تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

في مدينة الضجيج الذي لا يتوقف...

عالم خاص من الصمت الذي يكسر حدة الضجيج في مدينة الضجيج دمشق، عالم البكم أو (الخرس) مساحته صغيرة في مقهى شهير لا تسمع فيه كلمة إلا نادراً... «مقهى الصامتين»، ظاهرة غريبة في مدينة لا تتوقف عن الكلام. ماذا لو فكرت في الجلوس في أحد المقاهي بالصدفة ثم اكتشفت أن الجالسين يعيشون في صمت مطبق، لا كلمة أو ضحكة، يطلبون المشروبات بإشارات من أيديهم ويقبعون في المقهى من الصباح وحتى المساء ولا يسمع لهم صوت، ولا يقطع هذا الصمت إلا أصوات الأكواب وصوت النادل. ففي أحد شوارع وسط دمشق مقهى يسمى (الازدهار) لكنه معروف لدى الجميع ب «قهوة الخرسان»، أي المقهى الخاص بمن فقدوا الكلام والسمع وأصبحوا صماً بكماً. وهو مقهى نظيف زُيِّن مدخله بألوان من الزهور والأشجار. ونجد الصم والبكم يتوافدون يومياً على هذا المقهى الذي يعني لهم الكثير، فهم يشكون همومهم لبعضهم ويتناقلون أخبارهم من خلاله، ويشاهدون التلفزيون (الصورة) بانتباه شديد أكثر من غيرهم.

من الطريف في هذا الجانب قصة الأصم خالد الذي لا يكل ولا يمل وهو يتنقل بين قنوات التلفزيون باحثاً عن أغنية الفنانة ناسي عجرم «أنا مابدي تقولي كلام...قولي بحبك»!! التي صورت بطريقة الفيديو كليب متناولةً لغة الإشارة كأساس للفكرة.

ومن خلال بعض الإشارات التي ترجمها لنا أحد الأصدقاء يقول خالد:
«أنا أحب  فتاة جميلة في الحي الذي اسكنه، وسيأتي اليوم الذي تحس بي حبيبتي كما أحست نانسي بذلك الشاب الأصم الأبكم في الأغنية وأحبته ودخلت عالمه».

 

مقهى الخرسان يزدهر يوم الاثنين، وكبيرهم يرأس الجلسة...
ولأنني أجهل لغة الإشارة توجهت الى السيد بلال المترجم المحلف للخرس وطلبت إليه أن يحدثني عن الخرس ولماذا يأتون الى هذا المقهى؟ ما هي أعدادهم؟ ماذا يعملون؟ كيف يمضون يومهم؟،  ماذا يشربون؟ وماذا يحدث اذا غضب أحدهم؟

 كل هذه الأسئلة أجاب عنها بلال قائلاً:
«المقهى مكانا لالتقاء الخرس بشكل يومي، ولكن يوم الاثنين يختلف بحيث يشهد تجمعاً كبيراً للخرس الذين يلتقون في المقهى منذ الصباح وحتى نهاية السهرة. وأما رواد المقهى من الخرس فهم يعملون بمهن مختلفة، منها الحلاقة الرجالية، ومنها الصباغة، ومنها الخياطة، وغيرها من المهن والصناعات».

وأضاف: «لتجمع الخرس في المقهى نظام محدد فمهما كان عددهم كثيراً أو قليلاً يرأسهم شخص كبير السن وهو أخرس مثلهم. أما أعمارهم فتتراوح ما بين 25 و 60 سنة. وعند حدوث مشاجرة بينهم يلجأون الى كبيرهم فيفض المنازعات فوراً ودون احتجاج من أحد. وإذا حدثت مشاجرة بين بعضهم وأشخاص عاديين فأنهم يتجمعون يداً واحدة».

وتابع بلال حديثه يقول:
«يمضي الأخرس يومه في المقهى بممارسة الألعاب المسلية وشرب المشروبات الساخنة والباردة ويلعبون الطاولة، وإذا شعر أحدهم بأن النادل  لا يعيره اهتماماً أو يعتبره أقل من الآخرين بمعنى أن يسخر منه فيتجه لصاحب المقهى شاكياً إليه فيهدئ صاحب المقهى الموقف وان لم يقتنع الأخرس فسوف يتجه إلى النادل ويعاقبه ولكن ليس بلسانه بل بكلتا يديه».

