكمة شمال الجيزة، وقدمته الى المفتي صدر عقب المرافعة التي قامت بها والدة الطفلين نفسها ضد القاتل، وهي أصرت على القيام بهذه المهمة رغم تطوع العشرات من المحامين ليتصدوا لهذه المهمة.
كيف خاضت الأم المسكينة هذه المهمة المستحيلة؟ وكيف تعيش الآن في انتظار تأييد المفتي لحكم الإعدام؟

تفاصيل الجريمة أكثر من بشعة، شهدها أحد مساكن «حي الأهرام» في محافظة الجيزة عندما عثر والد الطفلين زياد وشهد عليهما جثتين هامدتين، وقد مُزقتا ببشاعة، وتبين أن القاتل الذي ظل لمدة يومين مجهولاً قد سدد لهما ٨٠ طعنة قاتلة.

ظل الغموض يحيط بالدافع الحقيقي للجريمة، وكشفت معاينة جهات التحقيق وأقوال والدي الطفلين أن كل شيء في الشقة كان مرتباً، ولم تمتد إليه يد العبث ولم تختف أشياء مهمة، خاصة النقود ومصوغات الأم. وأكدت المعلومات التي حصل عليها رجال الشرطة الذين انتشروا بكثافة وسط السكان وجيران الأسرة أن الوالدين يتمتعان بسمعة جيدة ولا خلافات لهما من أي نوع مع الآخرين، فالأب يمتلك ورشة لطلاء الأثاث الخشبي تقع في الشارع نفسه الذي يقع فيه مسكن الأسرة، أما الأم فهي محامية دمثة الخلق ومحبوبة، تخرج من بيتها يومياً في الصباح لتعود بعد الظهيرة.

وخلال يومين انحسرت شبهات رجال الأمن في شخص واحد، أكد أكثر من شاهد رؤيته يتسلل إلى المسكن، وشاهده آخرون وهو يغادر المنطقة مضطرباً.

لم يكن هذا الشخص سوى عشري نجل شقيقة والد الطفلين، وقد أقام مع الأسرة لفترة قصيرة علماً انه كان يعمل في ورشة خاله طوال السنوات الماضية قادماً من بلدته في صعيد مصر.

وتأكدت هذه الشبهات عندما ذكر والد الطفلين أن نجل شقيقته غادر الورشة تاركاً العمل ليكون الى جانب والده المريض، وأن هناك خلافاً بسيطاً حصل حول قيمة أجره لعمله معه. وقال والد الطفلين إنه فوجئ برؤية الجيران لنجل شقيقته يدخل المسكن، رغم أنه لم يخبره بقدومه ولم يره منذ انقطعت علاقته به.

كان ظنّ رجال الشرطة حول ارتكاب عشري للجريمة مؤكداً، رغم استبعاد الوالدين لهذه التهمة، فهو كان بمثابة الابن لهما وتوليا مساعدته في العمل والإقامة وسط طفليهما ليأكل ويشرب بل ينام بجوارهما طوال السنوات الماضية. وقد  كان تحرك رجال الشرطة سريعاً، وكلفوا زملاءهم في شرطة مدينة طهطا بمحافظة سوهاج في صعيد مصرـ حيث تقع بلدة عشري ـ التحرك إلى مسكنه والقبض عليه. وهو ما تم بالفعل، ووقتها انهار واعترف بجريمته البشعة. ولم تمض أكثر من ساعة على توقيفه حتى كانت التعليمات تصدر بنقله سريعاً إلى مقر التحقيقات في موقع الحادث في الجيزة.

بمجرد وصوله، كان في انتظاره فريق التحقيقات في النيابة العامة، وجرى الاستماع الى اعترافاته من جديد، ثم مثّل كيفية ارتكابه للجريمة في مكان ارتكابها نفسه. وفي نهاية التحقيقات كان قرار النائب العام بإحالة المتهم القاتل على محاكمة عاجلة أمام محكمة الجنايات.


الأم تتكلم

- «لها» التقت الأم صاحبة المأساة وسألناها: ما سبب تركك شقتك؟
أجابت: «تركت الشقة بعدما أصبح من المستحيل إقامتي فيها، فكلما دخلتها أسمع أصوات طفليّ داخلها ترن في أذنيّ بوضوح، وأجد نفسي أطوف في أرجائها بحثاً عنهما. فاضطر أشقائي لجمع ألعابهما وكذلك أثاث غرفة نومهما وتبرعوا بها لإحدى دور رعاية الأيتام.

- هل استفزك موقف أم القاتل حين كلفت محامياً الدفاع عن ابنها، وكذلك محاولتها التأثير في شقيقها للتنازل عن حق طفليه إنقاذاً لرأس ابنها من الإعدام؟
لا، رغم قسوة جرحي الذي ينزف فأنا أقدر موقفها كأم مثلي، وأشعر بالألم الذي يقطع قلبها على ابنها، ولكن الألم الذي يقطع قلبي أكبر بكثير... يبقى شيء واحد، فهي لن تستريح إلا عندما يخرج ابنها من السجن، وأنا لن أستريح إلا عندما أشاهد حبل المشنقة يلتف حول رقبته.