 

الخرسان يطلبون مشروباتهم بطريقتهم الخاصة...
ولكن كيف يستطيع النادل غير الأخرس والذي لا يفهم لغة الإشارة أن يتفاهم مع متطلبات الأخرس؟
«إذا أراد الأخرس أن يتناول كوباًً من الشاي فإنه يغلق كفه ويكورها ويجعلها في مستوى أفقي ثم يضرب بكفه المفتوحة فوقها، وإذا أراد أن يشرب الحلبة فإنه يلامس إبهامه بسبابته وكأنه يمسك حبة حلبة ويدوسها تحت أسنانه، وإذا كان السكر قليلاً فانه يضع إصبعه على لسانه طالبا السكر. ولو أراد أن يدخن النرجيلة فانه يشير إلى فمه ويشفط الهواء. وفي الأغلب لا يطلب الأخرس القهوة، أما إذا أراد أن يتناول الشاي مع الحليب فانه يقبض كفه ويفتحها أكثر من مرة وكأنه يحلب ضرع الماشية ».

ومقهى الخرس في دمشق لا يقصده الخرس السوريون فحسب بل يرتاده بعض الخرس العرب والأجانب خاصة في شهور الصيف والإجازة التي يكثر فيها السياح.

 

صاحب المقهى السيد أبو نعيم سألناه كيف ترى الخرس وهل أنت مرتاح معهم فأجاب:
«ورثت هذه القهوة عن والدي الذي كان أيضاً يحضن هؤلاء الخرس ويعاملهم بكل احترام لأكثر من ثلاثين عاماً. وأنا سعيد جداً بعملي ولا أمل من بقاء الخرس في مقهاي، فهم أكثر هدوءاً وأدباً ويدفعون بقشيشاً جيداً، فمنهم الأثرياء. وهم يتقبلون زيادة أسعار المشروبات بصدر رحب ولكن بعد أن أوضح لهم ذلك ».

ويقول بشير وهو احد العاملين في المقهى:
«لقد تعلمت لغة الصم والبكم بالممارسة. ما يهمني في الأساس هو تنفيذ طلبات زبائني دون ضجيج وهذا ما يحصل من دون إزعاج كبقية مقاهي الناس العاديين ».

ويشير بشير إلى أن هذا المقهى مكان للسمر والأنس وتصفية الخلافات وعودة الود بينهم بصمت من دون إزعاج  فلا تتعدى انفعالاتهم ما يظهر على وجوههم من تعابير.

حلاق الخرسان جميل: أجد صعوبة بالحلاقة لزبون غير أخرس...

سألنا الأخرس جميل عن وجوده في المقهى وماذا يعمل، فأجاب عن طريق المترجم بلال:
«عمري ٣٢ سنة، غير متزوج، أبحث عن بنت الحلال وأعمل في الحلاقة. أتردد على هذا المقهى منذ زمن طويل. فيه ألتقي كل الأصدقاء ونتناقش حول أوضاع العمل ونتسلى بلعب الطاولة».

سألناه من هم زبائنه في الحلاقة، وهل كلهم من الخرس، فأجاب:« أغلبهم خرس ونسبة ضئيلة جداً من العاديين وأجد صعوبة في حلاقة الزبون الأخرس ».
وقبل مغادرتنا المقهى كانت إحدى الفضائيات تعرض أغنية «أنا مابدي تقولي كلام»، لنانسي عجرم، وقد جلب انتباهنا إعادتها عدة مرات. وعند الاستفسار اخبرنا المترجم أنها ليست فضائية بل جهاز «دي في دي»، وان هذه الأغنية يعشقها كل الصم والبكم كون المطربة نانسي عجرم تعيش قصة حب في هذه الأغنية مع شاب أصم وأبكم. لكن الكثير من هؤلاء الخرس لديهم ملاحظاتهم على الأخطاء التي وقع فيها الشخص الذي مثل شخصية الأصم والأبكم من خلال الإشارات التي استعملها...

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078