- لماذا قررت المرافعة ضد المتهم رغم تطوع العديد من زملائك المحامين، ومعظمهم مشهود له بالكفاءة، للترافع؟
هذا حق طفليّ ولن يأتي به غيري. أنا أكثر إنسانة قرأت أوراق القضية وأحفظها عن ظهر قلب.

- كيف أعددت ملف المرافعة؟
الأمر كان شاقاً وقاسياً أكثر مما يتخيله أي إنسان. كانت المشقة عندما لجأت إلى أمهات كتب القانون الجزائية، وراجعت مواد الاتهام في جرائم القتل وسبل الدفاع فيها، وكنت أسابق الزمن في قراءتها. أما القسوة فقد تبلورت حين كنت أضطر لقراءة اعترافات القاتل، وكانت هناك جملة محددة في هذه الاعترافات كلما قرأتها لا أدري بشيء سوى زوجي وأقاربي وهم يعالجونني لإعادة الوعي إلي. كانت سطور هذه الجملة من اعترافات قاتل طفليّ تقول: «ضربت الطفل زياد ضربات متتالية حتى سقط على الأرض غارقاً في دمائه، ولم أخطط لقتل شهد لأنها طفلة جميلة، وكنت أحبها بشدة، ولكن عندما صرخت أثناء جلوسها الى جهاز الكمبيوتر بمجرد رؤيتها لي أثناء طعني شقيقها زياد، أسرعت إليها وسددت لها الطعنات، ثم عدت إلى زياد ووجدت أن جسده ما زال يتحرك فسددت له طعنات أخرى حتى توقف جسده تماماً عن الحركة».

وتضيف الأم المسكينة: «كانت تشتد الصعوبة عندما اضطر أيضاً لمراجعة تقرير التشريح الذي أصدره الطبيب الشرعي لجثتي الطفلين. كانت تفاصيل التقرير عن حالة الجثتين تصيبني بالانهيار حتى إن شقيقي أخفى التقرير، ولكني أجبرته على إعادته ليكون ضمن أدوات دفاعي عن حق طفليّ، خاصة أن تفاصيل ما تعرض له طفلاي كانت بالنسبة إلي مثل صرخات من شهد وزياد تدوي في أذنيّ ألا أتراجع عن الدفاع عن حقهما حتى يصل قاتلهما إلى حبل المشنقة».

- أثناء المحاكمة حاول السفاح أن يفلت من الاتهام بمحاولة تلطيخ شرفك مدعياً أنك حاولت مراودته عن نفسه، فكيف كان وقع ذلك عليك؟
بالطبع كان له تأثيره السيئ عليّ كإنسانة، خاصة أن الأمر يتناول شرفي وعرضي، ولكنني بخبرتي كمحامية في ساحات المحاكم أدرك أن المتهمين عادة ما يلجأون إلى هذه الاتهامات الكاذبة لتضليل العدالة، وسرعان ما استعدت تماسكي خاصة أن صرخات طفليّ في أذني كانت تطالبني بأخذ حقهما والاقتصاص من قاتلهما.

- كيف تعيشين حياتك في الوقت الحالي؟
الحياة توقفت بالنسبة إلي يوم قتل طفليّ، لم يعد هناك طعم للأكل والشرب أو الحياة كلها. في كل يوم جمعة استيقظ في الصباح وأتوجه إلى المدفن في منطقة صحراء القطامية، أبكي أمامهما، ثم أقرأ القرآن لهما، وأشكو لهما ما حدث لي طوال الأسبوع، وما تكبدته من مشاعر حزن وإعياء دفاعاً عن حقهما، ثم أودعهما بقبلتين إحداهما لشهد والثانية لزياد، وبالمناسبة لقد سافرت لأداء العمرة عقب الجريمة ولولا  هذه العمرة ووجودي في المدينة ومكة كنت سأموت حزناً وكمداً. احتسبتهما هناك عند الله الذي ثبت إيماني وأهداني الصبر والقوة لكي أقف على قدميّ حتى أعيد اليهما حقهما.

- ما هو أصعب المواقف التي تعرضت لها؟
« كان ذلك في أول يوم لبدء العام الدراسي، فقد استيقظت في الصباح وشاهدت في الشوارع المحيطة بنا أطفال الجيران وهم يرتدون ملابس المدارس ويسيرون جماعات. وقتها شاهدت طفليَّ شهد وزياد يسيران مع هؤلاء الأطفال وابتسمت لهما وكأنهما كانا ينظران إلي فلوحت لهما بيدي، ولكنهما لم يبادلاني الإشارة. في تلك اللحظة أدركت المأساة واستيقظت من غفوتي وأوهامي، وتيقنت أن ما شعرت به لم يكن سوى حلم يقظة. في تلك اللحظة أيضاً دمعت عيناي عندما تذكرت ذهاب زياد للمرة الأولى في حياته إلى المدرسة العام الماضي، فذهبت إلى الشقة أبحث عن كتبه وأدواته المدرسية وصوره وألعابه، ولكن لم أجد شيئاً منها. لقد جمعها أشقائي وأخفوها من أمام عينيّ حتى لا أتحطم.

- أراك رغم صدور قرار إحالة أوراق قاتل طفليك على فضيلة المفتي في حركة دائبة وتعدين مذكرات قانونية جديدة؟
صدور حكم إعدام السفاح لا يكفيني ولن يشفي غليلي، إلا إذا كان تنفيذ حكم الإعدام في هذا السفاح الذي اغتال حياتي وسعادتي تنفيذاً علنياً أسوة بما حدث مع قاتلي المرحومة نانيس وطفليها في تلك الجريمة، التي ذهبوا ضحيتها قبل سنوات. وإذا لم يتيسر تنفيذ الحكم علانية فسوف أطالب بحقي في حضور تنفيذ الحكم حتى يتحقق القصاص من قاتل طفليّ أمام عيني فتهدأ نفسي!

إنكار
بدأت المحاكمة، ويبدو أن المجرم القاتل استشعر فداحة العقاب الذي سينزل به بعد اعترافه التفصيلي بجريمته، أو يبدو أنه تلقى نصائح من محاميه الذي كلفته أسرته الدفاع عنه، فعاد يتنكر لكل اعترافاته مدعياً أن الاعترافات التي أدلى بها كانت وليدة إكراه وقسوة تعرض لهما على يد الشرطة، خاصة أنها قبضت عليه قبل صدور إذن صريح من النيابة العامة. ولم يكتف القاتل بمحاولة تبرئة نفسه بإنكار اعترافاته السابقة والتراجع عنها، بل حاول الإيحاء بأن اتهام والدة الطفلين له سببه رفضه الانصياع لرغباتها عندما ادعى أنها كانت تراوده عن نفسه، وكانت محاولته الخسيسة لتلطيخ سمعة زوجة خاله سبباً لضجة في قاعة المحكمة حين اندفعت الأم المكلومة ـ والتي لم يكتف المجرم بذبح طفليها فحاول ذبح شرفها للتشكيك في إدانته ـ نحو القفص الحديدي الذي يقف داخله المجرم كالنمرة المفترسة تحاول اقتحامه والفتك به، ولم يبعدها سوى تصدي أفراد الحراسة واحتضان الزوج المسكين لها.

كانت جلسة المحاكمة «تاريخية»، فعندما نادى القاضي على المحامي الذي سيترافع ضد المتهم فوجئ الجميع بأم الطفلين أسماء تتقدم نحو المنصة وهي ترتدي ثوب المحاماة، وقد أمسكت ملف القضية الخاص بدفاعها. ورغم وجود عدد كبير من المحامين زملاء الأم الذين حضروا للتضامن معها، فقد أصرّت على المرافعة بنفسها، وقد ظهر هذا الإصرار عندما أشفق القاضي رئيس المحكمة عليها، وكرر سؤاله لها ثلاث مرات عما إذا كانت هي التي ستتولى المرافعة عن ولديها.

ورغم الحشد الذي كانت تكتظ به القاعة من الحاضرين سواء أقارب الطفلين أو أجهزة الإعلام، فقد ساد الصمت التام بمجرد أن بدأت السيدة أسماء عبد العال والدة الطفلين المرافعة والدفاع عن حق طفليها. وكانت بداية المرافعة تلك الجملة التي انسابت لها دموع الموجودين، وجعلت المجرم القاتل يتوارى في القفص وهو يخفي وجهه، اذ قالت: «إنني أقف هنا الآن للدفاع عن طفليّ، وأن الدماء تنفد والأوراق تفرغ، فطفلاي فتحا باب الموت لنفسيهما، ولم يعلما ما كان يخفي لهما الموت من خيانة وغدر ووحشية. وارتكب المتهم جريمته بالسكين نفسه، التي كنت أعد له بها الطعام طوال سنوات عاشها معنا في المنزل، ولم يراع الدماء المشتركة التي تجري في عروقه وعروق المجني عليهما وهما ابنا خاله، وارتكب جريمته البشعة لمجرد خلافات مادية بسيطة مع والدهما».

وأكملت الأم: «أطالب المحكمة ليس كمحامية، ولكن كأم فقدت طفليها في لحظة خيانة، بالقصاص العادل لدماء الطفلين وأن يعاقب هذا المتهم بأقصى عقوبة أقرها القانون وهي الإعدام».

وقبل أن تواصل المرافعة انهارت الأم المسكينة ثانية، وصدر الحكم الذي أعلنته هيئة المحكمة بعد انتهاء مرافعة الأم، عندما قررت المحكمة إعدامه وإحالة أوراقه على المفتي.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079